القرى الحدوديّة تتحوّل إلى لافتات محلات في مناطق النزوح

“معرض عيتا الشعب”، “مكتبة ومطبعة الخيام”، “فرّوج بليدا”، “كافّيه عيتا”، “فلافل عيتا”، “معرض ميس الجبل للبياضات”، “إكسبرسّ العديسة”، “ملحمة العديسة”، وغيرها من أسماء محلّات متنوّعة وكثيرة تتكنّى بأسماء القرى الحدوديّة المدمّرة، بدأت تنتشر على متن “آرمات” (لافتات) في عديد من القرى الخلفيّة والمدن الجنوبيّة.
لم يستطع أبناء القرى الحدوديّة الذين نزحوا منذ أكثر من سنتين عن بلداتهم وقراهم، ترك تلك القرى هناك تعاني الدمار والنسيان. أبوا إلّا أن يصطحبوها معهم، لتكون حاضرة في يوميّاتهم وهويّاتهم المهنيّة، يعرّفون من خلالها انتمائهم لتلك البلدات وتمسّكهم بها. أسماء قرى كاملة انتقلت من أقصى الجنوب، لتمتدّ على مساحة البلدات المضيفة والمدن المجاورة، تحملها محالّ افتتحها أصحابها بعد أن اضطرّوا إلى مغادرة قراهم تحت وطأة الحرب وتعذّر العودة.
هي ليست أسماءً جاءت بالصدفة، ولا تحمل حتّى خيارات تجاريّة بحتة. إنّها حبل ذاكرة وحيد يسحبونه معهم من قراهم؛ محاولين بناءها في أمكنة أخرى، لعلّ الاسم يخفّف من ألم “الاقتلاع” القسريّ ويزرع بعض الاستقرار في حيواتهم المعلّقة.
تحت هذه اللافتات، تجد قصص عائلات فقدت أحبّتها وأرزاقها وبيوتها وذكرياتها، وحُرمت من العودة إلى منازلها، ليعيد أفرادها رسم هويّتهم في مشروع صغير يحمل اسم الضيعة ويطلّ على الجنوب.
أسماء قرى كاملة انتقلت من أقصى الجنوب، لتمتدّ على مساحة البلدات المضيفة والمدن المجاورة، تحملها محالّ افتتحها أصحابها بعد أن اضطرّوا إلى مغادرة قراهم
افتتاح لأجل العودة لا للبقاء
يستعيد إبراهيم طحيني، صاحب “معرض عيتا الشعب للألبسة والأحذية”، الأيّام الأولى حينما قرّر افتتاح فرعه الموقّت عند مفرق بلدة معركة– قضاء صور، بعد هدنة الأيّام الخمسة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023. خطوةٌ لم تخلُ من التحدّيات، كما يقول لـ “مناطق نت”، فقد عرّضته آنذاك للوم البعض، ممّن اعتبروا أنّ فتح محلّ جديد ربّما يعني فقدان الأمل من العودة.
لكنّ طحيني يوضح بلهجة حاسمة “افتتحنا لكي نعود وليس لنبقى، لن نترك أرضنا ولن نتخلّى عنها”.
يشير طحيني إلى أنّ “القرار لم يكن ترفًا ولا خيارًا اقتصاديًّا بحتًا، بل محاولة للصمود وتأمين المعيشة اليوميّة بعيدًا من انتظار كلّ أشكال التعويضات، لذا البحث عن الرزق اليوم في مكان النزوح ضرورة للاستمرار واستعداد للعودة”. أمّا عن تسمية معرضه الجديد، فيبتسم طحيني ويقول “اسم ‘عيتا الشعب‘ لا يمكن أن نخرج منه، هويّتنا معلّقة بها”.
متجر طحيني الأساس كان في عيتا الشعب يحمل اسم “نوفوتيه السعادة”، وعلى رغم دمار البلدة وعودة عدد قليل من العائلات إليها، أعاد طحيني افتتاح فرع للمحل بالاسم نفسه في البلدة قبل نحو شهر، ذلك ليس بهدف الربح بقدر ما هو فعل رمزي لغرس “بذرة البقاء” وتشجيع الناس على العودة وتيسير أمورهم.

الجنوبيّون عمومًا وأهالي عيتا الشعب بخاصّة، يحملون بلداتهم معهم أينما حلّوا “نرسم عيتا في بالنا أينما كنّا… نُشبّه التلّة بالتلّة والشارع بالشارع، ونتذكّر تفاصيلها كلّ يوم لتبقى راسخة في ذاكرتنا إلى أن نعود إليها”، يختم طحيني.
“كافيه عيتا” في طيردبا
على مقربة من أحد المقاهي الذي اتّخذ اسم “كافّيه عيتا” في بلدة طيردبّا (صور)، يجتمع يوميًّا شبّان من عيتا الشعب نزحوا إلى قضاء صور. هناك افتتح محمّد أحمد الزين مع والده متجرًا لبيع الخضار، اختارا له اسم “خضار وفواكه عيتا الشعب”.
الزين، الشاب العشرينيّ، يروي أنّه اشتغل في مجالات عدّة منذ نزوحه، قبل أن ينجح في افتتاح هذا المحلّ، بعدما انتقلت عائلته إلى دير قانون النهر (صور). يوضح أنّ أهل بلدته النازحين إلى المنطقة ساعدوه في العثور على محلّ بإيجار مقبول، ما أتاح له إطلاق مشروع صغير يوفّر له دخلًا ثابتًا، كي يغطّي مصاريفه بانتظار العودة إلى عيتا.
عن التسمية، يقول الزين لـ “مناطق نت”: “سمّيناه عيتا كي يبقى اسم قريتنا موجود أينما ذهبنا، فبالنسبة إلينا، الاسم هو استمرار للهويّة ومحاولة للحفاظ على رابط لا ينقطع مع البلدة”.
يومًا بعد يوم، تحوّل متجر الزين الصغير و”الكافّيه” القريبة منه، إلى مساحة لقاء تجمع بين أبناء عيتا المنتشرين في محيط بلدة طيردبّا، وهذا ما يمنحهم شعورًا بأنّ البلدة لا تزال قريبة، حتّى لو كانت العودة معلّقة.

الخيام صمود الاسم والذاكرة
من بين القصص التي تعكس التمسّك العميق بالهويّة، تقول زهراء، زوجة صاحب “مكتبة ومطبعة الخيام”، أنّهما احتفظا بالاسم القديم للمكتبة مثلما كان في الخيام قبل الحرب، على رغم انتقالهما جغرافيًّا إلى تول في قضاء النبطية. تتابع لـ “مناطق نت”: “نحن متمسّكون باسم بلدتنا في انتظار العودة المحتومة”.
تشير زهراء إلى أنّه “على الرغم من أنّ قسمًا لا بأس به من أهالي الخيام عادوا إلى المدينة، إلّا أنّ الوضع فيها لا يسمح حاليًّا بعودة افتتاح المكتبة، بسبب محدوديّة الطلب، وهذا ما دفعنا إلى البقاء في تول هذا العام”. لكنها تؤكّد أنّ “هذا الابتعاد القسريّ لم يُضعف ارتباطنا بالخيام”.
تتحدّث زهراء عن علاقتها وزوجها وعائلتها بأبناء تول، سواء من أبناء المنطقة أو النازحين من مناطق أخرى، فتقول: “يحيطوننا بالدعم والتضامن، يتعاطفون معنا، والنازحون يستمدّون القوّة من صمودنا”.
وعن تمسّكهم باسم مدينتهم، تشير زهراء إلى أنّ ذلك أكثر من عنوان، بل مصدر قوّة ودافع نفسيّ “الاسم يمنحنا القوّة، ويعطينا أملًا أقوى بالعودة، هويّتنا وكرامتنا مرتبطان باسم الخيام”.

تعبّر زهراء عن أنّ هذا التمسّك لا يخلو من مشاعر الفقد والحنين “نضعف حين نشتاق إلى الخيام، لكنّ بقاءنا وافتتاح مكتبة باسم بلدتنا، هو فعل صمود، نحن نبني أنفسنا كي نعود أقوى”.
ترحال الأمكنة والاسم “عديسة”
من بين الأمثلة التي تجسّد يوميّات النزوح وتبدّل الخرائط، قصّة محمّد محمود صوفان، صاحب “إكسبرسّ العديسة”، الذي اعتاد قبل الحرب أن يجول يوميًّا بين بلدته عديسة ومنطقة الخردلي. لكن بعد الدمار الذي لحق بالبلدة وتهجير أهلها، تغيّر مسار عمله، وبات يقصد الخردلي صباحًا، ثمّ ينتقل بعد الظهر إلى كفرجوز حيث يقيم حاليًّا.
يقول صوفان إنّه حاول في البداية أن يجد مكانًا لركن سيارة الإكسبرسّ في النبطية الفوقا، لكنّ البلدية رفضت منحه ترخيصًا لأنّ “الأولويّة لأبناء النبطية”، كما “قيل لي”، ولأنّ المنطقة مزدحمة بعربات الإكسبرسّ.
يصف صوفان الفرق الكبير في طريقة استقبال الناس له بين المنطقتين. ففي الخردلي، كما يقول: “يرحبّون بي، يقولون لي: أهلًا بابن العديسة”، في إشارة إلى تضامن حقيقيّ يلمسه في كلامهم وتعاملهم معه. أمّا في النبطية، “فقد سمعت مرارًا عبارات قاسية جعلتني أشعر بثقل النزوح”.
هذه الأسماء ليست عناوين تجاريّة، بل هويّة كاملة تقاوم الحرب ومسافات النزوح
هكذا يتحوّل عمل صوفان اليوميّ إلى رحلة بين أماكن مختلفة، يحاول فيها الحفاظ على رزقه وعلى اسم بلدته في آنٍ معًا، متنقّلًا بين مَن يفتح له مساحة للوقوف، ومن يذكّره بأنّ النازحين مُحمّلون بأكثر من فقدان البيت، محمّلون أيضًا بعبء النظرة تجاههم.
ميس الجبل تجارة تنهض من جديد
في بلدة أنصار، افتتح محمّد حمدان معرضًا للأدوات المنزليّة يحمل اسم “معرض ميس الجبل للبياضات”، في استمرار واضح لارتباطه بهويّته وبمسقط رأسه. يروي حمدان أنّه قبل الحرب، كان يملك، هو وأولاده، سلسلة مصالح مختلفة، من محلّات للمواد الغذائيّة بالجملة، إلى مخبز ومعارض للأدوات المنزليّة، لكن جميعها ضاعت في دوّامة الحرب والنزوح.
بعد انتقال العائلة إلى أنصار، افتتحت أوّل معرض هناك، لكنّه لم يصمد طويلًا، إذ تعرّض للتدمير خلال “حرب الـ 66 يومًا”. ومع وقف إطلاق النار، لم يتردّد حمدان في العودة إلى أنصار وفتح متجر آخر من جديد، مؤكدًا أنّ “الاسم لم يكن خيارًا تقليديًّا بل فعل انتماء. أسميناه معرض ميس الجبل لأنّنا بطبيعتنا متجذّرون ببلدتنا، هناك مسقط الرأس، وهنا نعمل كي نبقى واقفين”.

يتابع حمدان لـ “مناطق نت”: “العائلة اليوم تعيش من هذه المصلحة، على رغم أنّها ليست بقوّة أعمالنا السابقة، لكنّ الهدف الأساس هو الاستمرار في العمل والاكتفاء. كلّ مرّة نبدأ من جديد. لا نريد الاعتماد على أحد، خصوصًا أنّنا لم نتلقَّ تعويضًا عن خساراتنا في الحروب المتتالية”.
وعن المجتمع المضيف والعلاقة بين المناطق، يؤكّد حمدان أنّ “اللبنانيين جسم واحد وبلد واحد، لكنّ التمسّك باسم ميس الجبل هو تمسّك بالهويّة وبحقّ العودة. نحمل بلداتنا في قلوبنا، لا نُفرّق بين منطقة وأخرى، لكنّ حنيننا واستقرارنا الحقيقيّين هناك، في ميس الجبل”، يختم حمدان.
الأسماء كخرائط للعودة
هذه الشهادات ليست مجرّد قصص فرديّة، بل خريطة كاملة من الوجوه والأسماء التي تُعيد رسم الجنوب في جغرافيا جديدة. تحوّلت اللافتات إلى صورة رمزيّة من التهجير القسريّ؛ خلف كلّ لافتة تحمل اسم قرية حدوديّة، أو حتّى “إكسبرسّ” متنقّل، هناك عائلات تصنع من الضعف قوّة، وتختزن ذاكرة تعاند النسيان، وتتمسّك بأمل معلّق على باب رزق صغير يشبه نافذة تُطلّ على البيت والبلدة التي نزحوا منها.
هذه الأسماء ليست عناوين تجاريّة، بل هويّة كاملة تقاوم الحرب ومسافات النزوح. هي وعد بالرجوع… ووعد بالحياة لِلبنانيّين أُبعدوا عن بيوتهم وقراهم، لكنّهم لم ينسوها يومًا.



