القلق يُثقل كاهل المغتربين والقلب في لبنان

لم ترحم الحرب المندلعة منذ سنة ونحو شهرين إنسانًا أو حجرًا، بل امتدّ تأثيرها ليطال المغتربين اللبنانيّين المنتشرين في جميع أصقاع العالم، مضيفًا إلى غربتهم شعورًا بالقلق والحزن. زاد خوفهم على عائلاتهم بسبب القصف المتواصل والجرائم الإسرائيليّة في كلّ مكان وأوان، وسط غياب الخدمات الأساسيّة وتدهور الأوضاع الأمنيّة والاقتصاديّة.

وعلى الرغم من بُعدهم الجغرافيّ، يعيش المغتربون تحدّيات عاطفيّة وكأنّهم في قلب الحدث؛ إذ تتعمّق مشاعر الحنين إلى بلدهم، وتدفعهم للبحث عن سبل لمساندة أحبائهم والتضامن معهم بشتّى الطرق.

تتجلّى معاناة المغتربين في أماكن تواجدهم من خلال كلّ التفاصيل، يفاقمها بُعد المسافة وجهل البيئة التي يعيشون فيها أوضاع بلدهم والظروف التي يمرّ بها، الأمر الذي يؤدّي إلى انقلاب حياتهم رأسًا على عقب كما تقول ملاك حمّود التي تتحدّر من بلدة كفرملكي في إقليم التفّاح، والمقيمة في زوريخ- سويسرا: “قلوبنا وعقولنا مع لبنان، نتابع الأخبار ونتنقّل بين مجموعات الأخبار العاجلة، نترقّب كلّ حدث، نخاف على أهلنا، أرزاقنا وبلدنا”.

تضيف ملاك لـ “مناطق نت”: “تدور معظم الأوقات التي نمضيها في مغتربنا حول الحرب، يتّصل زوجي ليخبرني عن مجزرة جديدة حصلت، أو ليقول لي استشهد فلان أو ابن فلان، أو قُصف هذا المبنى في ذلك الحيّ، وحتّى عندما نلتقي بأصدقائنا في المقهى نحلّل التطوّرات ونناقش الحلول المتوقّعة، لكن في الحقيقة نحن نُلهي أنفسنا كي نخفّف التوتّر المتراكم في دواخلنا.”

المغتربون اللبنانيون بين القلق والحزن ومتابعة الحرب عن بُعد (الصورة من موقع اللبنانية)
قلق متنقّل يلفُّ العالم

على عكس ملاك اعتكفت منتهى غندور من النبطية الفوقا وتعيش في أوتاوا كندا عن الخروج من المنزل، تقول لـ “مناطق نت”: “أقضي وقتي في متابعة المستجدّات، وعند أيّ خبر أتّصل بأهلي وأحاول الاطمئنان عليهم، لأنّهم رفضوا الخروج من البلدة، أتمنّى أن أجد خبرًا إيجابيًّا، لكنّ الحرب تبتلع كلّ شيء جميل”.

مع مرور الوقت، ومع استمرار تدفّق الأخبار المؤلمة، يصبح التواصل عبر وسائل التواصل هو الحلّ الأساس أمام المغتربين للاطمئنان على أسرهم. هذا ما يوضحه أبو علي نمر المتحدّر من زوطر الشرقيّة في قضاء النبطية، المقيم في دوسلدورف- ألمانيا، والذي سيطر عليه هاجس الأخبار السلبيّة، واصفًا معاناته لـ “مناطق نت” قائلًا: “لا استطيع النوم جيّدًا، أتفقّد هاتفي ومع كلّ رسالة أتساءل هل أصابهم مكروه؟”.

التناقض الذي يعيشه المغتربون بين واقعهم الذي يسوده الهدوء والطمأنينة، والوطن المشرّع على الموت والدمار، يضع تامر حمدان المهندس الميكانيكيّ، وهو من كفرملكي ومقيم في زوريخ_ سويسرا في حال ارتباك، يقول لـ “مناطق نت”: “أشعر بالعجز، ليس فقط لبُعدي عن أهلي في لبنان، بل أيضًا لعدم معرفة زملائي في العمل بما يحصل في بلدي وما الذي نمرّ به” يضيف تامر: “كلّما رأيتهم يفرحون أو يحتفلون، يعتصرني الألم؛ الحياة تبدو ظالمة عندما تكون بعيدًا من أحبابك وتفتقد الدعم والتعاطف ممّن حولك.”

معاناة مضاعفة

أمّا رائد (اسم مستعار)، المقيم في دبيّ ويتحدّر من صير الغربية (النبطية)، فإنّه يواجه تحدّيًا مماثلًا من خلال شعوره بالعجز عن المساعدة في ظلّ هذه الظروف الصعبة. يقول رائد لـ “مناطق نت”: “أتواصل مع أهلي في لبنان خلال استراحة الغذاء، ولكن لا يوجد اعتبار للأعباء النفسيّة التي تقع على عاتق الموظّف اللبنانيّ، بل أحاول إنجاز المطلوب منّي، على الرغم من فقدان طاقتي إلى العمل.”

تتجلّى معاناة المغتربين في أماكن تواجدهم من خلال كلّ التفاصيل، يفاقمها بُعد المسافة وجهل البيئة التي يعيشون فيها أوضاع بلدهم والظروف التي يمرّ بها، الأمر الذي يؤدّي إلى انقلاب حياتهم رأسًا على عقب

ما تحمّله رائد من تزايد الضغط النفسيّ، لم يستطع فضل حلّال المتحدّر من بلدة الكفور قرب النبطية والمقيم في فرانكفورت- ألمانيا تحمّله، فوصل إلى مرحلة نفسيّة حرجة، جعلته يتّخذ قرارًا صعبًا بترك عمله في المطعم. يقول فضل لـ “مناطق نت”: “لم أعد قادرًا على التركيز أو الاستمرار في حياتي المهنيّة بشكل طبيعيّ، وأشعر أنّني محطّم من الداخل. أتمنّى لو أستطيع العودة إلى لبنان، لكنّ أمي ترفض وتقول لي: بغضب عليك إذا نزلت”.

يعيش معظم المغتربين صراعًا داخليًّا لأنّهم يجدون أنفسهم في مواجهة بين الواجب تجاه عائلاتهم وبين أعمالهم. هذا ما دفع كمال الشرقاويّ المتحدّر من بلدة ارزاي (صور) ويعيش في باريس للتخلّي عن عمله كمعلّم في إحدى الثانويّات بهدف البقاء مع أسرته في لبنان. يقول لـ “مناطق نت”: “لا أستطيع تركهم في هذه الظروف مهما كلّفني الأمر، زوجتي ترفض الذهاب إلى باريس لأنّها لا تريد ترك والديها المسنّين”.

شعور بالذنب

من ناحية أخرى، وجدت هبة حمّود التي تتحدّر من بلدة شحيم في إقليم الخرّوب نفسها أسيرة الحزن بعد عودتها إلى مارسيليا في فرنسا، حيث يزداد شعورها بالذنب كلّما تحدّث أطفالها عن الأماكن التي زاروها في لبنان خلال الصيف والتي أضحت اليوم مدمّرة. تقول هبة لـ “مناطق نت”: “عندما نتّصل بأهلي في لبنان، يتجنّب أولادي الحديث عن حياتهم اليوميّة هنا، وكأنّهم ناضجون بما يكفي ليشاركوني شعوري بالذنب لأنّ حياتنا تسير بشكل طبيعيّ، بينما يعاني أهلي من غياب الأساسيّات كالكهرباء والماء والإنترنت، وكثير منهم يضطرّ إلى العيش في بيوت غير مفروشة، وضعوا فيها أثاثًا بسيطًا لتجاوز هذه الفترة الصعبة.”

يعيش الحاج محمّد حمدان الذي يتحدّر من بلدة كفرملكي ويقطن في مدينة ليواردن بهولندا، وجعًا عميقًا على رغم المسافات، يظلّ قلبه معلّقًا بأهله في لبنان، يشعر بمرارة عجزه عن مساعدتهم وهم يعيشون في ظروف قاسية. يقول الحاج محمّد لـ “مناطق نت”: “حرقة في قلبي، لأنّ أهلي يعيشون تحت ضغوط لم يعتادوا عليها. كبروا في العمر، وأصبح من الصعب عليهم التأقلم مع التغيّرات السريعة والمفاجئة، خصوصًا بعدما اضطرّوا إلى مغادرة منزلهم. كيف لي أن أرتاح هنا، وأهلي هناك يكافحون كي يعيشوا يومًا بعد يوم في بيوت ليست لهم، في مناطق بعيدة من كلّ ما يعرفونه؟”.

ويتابع قائلًا: “جئنا إلى الغربة لأجلهم، لنقدّم لهم حياة أفضل، ولكنّ اليوم تبدّل الوضع، فأصبحنا نحن في غربة نعيش حياةً أفضل منهم، وهذا الشعور بالذنب يكاد يحطّمني. القلق لا يتوقّف عند اللحظة الحاليّة؛ أفكّر أيضًا في ما سيحدث بعد انتهاء الحرب: إلى أين سيعودون؟ فالبيوت إمّا مدمّرة أو مهجورة، مشرّعة على الأمطار والبرد والحيوانات. لا أدري كيف سيكون مستقبلهم!.”

لبنانيّو المهجر يواجهون قلقًا متنقّلًا يلفّ العالم
وجع لا يُشفى

تعبّر ماريون زهّار من صيدا والمقيمة في تورونتو كندا عن إحساسها العميق بأنّها ليست قادرة على تحمّل المسؤوليّة كما كانت تأمل، وأنّ في داخلها وجعًا لا يشفى، وحلمًا بأمان لأهلها لم يتحقّق بعد، تقول لـ “مناطق نت: “أحاول أن أكون قويّة أمام أطفالي وأشعر بالمرارة عندما يتحدّثون عن لبنان وكأنّه مكان خطر ومؤلم بسبب الصور المأسويّة التي يشاهدونها من خلال الأخبّار المتلفزة”.

وعلى الرغم من صعوبة هذه اللحظات، فإنّ عديدًا من المغتربين لا يكتفون بالصمت أمام ما يحدث في وطنهم بل يسعون إلى تعزيز الوعي الدوليّ بالإجرام الإسرائيليّ تجاه غزّة ولبنان، كما يفعل فارس ابن بلدة زوطر الشرقيّة والمقيم في لندن، بريطانيا، من خلال مشاركته في معظم المظاهرات الاحتجاجيّة. يقول: “إذا لم نتحرّك، فمن سيتحدّث باسمنا؟”.

في السياق نفسه، تنخرط سميّة (اسم مستعار) وهي من بلدة المطريّة (صيدا) وتقيم في اسطنبول- تركيّا، في جميع المظاهرات المناهضة لإسرائيل، تقول لـ “مناطق نت”: “المشاركة في المظاهرات تخفّف عنّي قليلًا، وتمنحني شعورًا بأنّني أساهم في شيء ما من أجل أهلي في لبنان”. هذا الوعي والتضامن ينعكس أيضًا من خلال منصّات المغتربين على وسائل التواصل الاجتماعيّ للتوعية وحشد الدعم للبنان، ولكنّهم على حدّ تعبير فدوى حمّود من كفرملكي، التي تملك وزوجها مطعمًا لبنانيًّا في برلين: “هناك بعض الشامتين في مأساة أهلنا في لبنان، وهناك كثير من الاستفزازات التي نواجهها على وسائل التواصل الاجتماعيّ، لكنّنا نحاول تجنّبهم.”

إحساس بالعجز

توضح الأختصاصيّة النفسيّة آمنة شبّو أنّ تأثيرات نفسيّة للحرب تطال المغتربين بدرجات متفاوتة، اعتمادًا على طبيعة الأفراد وشخصيّاتهم. تشرح لـ “مناطق نت”: “أنّ الأشخاص العقلانيّين يميلون إلى التعامل مع الوضع بطريقة عمليّة، فيسعون إلى التركيز على سبل المساعدة الممكنة. في المقابل، قد يكون الأشخاص الأكثر عاطفيّة عرضة لمشاعر القلق والتوتر واضطرابات النوم، إضافة إلى الإحساس بالعجز والذنب نتيجة ابتعادهم عن عائلاتهم وعدم قدرتهم على تقديم الدعم المباشر”.

لتخفيف هذه الضغوط، تقدّم شبّو بعض النصائح التي تبدأ “بتقبّل مشاعر القلق والتوتّر كاستجابة طبيعيّة للأوضاع الصعبة”. وتنصح “بالحفاظ على الروتين اليوميّ والمواظبة على الذهاب إلى العمل، بالإضافة إلى تجنّب متابعة الأخبار واستخدام الهاتف قبل النوم، لتحسين جودة النوم”.

وتؤكّد شبّو أنّه في حال واجه المغترب صعوبة في التعامل مع هذه المشاعر، وأصبحت تعيق حياته اليوميّة وتؤثّر سلبًا في صحّته وعمله وتواصله مع الناس، “فمن الأفضل اللجوء إلى متخصّص نفسيّ لتلقّي الدعم والمساعدة اللازمين”.

على رغم بُعدهم عن الوطن، يراقب المغتربون ما يحدث بقلوب مجروحة وأرواح قلقة. فمعاناتهم تحمل في طيّاتها صراعًا نفسيًّا لا ينتهي، هؤلاء المغتربون ليسوا سفراء الوطن في الخارج فحسب، بل هم جزء لا يتجّزأ من المعركة الإنسانيّة التي يشهدها لبنان. ومهما اختلفت الطرق التي يتّبعها كلّ منهم للتعامل مع الألم، يظلّ الأمل شعورهم المشترك؛ أمل في نجاة أحبابهم من الموت والحرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى