“القلم الصريح” المرجعيونيّة حينما كانت لجنوب لبنان جرائده

تُظهر لنا صفحات جريدة “القلم الصريح” التي أسّسها ابن “جْدَيدَة” مرجعيون ألفرد أبو سمرا في مسقط رأسه أنّ الجنوب لم يكُن يومًا عابرًا. تُظهر لنا تلك الصفحات الجنوب بكامل أُبّهته الثقافيّة، مُبادرًا، راعيًا وله صوتُه الضارب في التاريخ. هكذا بانت مرجعيون، وبان ألفرد أبو سمرا و”قلمه الصريح”.

في الثلاثينيّات من القرن الماضي أصدر أبو سمرا جريدته، واحدة من أربع صحف صدرت في مرجعيون هي: المرج (1909)، النهضة المرجعيونيّة (1927)، القلم الصريح (1930) وصدى الجنوب (1936). يؤشّر صدور تلك الصحف في ذلك الزمن إلى النهضة التي كانت تشهدها مرجعيون، وإلى الاهتمام بالثقافة والإعلام، ومكانة البلدة التي أعطت لبنان أعلامًا كبار في كل المجالات.

القلم الصريح..

صدر العدد الأوّل من الجريدة بتاريخ الـ 13 من آب (أغسطس) 1931 وكانت أسبوعيّة من أربع صفحات وشعارها: “يحتاج الحقّ إلى رجلين، الواحد لينطق به والآخر ليفهمه”.

طُبعت المجلّة في مطابع جريدة المرج في مرجعيون، وبعد ذلك في مطبعة العرفان في صيدا، وأخيرًا في بيروت. كانت جريدة الرجل الوحيد على مدى 46 عامًا، أدّى أبو سمرا فيها أدوارًا عديدة، من دور المحرّر، المدقّق، أمين الصندوق، المراسل، وكاتب افتتاحيّاتها.

جريدة القلم الصريح (أرشيف علي مزرعاني)

كانت الجريدة منبرًا للأقلام الرصينة وللأقلام الناشئة أيضًا. عن ذلك يقول الكاتب علي مزرعاني إنّه “لم يكن هناك مراسلون بالمعنى الموجود اليوم، بل من خلال معارفه واتّصالاته، كان أبو سمرا يجمع المادّة مع معاون أو اثنين له على مهل، وكانت الجريدة تصدر أسبوعيًّا أو مرّة كلّ أسبوعين، وكان يتمّ توزيع النسخ عبر البريد حتّى وصلت إلى أميركا”.

يتحدّث مزرعاني لـ “مناطق نت”، كيف كانت مرجعيون في القرن العشرين منفتحة على العلم والتعلّم، ويذكر أنّها كانت تضمّ مدرسة ابتدائيّة ومتوسّطة، ومدارس خاصّة وإرساليّات، بالتوازي مع حركة ثقافيّة دائمة. ويشير إلى أنّ مرجعيون تميّزت عن كلّ القرى المجاورة، إذ نبغ عديد من أبنائها في مختلف الاختصاصات والمجالات العلميّة.

عرفت مرجعيون الهجرة باكرًا، وكان أبناؤها من أوائل المهاجرين إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة والبرازيل، وقد راكموا ثروات ظهرت أثارها في بيوتهم الحجريّة وفي وممتلكاتهم وبلدتهم، وعلى اقتصاد منطقتهم.

ألفرد أبو سمرا.. رجل التاريخ

كان ألفرد أبو سمرا ابن هذه البيئة المتنوّعة، وُلد في جديدة مرجعيون العام 1910، تلقّى علومه في الكلّيّة الوطنيّة الأرثوذكسيّة، ثمّ في مدرسة الفنون الإنجيليّة في صيدا. نشأ محبًّا للكتابة والصحافة، يراسل الصحف المحلّيّة وينشر فيها مقالاته، وقد مكّنته لغته العربيّة الفصحى من أخذ وظيفة أستاذ في أكثر من مدرسة في مرجعيون.

كان أبي سمرا ناقدًا لاذعًا، جريئًا ما سبّب له كثيرًا من العداء مع السلطة المحلّيّة ومن سلطة الانتداب الفرنسيّ آنذاك

قاده انبهاره بعالم الصحف، إلى تقديم طلب الحصول على رخصة استصدار جريدة، وهو لم يتعدَّ الـ21 من عمره، على الرغم من معارضة الأهل. ذهب إلى بيروت وقدّم طلبًا في وزارة الداخليّة، وكان وزير الداخليّة آنذاك موسى نمّور. وما يُروى عن ذلك “بادره الوزير بالقول: وهل تظنّ أنّ البلاد تتحمّل جرائد أخرى؟ فأجاب: البلاد تتحمّل المئات من الجرائد الأمينة الوطنيّة المخلصة. ثمّ دفع ثمن طابع أميري مقداره 25 قرشًا” آنذاك.

يوضح مزرعاني أنّ قيمة الضمان القانونيّ للجريدة وقتها كان 500 ليرة لبنانيّة، وقد كفله فيها خوري مرجعيون آنذاك لدى البنك حتّى يتمكّن من رفع الجريدة، وقد جمع بدل اشتراك مسبق من أصدقائه لطباعة العدد الأوّل منها.

غادر كلّ إخوته وهاجروا إلى خارج البلاد، أمّا هو فقد كان وطنيًّا عروبيًّا رافضًا للهجرة، وقام بجولات سفر إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة وإلى البرازيل، وفي رحلاته كان يحرص على حثّ المغتربين على التواصل مع أهلهم وزيارة وطنهم. وأثناء زيارة له إلى أميركا العام 1947، حاول أصدقاؤه ثنيه عن العودة، واعدين إيّاه بإنشاء مطبعة خاصّة، ولكنه رفض ذلك مؤثرًا العودة إلى بلده.

صحافيًا وناشطًا سياسيًّا

كان أبو سمرا إنسانًا وطنيًّا يحاول تصحيح الإعوجاج الحاصل في تصرّفات الحكومة. يعدّد مزرعاني أنشطة أبي سمرا، وأنّه “كان عضوًا في مؤسّسة العمل القوميّ التي انطلقت من قرنايل في جبل لبنان العام 1936 وعضوًا في حزب النداء القوميّ في لبنان. شارك في مؤتمر بلودان الذي نُظِّم العام 1937 في سوريا وضمّ شخصيّات سياسيّة بارزة مناهضة للاستعمار، وهو مؤتمر عربي عُقد ضُدّ قرار تقسيم منطقة فلسطين- الأردن”.

ألفرد أبو سمرا

ويتابع “شارك أبو سمرا في مؤتمرات عدّة كانت تطالب بعودة لبنان إلى سوريا، وضدّ الانتداب الفرنسيّ، وانتخب سكرتيرًا في مؤتمر الساحل الشهير مع الشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلّة العرفان، ناصر القضيّة الفلسطينيّة، وتنبّأ بخطر الصهيونيّة على فلسطين والمنطقة”.

كان ناقدًا لاذعًا، جريئًا ما سبّب له كثيرًا من العداء مع السلطة المحلّيّة ومن سلطة الانتداب الفرنسيّ آنذاك، فسُجن تسع مرّات بين تاريخ صدور الجريدة وحتّى اندلاع الحرب العالميّة الثانية.

في أرشيف جريدة السفير عثرنا على مقالة تحت عنوان “ألفرد أبو سمرا القلم الصريح”، نُشرت بتاريخ الـ 12من تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، وغير مذيّلة باسم كاتب: “كتب مقالات عن الحرمان في جبل عامل، عن العروبة داحضًا فكرة تعارضها مع الوطنيّة اللبنانيّة، فكان قوله الشهير: نحن عرب نؤمن بالعروبة ولا نكفر بلبنان ونؤمن بلبنان ولا نكفر بالعروبة…”.

توقّف الصدور أكثر من مرّة

كان يريد من جريدته أن تكون الصوت الناطق بالحقّ، تناصر الناس وتعالج مشكلاتهم وتثور على الاستعمار وتندّد بفعاله. اكتسب صداقات راقية في مجاله مثل الشيخ أحمد عارف الزين صاحب “العرفان”. الشيخ أحمد رضا، موسى الزين شرارة، وقد تعرّف في السجن في صيدا إلى معروف سعد في العام 1943.

كان من وقت لآخر يكتب عن شؤون الوطن العربيّ، وتعرّضت جريدته للتوقيف أكثر من مرّة بسبب أرائه العروبيّة، وانتقاده لمشاريع الانتداب الفرنسيّ في لبنان وتدخّله في شؤون الدولة اللبنانيّة.

جاء في مجلّة “العرفان” العدد الثاني للعام 1982، في تأبين أبي سمرا بقلم جوزف نصر: “تابع أبي سمرا – بعد توقف القلم الصريح- في الجمهور الجديد وفي صدى لبنان، محلّلًا ومطالبًا من العرب وأهل الدنيا بالالتفات إلى الجنوب وعروسه مرجعيون، داعيًا إلى توحيد الجهود من أجل لبنان كريم وحرّ..”.

أبواب “القلم الصريح”

احتوت “القلم الصريح” على افتتاحيّة دائمة بقلم صاحبها، أخبار أهالي مرجعيون المحليّة وفي بلاد المهجر، (أستراليا وأميركا والبرازيل وكندا) وحيثما تواجد لبنانيّون، فكانت صلة وصل بين لبنان والمهجر. الأخبار المحلّيّة لأهالي مرجعيون والمناطق المجاورة (زواج، ولادة، وفاة، بيع وشراء..)، مشاكل الناس وكان يطالب الحكومة بالالتزام في تحسين أحوال الناس، في منطقة مرجعيون وحاصبيّا، ثمّ في مختلف المناطق اللبنانيّة، الشؤون السياسية التي كانت تقوم بها الحكومة أو رئاسة الجمهوريّة، الأخبار الثقافيّة، نشاطات الأدباء في لبنان، أو أيّ حفل ثقافي في لبنان وفي جنوب لبنان.

كانت الجريدة تمرّ بمراحل صعود وهبوط، وحوربت من قبل سلطة الانتداب الفرنسي وحتّى من السلطة اللبنانيّة.

ففي تاريخ 22-10-1934 أصدرت الحكومة اللبنانية مرسومًا بإيقاف الجريدة عن الصدور لمدة 15 يومًا، والسبب -وكما قيل- نشرها مقالًا ينال من كرامة السلطات العامة. وهكذا كانت الجريدة تظهر وتتوقف وتعود لتختفي مجددًا. وكان ظهورها وتوقفها يتأثر -أيضًا- بأحوال الحرب التي كانت قائمة آنذاك.

أعلام كتبوا في جريدته

كتبت في الجريدة شخصيّات أدبيّة مرموقة منها سعيد فريحة، بولس سلامة، فيليب حتّي، الشاعر القرويّ، أمين الريحاني، الشاعر فؤاد جرداق. وغيرهم كُثر.

يذكر مزرعاني أنّه مع بدء الحرب الأهليّة اللبنانيّة لم تعد القلم الصريح على أهبّة المنافسة مع كبريات الجرائد آنذاك مثل النهار والأنوار والحياة. وغدت جريدة شبه مناطقيّة، مع التركيز على السياسة اللبنانيّة وفي ما بعد السياسة المحلّيّة المرجعيونيّة والجنوبيّة.

توقفت الجريدة عن الصدور في أواسط العام 1976 مع اشتداد الحرب الأهليّة اللبنانيّة وانقطاع التواصل بين المناطق.

مُنح أبو سمرا عديدًا من الأوسمة المحلّيّة والأجنبيّة اعترافًا بجهوده في لبنان وخارجه وفي الوطن العربيّ. توفّي في العام 1982، ويشير مزرعاني إلى أنّ المهندس طارق أبي سمرا يحتفظ بالأرشيف الكامل للجريدة، وقد قام بتجميع افتتاحيّات والده في القلم الصريح منذ العام ١٩٣١ حتى العام ١٩٧٥ وطبعها في مجلّد ضخم ومرتّب يُقال إنّه قُدّم لإحدى الجامعات اللبنانيّة للمحافظة عليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى