الكحول في مدينة الإله “باخوس”.. بين الانتشار والانحسار
قبل 1800 عام كان في بعلبك إلهاً للخمر أقام له الرومان معبدًا هائلاً يمتاز بكونه من أفضل الهياكل الرومانية حفظاً ومن أبدعها نقشاً وزخرفة على الإطلاق. يُعدّ باخوس من أشهر رموز الميثولوجيا عند الإغريق فهو إله الخمرة الّذي يحمل معه كلّ معاني الإبتهاج والنّشوة. صمد معبد باخوس في أرض بعلبك لسنوات طويلة رغم الزّلازل والفياضانات، ولم تستطع قوّة الأرض وقوّة الإنسان معًا تحطيم اسم إله الخمرة ومعبده ومكانته في بعلبك طوال هذه السّنوات.
لكن ما الذي تغيّر بعد كل هذه المئات من السنين، وماذا حلّ برمزية الإله باخوس في مدينته التي كانت قبلة أنظار العالم وتحوّلت إلى مدينة منسية “منمّطة” بالخوف والخروج على القانون.
تقفل المحلات التجارية في معظم المناطق والقرى البقاعية أبوابها باكرًا، بحيث يصعب العثور على “دكان” أو مقهى أو مطعم بعد التاسعة ليلًا. لا تُعدّ هذه السمة مستحدثة على المنطقة، على العكس، هي اعتيادية وقديمة العهد، ويتعامل أبناء المنطقة معها على أنها سمة بديهية. يمكن تأويل هذه الظاهرة باحتمالات عدة، حديثها هو الحالة الأمنية التي يتسم بها البقاع، مما يدفع الجميع للانصياع وراء هذا الحذر وتجنب التنقل والتواجد خارج حدود المنزل ليلًا، لما يحمله العتم من قابلية أكبر للخطر.
أما التأويل الآخر، فهو الحالة العامة لأبناء المنطقة، البعيدين بشكل أو بآخر عن نمط الحياة الليلية، لخصوصية المنطقة وتاريخها، بحيث كان وما زال نمط الإنتاج فيها معتمدًا على العمل الزراعي الذي يستلزم الاستيقاظ باكرًا، وهو بطبيعته عمل شاق ومتعب.
أثرت هذه العوامل معطوفة على الطبيعة المجتمعية المحافظة إضافة إلى نمط الدورة الاقتصادية في البقاع على سلوكيات أبنائه، لذا عاش البقاعي لفترات طويلة من الزمن، حياة هادئة وملتزمة، لا هامش فيها للترفيه بمفهومه المديني، لذا كان ارتباطه الأول في نظامه الحياتي هو الأرض والزراعة والمنزل.
الكحول.. من الانتشار إلى الانحسار
من جهة ارتبط تناول الكحول، ارتباطًا وثيقًا بأجواء الترفيه والمزاج والترويح عن النفس. وتلك لم تكن حاضرة بقوة في المناطق البقاعية، لا سيما في القرى والبلدات الصغيرة، والمحافظة، على عكس المدن والقرى المسيحية التي امتازت منذ زمن بكونها مصدرًا لإنتاج المشروبات الروحية واستهلاكها حتّى اليوم، سواء كان داخلها أم خارجها. في حين لم يكن تناول الكحول منتشرًا بكثرة قبل ثمانينيات القرن الماضي في باقي القرى، دون أن يكون لذلك أي اعتبارات أخلاقية أو دينية حادة.
امتازت البلدات والقرى المسيحية منذ زمن بكونها مصدرًا لإنتاج المشروبات الروحية واستهلاكها حتّى اليوم. في حين لم يكن تناول الكحول منتشرًا بكثرة قبل ثمانينيات القرن الماضي في باقي القرى، دون أن يكون لذلك أي اعتبارات أخلاقية أو دينية حادة
مع بداية صعود الموجة الدينية واستسلام المناطق البقاعية لسطوة قوى الأمر الواقع، انحسر تناول الكحول وبيعه، ليقتصر الأمر على القرى المسيحية فقط، ولفترة طويلة من الزمن. اندثرت على إثرها المحلات التي كانت تقوم ببيع أو تقديم الكحول، حتى في المحلات التي كانت تُعد ذات طابع سياحي يستقطب زوار من خارج المنطقة.
لم يكن هذا الاندثار طوعيًا بأكمله، بل كان ناجمًا عن عوامل عدة، منها ما قامت به قوى الأمر الواقع من منع منح التراخيص لمحلات الكحول من خلال البلديات التابعة لها، ومنها ما جرى التعامل معه بصرامة وعنف بحجة عدم الإلتزام الديني، سواء من خلال التعرض جسديًا وتهديد الأشخاص المخالفين، أو من خلال التعدي على المحلات التي تبيع الكحول. لم يقتصر الأمر على تلك الممارسات، فقد كان لطغيان الطابع الديني أثره في حياة الأفراد، وتمثّل بتوجه عام لإقصاء الذين يتناولون المشروبات الروحية إجتماعيًا، والتعامل معهم كأشخاص غير جديرين بالثقة وأخذهم على محمل الجد، الأمر الذي جعل البعض يتجنبون المجاهرة بتناولهم المشروبات الروحية، والإبقاء على ذلك سرًا في الخفاء وعلى نطاق ضيق.
الكحول السياحي
في الستينيات من القرن المنصرم، بدأت مدينة بعلبك تأخذ طابعًا سياحيًا ثقافيًا، وتحوّلت وجهًة للزوار، مما أدّى إلى انتشار ظاهرة تناول الكحول في المطاعم والمقاهي وخلال المهرجانات التي كانت تقام حينها.
التحول الكبير في انتشار الكحول وتناولها كان مع بداية الحرب في لبنان، حيث أدّى تهاوي السياحة على نطاق البلد بأكمله، بالإضافة لصعود التيارات الإسلامية لاحقًا بوجه التيارات اليسارية في المنطقة، إلى انحسار أماكن الترفيه، حيث لجأ معظم أصحاب المحلات إلى الإغلاق أو التوقف عن تقديم المشروبات الروحية. أخذ هذا التحول جانبين، الأول وهو اقتصادي بحت، تمثّل بانخفاض الطلب وأدّى تلقائيًا إلى انخفاض العرض، والثاني نتج عن انتشار الفكر الديني الذي يحرم وينهى عن الكحول بشكل قاطع لا تأويل فيه.
قديمًا كانت ظاهرة بيع الكحول في بعلبك رائجة. يعود ذلك إلى فترة تواجد اليهود في المدينة، حيث كان لديهم خمّارة لصناعة الكحول. إضافة لذلك كان فندق “العربيد” المقابل لمقام السيدة خولة ويملكه يهودي، مشهورًا بتقديم الكحول وكان يضم مرقصًا.
قبل الحرب الأهلية كان تناول الكحول منتشرًا بكثرة في جميع المقاهي والمطاعم في بعلبك، أبرزها كان “كازينو رأس العين”، و”الكينج” ومطعم “العجمي” ومطع “أناناس” وفندق ” بالميرا” وغيرها. اشتهرت منطقة رأس العين برائحة اليانسون التي كانت تفوح في أرجائها، جرّاء تناول الزبائن للعرق كمشروب أساسي مرافق للطعام. أما اليوم فقد أغلقت بعض هذه المحلات أبوابها، أو توقفت عن تقديم الكحول، لا سيما مع ازدياد السياحة الدينية في محيط مقام السيدة خولة.
“بالميرا” ومقاهي العاصي
يُعدّ فندق “بالميرا” في بعلبك من أشهر الفنادق وأقدمها في المنطقة، استضاف الرحابنة وفيروز ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم والكثير من الأسماء التي كانت تشارك في مهرجانات بعلبك الدولية، وبالتالي كان تقديم الكحول أمرًا طبيعيًا داخل الفندق الذي كان يضم حانة. اليوم، بعد تراجع السياحة في البقاع، وتحولها إلى سياحة دينية بمعظمها، لم يعد “بالميرا” مقصدًا للسيّاح كما كان سابقًا، فتوقف عن تقديم الكحول لفترة طويلة. اليوم، مع عودة بعلبك وجهة سياحية عاد الفندق لتقديم الكحول، سواء عبر خدمة الغرف، أو ضمن الحانة الموجودة داخله. أما مطعم أناناس فهو من المحلات التي لم تتوقف عن تقديم الكحول منذ تأسسيه حتى اليوم بالرغم من تعرّضه للإعتداءات مرّات عدّة.
تُعد المقاهي الملاصقة لنهر العاصي وجهة سياحية أيضًا، لكنها لم تأخذ شكلها الحالي حتى العقد الماضي. قبلها كان هناك تواجدًا لنوادي خاصة تقدم مشروبات روحية للمجموعات الزائرة، والتي كانت بمعظمها من أبناء المنطقة. اليوم، وبعد أن اتخذت شكلًا حديثًا، يشمل تقديم جملة من الخدمات كالطعام والشراب والمنامة والحفلات وإقامة المناسبات، أصبح هناك قسم من هذه المقاهي يقدم المشروبات الروحية، تلبية لطلبات الزوّار المتنوعين. في المقابل هناك مقاهٍ تعلّق على مداخلها لافتات تشير إلى عدم السماح بإدخال الكحول إليها، في حين تقدم بعض المقاهي مشروبات روحية بشكل سري، لبعض من زبائنها المعروفين من قبل أصحابها.
أمّا في القرى والأطراف بقي الكحول أكثر رمزيّةً فاقتصر تواجده في محالٍّ معدودة على الأصابع في كلّ منطقة كحي آل صلح، وموقف الفانات، وتلّ الأبيض، وحيّ القلعة، ومخيّم الجليل. لم تنجو هذه الأماكن من اعتداءات في وقت سابق ولكنّها استطاعت الصّمود بطريقة أو بأخرى في وجه الضغوط والمحافظة التّقليديّة الّتي يتّسم بها معظم أهالي القرى.
الكحول على موائد البقاعيين
لعب المدّ اليساري في فترة السّتينات وما بعدها دورًا تأثيريًّا على انتشار المشروبات الرّوحيّة في مدينة بعلبك. في حين ظلّ الخمر في القرى المحيطة مرتبطًا فكريًا لدى شريحة واسعة من أهل المحافظة بالمنكر والضلال، لذا لا يتسامح كثيرون مع مستهلكيه، ولا مع تواجده ضمن محلات تجارية ومقاهٍ ومطاعم، تساعدهم في ذلك قوى الأمر الواقع التي تمتلك الصلاحية والقوة، لمنع بيع الكحول في مناطق نفوذها.
دفعت هذه القيود بمستهلكي الكحول للتوجه إلى مناطق بعيدة عن محيطهم لشراء المشروبات الروحية، سواء نحو المناطق المسيحية، أو نحو مناطق مختلفة في البقاع استطاع بعض التجار فرض بيع الكحول فيها. وهذا ما أشار إليه أحد أبناء القرى البعلبكيّة قائلًا:” أقصد مرّتين في الشّهر بعلبك حتّى أشتري الويسكي، بينما يحضر بعض الأصدقاء معهم المشروبات الكحوليّة من بيروت في سهرات نهاية الأسبوع”.
دفعت القيود بمستهلكي الكحول للتوجه نحو مناطق بعيدة عن محيطهم لشراء المشروبات الروحية، سواء نحو المناطق المسيحية، أو نحو مناطق مختلفة في البقاع استطاع بعض التجار فرض بيع الكحول فيها.
استطاع بعض الأفراد الذين ينتمون إلى عشائر بقاعية نافذة فرض بيع وشرب الكحول في نطاق نفوذها، دون مراعاة أو خوف من ردات الفعل، لما تمتلكه هذه العشائر من قوة وسيطرة، وقد خضعت قوى الأمر الواقع لهذا الوضع، تفاديًا للاحتكاك مع تلك العشائر من جهة وحرصًا على تأييدها من جهة أخرى.
قبل عامين، تم افتتاح حانة في مدينة الهرمل، في منطقة تابعة لنفوذ عشيرة آل علاوه، وكان لها روادها من شباب وشابات وجدوا فيها مساحة فريدة من نوعها في المنطقة، إلا أنها فشلت وأغلقت أبوابها بعد مدة قصيرة، والسبب في ذلك وفق ما ذكر صاحب الحانة لمناطق نت: “الناس يفضلون تناول الكحول في السر لا في العلن”.
ما وراء المكتوب
إن رصد انتشار بيع الكحول وتناوله في منطقة بعلبك الهرمل، لا يعني رصدًا كميّاً أو تجارياً، بقدر ما هو رصدًا للتحولات المجتمعية التي تعكسها تلك الظاهرة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقيم دينية ومجتمعية عميقة، وهذا ما يبدو جليًا من خلال التحولات الجذرية والتغييرات التي طرأت على منطقة بعلبك الهرمل، وتعكسها ظاهرة بيع الكحول سواء كان انتشارًا أو انحسارًا، وهي تؤشر لمنسوب تلك التحولات وتُظهر حركتها.
يمكن القول إن المجتمع البقاعي اليوم يمر بمرحلة انتقالية بطيئة جدًا، عنوانها الانفتاح والتحرر من القيود، لا سيما من قبل الأجيال الشابة التي تسعى لفرض رغباتها واحتياجاتها وحرياتها بالرغم من العقبات التي تواجهها، وقد يثمر هذا العناد في النهاية لتوسيع مساحة الحريات الشخصية والحيّز العام ما قد يؤدّي إلى أريحية في انتشار المشروبات الروحية وتناولها، وهو ما كفله القانون وسمح به.