الكُرد في لبنان مواطنون قيد الدرس والتمثيل

يُعتبر موضوع الأكراد عند كثير من الناس أمرًا غامضًا بعض الشيء، فالقضيّة الكرديّة تعرّضت للتشويه بسبب المدّ القوميّ العروبيّ خلال القرن الفائت، وكانت كلّها بعيدة عن الحقائق التاريخيّة والجغرافيّة. ويُقدر عدد الأكراد في لبنان اليوم بعشرات الآلاف فقط، في حين كان تعدادهم يدنو من الـ 60 ألف كرديّ العام 1958.

ويعود هذا الوجود إلى القرن الثاني عشر، عندما كان لبنان واقعًا تحت حكم الدولة الأيّوبيّة. وقد أرسل العثمانيّون عائلات كرديّة موالية لهم إلى كلّ من سوريّا ولبنان. أمّا أوّل موجة هجرة حديثة فكانت من تركيّا إلى لبنان وحدثت بين أعوام 1925 و1950. أمّا الموجة الثانيّة من هجرة الكُرد فقد حصلت في ستّينيّات القرن الماضي من سوريّا وتركيا. وقد عمدت الحكومة اللبنانيّة في التسعينيّات إلى إزالة عدد من الأحياء العشوائيّة في بيروت حيث يعيش الكُرد، ممّا أدّى إلى هجرة حوالي الـ 25 في المئة منهم إلى أوروبّا، وتحديدًا ألمانيا التي فتحت لهم الأبواب.

غياب الدراسات

في غرفة داخل مركز رابطة نوروز الثقافية الاجتماعية المتواضع في شارع بشارة الخوري ببيروت، جلست حنان عثمان لتُلقي الضوء على شريحة لها ميزات لا يمكن إنكارها. فتاريخ الوجود الكرديّ في لبنان قديم على رغم غياب الدراسات التي تشرح هذا الوجود التاريخيّ. فتقول “إنّ وجود الأكراد في لبنان يعود إلى مئات السنين. لدينا الرعيل الأوّل ممّن هاجروا إلى لبنان وأتوا على مراحل ولأسباب مختلفة. كذلك توجد شريحة كبيرة جدًّا لعبت دورًا مهمًّا في تاريخ لبنان، فقدّمت كثيرًا وعلى فترات مختلفة، منها خلال الغزوات الصليبيّة في القرن الـ 14، وكانوا قد رافقوا صلاح الدين الأيّوبيّ “الكرديّ” في فتوحاته، واستقرّوا في الشمال بين طرابلس والضنّيّة وعكّار، ومنهم من أتى هربًا من الاضطهاد مع بداية القرن الماضي”.

أكراد لبنان تاريخ من التهميش

تعود أصول معظم أكراد لبنان إلى ولاية ماردين في تركيّا، فمعظمهم أتوا من هناك، وهي تحوي أقضية عدّة منها: مرجة ومارتينا وكنداريب ومحسرتة. وغالبيّة الأكراد في لبنان من المسلمين السُنّة، وبنسبة 96 في المئة منهم على المذهب الشافعيّ. ومن الكرمانج، ويتحدّثون الكرمانجيّة المنتشرة بولاية ماردين، إضافة إلى أكراد أيزيديّين.

وكما هي حال جميع سكّان لبنان، يُمارس الكُرد معظم المهن المتوافرة لهم. تُعلّق حنان “لم يكن التعليم ميّسرًا لأفراد الشعب الكرديّ، لكنّ الوضع تحسّن مع مرور الزمن، فواكبوا التطوّر واهتمّوا بالعلم كبقيّة اللبنانيّين، وصارت نسبة التعليم جيّدة، فانخفضت نسبة الأمّيّة بينهم. وبات يوجد بين الأكراد الأثرياء ومنهم الأطبّاء والتجّار والصاغّة أيضًا، أمّا النسبة الأعظم فأوضاعها الاقتصاديّة لا تزال متواضعة”.

كذلك برزت شخصيّات كرديّة واحتلّت مكانتها في قمّة المجتمع اللبنانيّ كـ “المراعبة” وآل جنبلاط من ذوي الأصول الكرديّة. وقد أعلن النائب وليد جنبلاط ذلك، فلا شكّ في نسبهم الكرديّ، وكلمة جمبولاط اسم كرديّ، وتعني الجسد الفولاذيّ، وهناك العماديّون نسبة إلى جدّهم عماد وهم من كردستان العراق.

الحرمان من الجنسيّة

ما يُؤلم الكرديّة اللبنانيّة حنان عثمان أنّه “على رغم الجهود الكبيرة التي قدّمتها الجالية الكرديّة في لبنان وداخل المجتمع منذ عهد الانتداب إلى اليوم، فلا يزال الكرديّ محرومًا من أبسط حقوقه، ألا وهي المواطنة”. فعلى الرغم من أنّ حنان تحمل الجنسيّة اللبنانيّة، وكانت قد ترشّحت إلى الانتخابات النيابيّة عن مقعد بيروت، ولم تفز به، فإنّ حوالي الـ 40 في المئة من الكُرد في لبنان لا يحملون الجنسيّة إلى اليوم. و”ما يؤخذ على السياسة اللبنانيّة، أنّه عند المقارنة بالجاليات والأقلّيّات الأخرى التي قدِمت إلى لبنان نجد أنّه تمّ احتضانها بشكل كبير ومنح الجنسيّة لأفرادها كالأرمن مثلًا، إلّا أنّ الشعب الكرديّ حُرم من الجنسيّة اللبنانيّة بنسبة كبيرة” بحسب حنان عثمان.

حنان عثمان أول كرديّة تترشّح للانتخابات النيابيّة للعام 2018
مطالب الكُرد بالتحديد

يُطالب أكراد لبنان بالجنسيّة منذ أن وطأت أرجلهم أرض لبنان “الذي يعرف عنه أنّه موئل الحرّيّة في المنطقة، لكنّهم ظلوا يعانون التهميش، وعُوملوا كمواطنين من الدرجة الثانيّة. على الرغم من أنهم أتوا إلى لبنان منذ آلاف السنين”. هذا السلب لحقوقهم الطبيعيّة مرتبط بالتقسيمات الطائفيّة التي يقوم عليها لبنان الرسميّ، فتمثيلهم في البرلمان معدوم دستوريًّا، إذ ليس لهم ممثلون، أمّا من نال الجنسيّة، وهم قلّة، يمكنه ممارسة حقّه في الاقتراع بانتخاب شخصيّات غير كرديّة.

موجة الهجرة الثانية

في ستينيّات القرن الماضي، استقبل لبنان موجة الهجرة الكرديّة الثانية التي أتت من سوريّا، وبحسب دراسة نشرتها [International Journal of Kurdish Studies] فإنّ هذه الموجة جاءت نتيجةً للاضطرابات السياسيّة التي شهدتها سوريّا بعد العام 1958 وما رافقها من انحدار في الوضع الاقتصاديّ السوريّ. وفي هذا السياق، وعلى رغم كلّ محاولات الاندماج، لم تُتوّج على مستوى التمثيل السياسيّ في لبنان، بل اقتصرت على الجوانب المجتمعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة. ولأنّ أكراد لبنان محسوبون على الطائفة السُنّيّة، ممّا يعني أنّ الكرد ليس لهم حصّة تمثيليّة سياسيّة “الكوتا” ضمن المؤسّسات الرسميّة اللبنانيّة، بل اقتصر تمثيلهم على السياسيّين اللبنانيّين السُنّة. وعلى هذا الأساس، لم يصل إلى البرلمان من يُمثّل الكُرد كقوميّة، كما حصل مع الأرمن بُعيد المجازر التركيّة في العام 1920.

وإن تمّ منح عدد منهم الجنسيّة، لكن قسمًا كبيرًا لم يحصل على الجنسيّة اللبنانيّة، حالهم كحال السريان والآشوريّين والعرب الرُحّل. فلا يملك هؤلاء الحقّ بمقعد خاصّ في البرلمان اللبنانيّ، بسبب عدم وجود اعتراف دستوريّ بهم كالأقليّات الأخرى في لبنان.

ومن المعلوم أنّ المقاعد النيابيّة في مناطق انتشار الكُرد في لبنان تؤثّر في فوز نوّاب بيروت السُنّة كون صناديق اقتراع السُنّة تقع ضمن نطاق إقامتهم، من هنا حاول بعض السياسيّين استقطاب أصوات الأكراد انتخابيًّا، خصوصًا في بيروت والشمال، فقام “عدد منهم بالمُطالبة بمنح الأكراد الجنسيّة، كالنائب سامي الصلح في العام 1951، وعبدالله المشنوق في العام 1962، وعدنان الحكيم في العام 1969 وعبدالمجيد الزين في العام 1971”.

عثمان: يُطالب أكراد لبنان بالجنسيّة منذ أن وطأت أرجلهم أرض لبنان، الذي يعرف عنه أنّه موئل الحرّيّة في المنطقة، لكنّهم ظلوا يعانون التهميش، وعُوملوا كمواطنين من الدرجة الثانيّة

من هنا، ظلّ التمثيل السياسيّ للكرد في لبنان محصُورًا بمرشّحي الطائفة السنّيّة الذين يلجأون إلى كسب دعم الكُرد عند الحاجة إليهم في الانتخابات النيابيّة كلّ أربع سنوات. وأمّا من تمّ تجنيسه من الأكراد، فقد بدأ كمرحلة أولى العام 1956، وفي مرحلة ثانية العام 1994 خلال عهد الرئيس رفيق الحريري إذ تمّ منح الجنسيّة اللبنانيّة لنحو 125 ألف شخص بينهم 10 آلاف كرديّ بموجب المرسوم الجمهوريّ رقم 5247 للعام 1994. وبقي عددٌ قليل منهم من دون تجنيس. فحملوا هوية “قيد الدرس”، وذلك بحسب الخبير في الشؤون الكرديّة الزميل محمود فقيه.

وترتدّ (هويّة قيد الدرس) سلبًا على حياة الأكراد في لبنان، فيُحرمون من دخول المدارس والجامعات وتولّي الوظائف الإداريّة ومن خدمات الضمان الاجتماعيّ والصحّيّ.

النضال السلميّ

“مثل جميع نساء الجاليات في لبنان، منهنّ الأرمنيّات والسريانيّات والأشوريّات، تلعب الكرديّات دورًا بارزًا في المجتمع اللبنانيّ، بخاصّة في الشأن العامّ وتطوير المجتمع، والشأن النسويّ وافتتاح جمعيّات، حيث كنتُ أوّل مرشّحة كرديّة تخوض الانتخابات النيابيّة للعام 2018”. بحسب تأكيد الناشطة حنان عثمان.

النساء الكرديّات مؤثّرات في الشأن العام اللبناني

يطمح الأكراد في لبنان إلى أن “يكون لهم وجودهم وهوّيتهم وكرامتهم ولونهم وثقافتهم، وليس من الضروريّ أن يكون لديهم كيان كرديّ سياسيّ. هم يسعون للاعتراف بالهويّة والُلغة والثقافة الكرديّة، وشبه الاستقلاليّة، والإدارة الذاتيّة، وإدخال التاريخ الكرديّ إلى مناهج المدارس اللبنانيّة”. وفي أعياد “النوروز”، وهو العيد الوطنيّ الكرديّ. كنا سابقًا، نحتفل بالسرّ في الجبال والكهوف. لكنّ كلّ ذلك لا يعني الانفصال عن الكيان والوطن اللبنانيّ بحدوده الحاليّة”. فـ “هذه الإدارة ليست ضدّ وحدة الدولة أو تهديد الكيان، فهناك إدارات كثيرة مُستقلّة لا تهدّد سلطة الدولة. ومن الصعوبة وجود كردستان موحّدة بين أربع دول تمّ تقسيمها بحسب اتّفاقيّة “سايكس- بيكو”.

حنان عامد عثمان، ناشطة نُسويّة ومُؤسِّسة رابطة “النوروز” الكرديّة في بيروت العام 2014 والتي تهدف إلى بناء جسر تواصل بين كلّ من الكُرد والعرب والأرمن والسريان في لبنان. ولا تتركُ نشاطًا يبرّز دور الأكراد إلّا وتُساهم به. وتنشط حنان عثمان في كلّ ما يمكن أن يُعبّر عن كرديّتها ونَسويّتها ويساريّتها، فقد جمعت حوالي 100 سيّدة كرديّة في مؤتمر كبير ببيروت تحت عنوان “تجارب الحركات النسائيّة في الخروج من الأزمات” أتيْن من 11 دولة. واحتفلت مع مواطنيها بعيد النوروز وهو أهم أعيادهم، في أماكن ومواقع عدّة.

ويبقى التطوّر السياسيّ اليوم هو الفيصل في تشكيل المجتمعات، فما هو شكل العلاقة الجديدة بين الكُرد في لبنان والنظام السوريّ الجديد؟ وهل سيعمل هذا النظام الجديد على ترحيل مزيد من الكرد المعارضين إلى لبنان إرضاءًا لحليفهم وراعيهم التركيّ، خصوصًا أنّ “قوّات سوريا الديموقراطيّة” هي العدوّ التاريخيّ لتركيّا الأردوغانيّة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى