اللاجئون السوريّون بين حربين لعنة وصدمات متكرّرة
غدًا يوضّب حقيبته ويستقلّ باصًا لا يعبر غير الطرق الطويلة، يضع سبّحته وماكينة الحلاقة وثيابه وينسى قبلة أمّه. لا بدّ وأن يعود، لن يعود من أجل قبلة، لا بدّ أن يعود من أجل الحلاقة، لا بدّ أن يعود إلى المقاهي والأصدقاء، لا بدّ أن يعود إلى انتظار فصل الصيف بحرارةٍ، لا بدّ أن يلعب مجدّدًا في بهو الجامع، لن يعود لسرقة الفاكهة عن ظَهر الشجر، لا بدّ أن يعود، ويشتري من البقّالة، يقبّل عرق أبيه الحلو، لا بدّ أن يعودوا، لن يعودوا، لأنّنا “لم نكن نملك سوى خيارين: الأبيض والأسود. لو اخترنا الأبيض لنقموا علينا، ولو اخترنا الأسود لنقموا علينا”.
كيف ينسى المرء رحلة الطريق الطويلة الخارجة عن إرادته؟ كيف ينسلخ عن أصله وطفولته وبيته وناسه وقراه وجدرانه؟ هل أنهم عندما هجروا بيوتهم نسيت الأمّ جدول “طبخها” الشهريّ؟ هل توقّف أطفالها عن انتظار ساعة اللعب مع الرفاق؟ هل تأقلم الأب مع نومه المتقلّب؟ هل أنّ كلّ ما حدث كان مجرّد حدث واقعيٌّ مرّ، أم أنّه لعنة ستدور في رؤوسهم إلى الأبد؟
بين حربين
ما بين سوريا ولبنان رحلة طويلة، كلّ منهم خاضها بطريقة ما حتّى صار لكلّ منهم حكاية لجوء لا تشبه غيرها. كابوس مرّ عليه 13 عامًا، لكن هل انتهى؟ يعيش السوريون اليوم، خصوصًا الذين يسكنون في الجنوب اللبناني الحرب مرّة ثانية، يسمعون القصف ووقع جدار الصوت جرّاء الحرب الدائرة جنوبًا بين العدوّ الإسرائيلي وحزب الله، وربّما يشعرون بوهلة الحرب ذاتها، وقد تذكّر أحدهم هذه الحرب بكلّ مأساةٍ عاشها أو شهدها، من تلك التي هرب منها ولجأ إلى أماكن ظنّها آمنة “ولكن الأمان غدّار”.
“كنّا نعيش في استقرار، لم يكن في بالنا أبدًا كلّ ما حدث في سوريا. نعيش أيّامنا الطبيعيّة، نذهب أنا وزوجي إلى شغلنا وننتظر أولادنا ليتخرجّوا من الجامعات. إلى أن وفي يومٍ وليلة صرنا نعيش في المجهول، لم يكن في يدينا خياران، هو خيار واحد لا غير، إمّا الأبيض وإمّا الأسود، وفي كلا الحالين لم يكن لخيارنا معنى” تقول أمّ حسن اللاجئة من درعا في سوريا إلى جنوب لبنان في حديث إلى “مناطق نت”.
يعيش السوريون اليوم، خصوصًا الذين يسكنون في الجنوب اللبناني الحرب مرّة ثانية، يسمعون القصف ووقع جدار الصوت جرّاء الحرب الدائرة جنوبًا بين العدوّ الإسرائيلي وحزب الله، وربّما يشعرون بوهلة الحرب ذاتها
وتتابع أمّ حسن: “حاولنا كثيرًا أن نبقى، لذا تهجّرنا في قلب سوريا عدّة مرّات، ركضنا إلى الأماكن الآمنة نسبيًّا في حينه، ولكنّنا عشنا في ضياع، فالمكان الذي كان آمنّا في يوم لن يكون آمنًا في اليوم التالي، بالإضافة إلي خوفي الدائم على أولادي الذين تعرّضوا للاعتقالات العشوائيّة عدّة مرّات، لذلك كنت أمشي من مكان إلى مكان وروحي وأولادي على كفّ يدي”.
تنقّلت أم حسن وعائلتها المؤلفة من ثلاثة شبّان وبنت في قلب سوريا عدّة مرّات، وسط المعاناة والخوف الدائم من القتل والإعتقال. إلى أن “وفي ليلةٍ من الليالي قرّرنا التخلّي عن بلدنا، وفي هذا التخلّي خضت معارك مع أولادي الذين رفضوا التخلّي من أجل الدراسة، فواحد من أولادي كان في طور التخرّج من كلّيّة الهندسة، وفي لحظة واحدة وجد نفسه عند نقطة الصفر من جديد. اشتغل أولادي في الباطون و”العتالة” بعدما كانوا من المتفوّقين في الجامعات. صحيح أنّنا هربنا من القصف والموت ولكننا عشنا ما هو أسوأ من ذلك ألا وهو العذاب النفسي”.
صامدون مع أهل الجنوب
وتضيف أم حسن: “نحن جئنا إلى لبنان لكي نشعر بالأمان، الآن عندما نسمع القصف وجدار الصوت نسترجع تلقائيًّا المأساة التي عشناها والخوف نفسه وقد يكون مضاعفًا. أحيانًا عندما أسمع صوت القصف الإسرائيليّ على بعض القرى الجنوبيّة أنظر إلى سقف المنزل وأخاف من وقوعه، وذلك لأنّني عشت هذه التجربة في سوريا عندما وقع علينا أنا وعائلتي سقف المنزل. وأحيانًا أهرب من الغرف المليئة بالزجاج والشبابيك لأنّني في سوريا شهدت على قذيفة هدمت منزلنا ولكنّنا الحمدلله كنّا في الخارج إلّا أنّ الزجاج تتطاير علينا وأصبنا”.
إن توسّعت الحرب في جنوب لبنان هل توضّبون الحقائب وتعيدون تجربة اللجوء مرة أخرى؟ تردّ أم حسن: “عندما أرى حقيبة السفر أشعر بأنّ خنجرًا يُغرز في قلبي. لا أستطيع التفكير في رحلة التهجير مرّة ثانية، حتّى لو تفاقمت الأحداث هنا في الجنوب، ونحن نتوسّل دائمًا كي لا تتأزّم الحرب وليسلّم الله أهل الجنوب ويرحم الشهداء. ولكن إلى أين نذهب؟ إلى بيوتنا المدمّرة وبيوت جيراننا الخالية؟ لذلك نحن هنا صامدون في الجنوب”.
في هذا الصدد يقول “عبد” المقيم في النبطية في حديث إلى “مناطق نت”: “أتيت إلى لبنان منذ 11 عامًا وكنت صغيرًا جدًّا، لا أتذكّر أشياء كثيرة من الحرب في سوريا، لا أعرف إن كنت لا أتذكّر فعلًا أم أنّني أكبت تلك الذكريات بقدر ما كانت مؤلمة ووحشيّة، وقد تكون رجفة الجفن التي تلاحقني اليوم كلّما سمعت صوتًا عاليًا أو صوت قصف في الجنوب أو جدار صوت هي خير دليل على ما تركت الحرب بداخلي من آثار سلبيّة”.
أم حسن: الآن عندما نسمع القصف نسترجع تلقائيًّا المأساة التي عشناها والخوف نفسه. أحيانًا عندما أسمع صوت القصف على بعض القرى الجنوبيّة أنظر إلى سقف المنزل وأخاف من وقوعه، وذلك لأنّني عشت هذه التجربة في سوريا
ويتابع عبد: “منذ 11 عامًا كنت في سنّ الحادية عشرة، وكانت تلك المرة الأولى التي أخرج فيها من البيت. رفضت أن أتعلّم في لبنان ولجأت إلى العمل مباشرةً. لذلك لم يعد يربطني أيّ شيء بسوريا، بيتي وأصدقائي وأهلي كلّهم هنا، ولو توسّعت الحرب في الجنوب أنا باقٍ هنا في بلدي، إمّا أن أحيا هنا أو أموت هنا”.
الأطفال هم الأكثر تضرّرًا
في حديث إلى “مناطق نت” تقول المعالجة النفسيّة غوى يونس: “تترك الحرب بصمات عميقة على الصحّة النفسيّة للفرد مثل القلق المزمن، الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. تؤدّي الحرب كذلك إلى تغيّرات في السلوك مثل الانعزال الاجتماعيّ، التهيّج الزائد، ونوبات الهلع”.
كما تؤكّد يونس “أنّ تأثيرات الحرب تتفاوت بين الرجال والنساء والأطفال لأنّ المرونة النفسيّة بين الشخص والآخر تتفاوت وتختلف. بالنسبة للرجال فيميلون إلى قمع مشاعرهم ويفكّرون بالعائلة الكبرى، يعيشون مخاوفهم على السكت في محاولة لحماية أسرهم، وهم غالبًا ما تتبلور لديهم اضطرابات نفسيّة لاحقًا بعد انتهاء الحرب”.
وتضيف: “أمّا بالنسبة إلى النساء فهنّ أيضًا يقمعنَ مخاوفهن ولا يعبّرنَ عنها في غالب الأحيان نتيجة انشغالهنّ بأطفالهنّ، فنرى الأمّ وهي تعيش خوفها وقلقها على أطفالها بصمت، في محاولة لتوفير الحماية. وتشير الإحصاءات إلى أنّ النساء قد يعانين من القلق والاكتئاب أكثر من الرجال”.
وتتابع: “أمّا بالنسبة للأطفال فهم الحلقة الأضعف، حيث يتعرّضون للصدمة النفسيّة التي قد تؤثّر في نموّهم النفسيّ والعاطفيّ. الأطفال يمكن أن يظهروا أعراض اضطراب ما بعد الصدمة مثل الكوابيس والقلق، والاضطرابات السلوكيّة بشكل كبير، وحتمًا عليهم تلقّي العلاج النفسيّ”.
غوى يونس: تترك الحرب بصمات عميقة على الصحّة النفسيّة للفرد مثل القلق المزمن، الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. تؤدّي الحرب كذلك إلى تغيّرات في السلوك مثل الانعزال الاجتماعيّ، التهيّج الزائد، ونوبات الهلع
تقول غنى (26 عامًا) وهي لاجئة من سوريا إلى النبطية في جنوب لبنان، إنّها كانت في سنّ الثانية عشرة عندما حوّلتها الحرب والمشاهد الدامية الّتي شهدتها إلى فتاة عاجزة عن النطق والكلمات. تضيف إلى “مناطق نت”: “كنت طبيعيّة لم أولد خرساء، ولكن في يومٍ من الأيام ذهبنا أنا وأمّي إلى بيت خالتي لنقضي عدّة أيام هناك هاربين من الأماكن الخطرة، فذهبت لأشتري شيئًا من الدكّان في الشارع القريب من بيتنا. عندما حان الوقت لكي أعود كنت قد نسيت الطريق فتهت ودخلتُ في شارع ضيّق ولكنّه كان مليئًا بالجثث والدّم، في تلك اللحظة فقدت القدرة على الكلام، وعولجت طويلًا لكي أستعيد الكلمات وأنطق”.
وتضيف غنى: “الآن عند سماعي لأصوات القصف والغارات أخاف، ليس من الصوت نفسه بل من أن أفقد الكلام مجدّدًا، وتنتابني حال من الفوضى والرعب، وأحيانًا لا أتوقّف عن الكلام قصدًا وذلك لكي أتأكّد من أنّني لن أصير خرساء مرة أخرى”.
اضطراب ما بعد الصدمة
بحسب المعالجة النفسيّة غوى يونس إنّ اللاجئين السوريّين الذين عاشوا الحرب في سوريا ويعيشونها مرّة أخرى اليوم في لبنان قد يواجهون صعوبات شديدة في التعامل مع تلك التجارب المتكرّرة. التعرّض المتكرّر للصدمة يمكن أن يزيد من شدّة أعراض اضطراب ما بعد الصدمة ويؤدّي إلى شعور مستمرّ بعدم الأمان واليأس. و”قد يكون التكيّف مع هذا الوضع أكثر صعوبة نظرًا إلى الذاكرة المؤلمة من الحرب السابقة، ممّا يجعل كلّ تجربة جديدة تزيد من العبء النفسيّ”.