“اللامركزيّة الإداريّة” وتأثيرها على مناطق الأطراف
على بُعد أميال قليلة من العاصمة بيروت، تختلف الصورة بشكل جذريّ. هنا، في مناطق الأطراف كبلدات عكّار والبقاع، يعيش الناس على هامش الوطن، حيث تغيب الخدمات الأساسيّة والتنمية بأشكالها جميعها، وإذا ما اتّجهنا جنوبًا الواقع ليس بأفضل حال، لا بل أكثر تعقيدًا جرّاء استمرار القصف الإسرائيليّ ونتائجه المدمّرة، ما يطرح إشكاليّات عدّة، في ظلّ سلطة مركزيّة إداريّة فشلت على مدار سنوات في النهوض بتلك المناطق، ووضعها على مسار التنمية الحقيقيّة، الأمر الذي يجعل فكرة تطبيق اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة، الأمل الوحيد لمناطق الأطراف اللبنانيّة، لعلّها تخرجها من دائرة التهميش المستمرّ.
بدأت الدعوات الحقيقيّة لتطبيق فكرة اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة في التسعينيّات وقد شملت الاستقلالين الإداريّ والماليّ للمناطق وتعزيز السلطات المحلّيّة فيها. قبلها طرحت القوى السياسيّة المنضوية في اتّفاق الطائف الذي انعقد سنة 1989، فكرة تعزيز اللامركزيّة الموسّعة كوسيلة لإعادة توزيع السلطة وتعزيز الاستقرار وتحقيق تنمية محلّيّة متوازنة، واعتُبر اتّفاق الطائف حينها المستند القانونيّ الأوّل للشروع في صياغة قانون اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة، لكن بقيت الإشكاليّة الأساسيّة هي في إقرار القانون وتطبيقه في جميع المناطق اللبنانيّة المتفاوتة التي يسطو عليها نفوذ الأحزاب السياسيّة المتنازعة في ما بينها.
في العام 2014، اقترحت اللجنة المتخصّصة برئاسة وزير الداخليّة الأسبق زياد بارود مشروع قانون اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة وتبنّاه النائب سامي الجميّل في العام 2016، ثمّ شكّلت لجنة الإدارة والعدل لجنة فرعيّة لمناقشته، وقد تمّ ذلك على مدى 67 جلسة. وفي هذا الإطار يقول الوزير الأسبق زياد بارود لـ”مناطق نت”: “بعد تسعة أشهر من الوقت لصياغة القانون واقتراحه، لم يُعرض حتّى الآن على الهيئة العامّة لمجلس النوّاب، ولا يزال في أدراج لجنة الإدارة والعدل، التي ناقشته بصورة جدّيّة وهو مشروع قانونيّ متكامل”.
اللامركزيّة الإداريّة وتنمية المناطق
يتابع بارود: “لم يعارض أحد من النوّاب القانون في العلن ولم يبدِ أحد أيّ تحفّظات عليه، إنّما طُرحت أسئلة وقد أجبنا عليها كلّها، وكانت الأجواء إيجابيّة جدًّا أثناء مناقشة القانون، ولكنّنا لا نعلم ماذا يوجد وراء الأكمة”. وأوضح قائلًا: “أنا لا أحكم على النوايا والقانون قطع شوطًا كبيرًا ولا يزال قائمًا، وقد تمّت مناقشة كلّ مادةّ على حدى في اللجنة الفرعيّة، حيث يوجد في الهيئة التشريعيّة في مجلس النوّاب ما يسمّى حالة “تشريع الضرورة”، ولكن إقرار قانون بحجم قانون اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة برأيي غير مدرج اليوم وليس في أجندات هيئة التشريع، ربّما يعود ذلك إلى حين استقرار الأوضاع السياسيّة”.
ويضيف بارود: “حين يستقرّ الوضع السياسيّ في البلد من الممكن في حينه أن نرى المشروع في الواجهة من جديد، فبرأيي إقرار القانون قد تأخّر كثيرًا، وعمليّة تعطيل مجلس النوّاب عن التشريع جرّاء الأزمة السياسيّة ساهم بتأخّر تشريع القانون أكثر. ولكن في نهاية المطاف لا بدّ أن يُقرّ لأنّ اللامركزيّة الإداريّة ليست غاية إنّما وسيلة وهدفًا لكي ترتاح المناطق وتحقّق مشاركة أوسع وتعمل على تحقيق الإنماء المتوازن”.
لملمة آثار الحرب جنوبًا!
وفي سؤالنا عن مدى فعاليّة اللامركزيّة الموسّعة في ظلّ الحرب الدائرة في جنوب لبنان يقول بارود: “إنّ مسألة التعويضات والحالة المستجدّة في الجنوب جرّاء العدوان هي من واجبات السلطة المركزيّة حصرًا حتّى ولو ذهبنا إلى خيار إقرار قانون اللامركزيّة”. ويردف: “بحيث لا يمكن إعفاء السلطة المركزيّة من دورها الرئيس تجاه الجنوب، فالعدوان الاسرائيليّ المستمرّ والقصف اليوميّ والدمار الذي شهدناه حلّ في مناطق واسعة وفي القرى الحدوديّة بالإضافة إلى عدد الشهداء الكبير، جعل منها إشكاليّة تتخطّى حدود اللامركزيّة وقدرة السلطات المحلّيّة على التعامل معها، وهي تتخطّى الواقع المحلّيّ أيضًا، حيث إنّ موضوع الدفاع الوطنيّ وتقديم التعويضات وإعادة الإعمار هي من صلب واجبات السلطة المركزيّة واستراتيجيّتها العامّة، وعليه فإنّ اللامركزيّة الموسّعة يمكن أن تساعد في أوقات الحرب ولكن لا يمكن أن تحلّ بديلًا أبدًا عن تدخّل السلطات المركزيّة لمعالجة آثار العدوان على جميع الأصعدة”.
زياد بارود: حين يستقرّ الوضع السياسيّ في البلد من الممكن في حينه أن نرى المشروع في الواجهة من جديد، فبرأيي إقرار القانون قد تأخّر كثيرًا
اللامركزيّة والإصلاح السياسيّ
أمّا في ما يخصّ الإصلاح الانتخابيّ وقانون الـ”ميغا سنتر” وتطبيقه في مناطق الأطراف في ظلّ اللامركزيّة الموسّعة، يقول بارود: “يبقى موضوع تنظيم الانتخابات التشريعيّة والسلطة المحلّيّة من واجبات السلطة المركزيّة حتّى في الدول اللامركزيّة، ففي لبنان هناك “اللا حصرية” التي تمارسها السلطة المركزيّة مثل القائمقام أو المحافظ ومكاتب الوزارات في الأقضية.. هذه حالات لا حصريّة مرتبطة بالسلطة المركزيّة ضمن المناطق وهي بعيدة كلّ البعد عن فكرة اللامركزيّة الإداريّة”.
ويختم بارود: “ضمن سياق متّصل لا يمكن إعفاء السلطة المركزيّة من واجباتها تجاه المناطق الأكثر ضعفًا حتّى في ظلّ اللامركزيّة الموسّعة، لا سيّما الفجوة الاقتصاديّة بين المناطق وتحقيق الموارد الماليّة، حيث إنّ القانون الذي اقترحناه قد لحظ هذه النقطة عبر موادّه بشكل أساس من خلال إجرّاءات استيفاء الضرائب والرسوم وكيفيّة توزيعها بين المناطق بشكل عادل. وفي خانة مؤشّرات التنمية في القانون فإنّه يُسمح للمناطق الأقلّ اقتدارًا أن تأخذ أموالًا للمشاريع التنمويّة من ما سمّيناه “الصندوق اللامركزيّ” الذي يقرّه القانون، وعليه تُحفظ حقوق المناطق التي لا تملك إمكانيّات كافية، وبالتالي تُسدّ الفجوة بين جميع المناطق”.
النوّاب الجدد واللامركزيّة الموسّعة
منذ العام 2022 وبعد دخول نوّاب المجتمع المدنيّ كلاعب جديد في الساحة السياسيّة اللبنانيّة، كان لهم موقفهم الواضح تجاه تعزيز اللامركزيّة. وفي حديث إلى “مناطق نت” أشارت النائبة في البرلمان اللبنانيّ نجاة عون صليبا إلى أنّ التوسّع في اللامركزيّة الإداريّة ليس عمليّة آنيّة تحدث في شخطة قلم “ومن غير الممكن رمي كرة النار على البلديّات الصغيرة في مناطق الريف اللبنانيّ وتركهم لتدبير أمورهم الماليّة والإداريّة بشكل مستقلّ ومفاجئ”.
تتابع صليبا: “لا بدّ من وضع استراتيجيّة موحّدة على صعيد جميع بلديّات لبنان، وهذه الاستراتيجيّة هي واجب السلطة التنفيذيّة في لبنان وليس التشريعيّة، بحيث يجب توسيع صلاحيّات البلديّات بشكل تدريجيّ، وعليه الوصول إلى الاستقلاليّة الماليّة إلى حدّ مقبول في كلّ المناطق ولا سيّما مناطق الأطراف”.
وتؤكّد النائبة صليبا أنّه من المستحيل الشروع في اللامركزيّة بدون استراتيجيّة مدروسة، محذّرة من تعدّد الأحزاب السياسيّة ونفوذها وسطوتها على عمل البلديّات وفق استراتيجيّات منفردة، ممّا يجعل وضع الحوكمة داخل البلديّات كارثيًّا وخطيرًا للغاية.
أهمّ الإشكاليّات والعراقيل
تتحدّث النائبة صليبا عن إشكاليّتين أساسيّتين وهما: أوّلًا عدم وجود استراتيجيّة موحَّدة للدولة في ما خصّ الإنماء الاقتصاديّ الموحّد لجميع المناطق، وثانيًا غياب الخطط التي يجب على البلديّات اعتمادها لرفع مستوى التنمية المحلّيّة، “وإلى حين توحيد الخطة والاستراتيجيّة، تصبح القوانين جاهزة لتصب في مصلحة الإنماء المتوازن في الأطراف ضمن فكرة لامركزيّة موسّعة شاملة”.
نجاة عون صليبا: من غير الممكن رمي كرة النار على البلديّات الصغيرة في مناطق الريف اللبنانيّ وتركهم لتدبير أمورهم الماليّة والإداريّة بشكل مستقلّ ومفاجئ
وتضيف صليبا: “إنّ البلديّات ليست جاهزة اليوم للإنماء الذاتيّ، ولا يجب تركها تحت رحمته بغياب خطّة مسبقة، وغياب التنسيق بين البلديّات والمحافظات، وعليه يجب تطبيق اللامركزيّة الإداريّة بشكل تدريجيّ، بحيث يتمّ وضع استراتيجيّة واضحة تتألّف من عدّة مراحل وتستمرّ لغاية ست سنوات، وهذه الاستراتيجيّة ترسمها الحكومة اللبنانيّة عبر خطّ واضح ملزم للجميع، يبدأ بورش عمل تنظّمها الحكومة لصالح البلديّات واتّحاداتها والأقضية والمحافظات لأجل توفير الدعم اللازم لوجستيًّا ومادّيًّا خصوصًا لبلديّات الأطراف، وتباعًا يجب توسيع صلاحيّات البلديّات بشكل تدريجيّ خلال السنوات الستّ، ومن ثمّ الوصول للإنماء المتوازن المطلوب والصالح للتوسّع في اللامركزيّة الإداريّة”.
استقلاليّة الموارد الماليّة
النقطة الأهمّ والأساس في عمليّة تعزيز اللامركزيّة الإداريّة اليوم هي الموارد الماليّة ونقطة الخلاف والجدل بين التيّارات السياسيّة ومختلف الأحزاب، بحيث تتفاوت الموارد الماليّة بين المناطق اللبنانيّة، خصوصًا بين مناطق الأطراف والمناطق القريبة من المركز، ما يقلّل من فرص نجاح الإنماء المتوازن ويعمّق الفجوة بين المناطق.
وفي سياق متّصل وفي ما يخصّ العمل الإداريّ المنفرد والاستقلاليّة بالموارد، تقول النائبة صليبا: “البلديّات ما زالت بحاجة للمزيد من الوقت، فلو أخذنا مثالًا بلديّة معيّنة تعتمد في استهلاكها للمياه على مورد مائيّ تابع إلى بلدة مجاورة كانت قد وضعت بلديّتها استراتيجيّة خاصّة للاعتماد على ذاتها في تأمين مواردها المائيّة وذلك عبر تخزين المياه المتوافرة لديها، لأوقات الجفاف، ومنعها للبلدة المجاورة من الاستفادة من المورد المائيّ ذاته. هل هذا الأمر صحيح؟ هل هذا الأمر ممكن؟ هل هذا الأمر جائز؟ بالطبع لا يجوز، وتكمن فكرة تخطّي هذه العراقيل عبر الاستراتيجيّات الموحّدة والتعاون وليس بالانفراد الكامل باللامركزيّة”.
التحوّل نحو “الفدرلة”!
مع تصاعد الدعوات لتعزيز اللامركزيّة، يأمل سكّان الأطراف في البقاع والشمال والجنوب أن تتحوّل هذه الفكرة إلى واقع ملموس، فهم يؤمنون بحقّهم بالتنمية المنشودة وبأهمّيّة تعزيز مشاركتهم في صنع القرار حيث تُسمع أصواتها وتُلبّى احتياجاتهم الأوّليّة، ممّا يعزّز الشعور بالانتماء والمشاركة في بناء مستقبل أفضل، لكن العقبات لا تزال كثيرة، بدءًا من مقاومة بعض الأحزاب السياسيّة إلى التحدّيات الماليّة والإداريّة، امتدادًا إلى المخاوف من تبنّي مشروع اللامركزيّة بشكل تعسّفي ممّا يجعل الفدراليّة قاب قوسين أو أدنى من اللبنانيّين.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.