“اللامُعاش” لعزّة أبو ربعيّة.. تفّاحة آدم في يد النساء

“اللامُعاش”، هو عنوان المعرض الذي أُقيم في تمّوز (يوليو) 2025 في صالة صالح بركات، وضمّ أعمال الفنّانة عزّة أبو ربعيّة. تسأل الفنّانة في مستهلّ تجربتها:

«ماذا لو كان الظلّ ملوّنًا وليس رماديًا؟
كان هنا بكتلته الكثيفة، رحل!
وإذا بألوانٍ أراها، ليست رماديّة، ليست ظلّه،
بل هي بقايا حديثٍ عابر، أو ربّما خيالات نشأت من تلك الحالة.
كيف أصنع منها عالمًا أعمق، غير محدود؟»

بهذا التساؤل، تفتح أبو ربعيّة باب تأمّل واسع في حضور الغائب، وتستحضر لحظة الانفصال عن الواقع بوصفها لحظة خَلق. إنّه ظلّ لا يُشبه الأصل، بل يتجاوزه نحو عالم متخيَّل من البقايا والانفعالات والهواجس.

فراشات معلّقة ووجوه من حرير

تشبه تجربة عزّة أبو ربعيّة محاولة صيد الفراشات، غير أنّ الشبكة التي تحملها لا تصطاد سوى قضايا عالقة ومعقّدة. إحدى هذه “الفرائس” هي وجه امرأة، منسوجة من طبقات حريريّة شفّافة: تول وخيوط متراكبة على قماش الكانفا (70×70 سم).

اللوحة تبدو كمشهدٍ تحت الماء، تُحيل إلى عالَم مغمور، بعيد من الواقع. ألوان الأزرق الفاتح تشكّل سمكة تتّجه نحو الأسفل، فيما اللون الأسود يلتصق بها مشكّلًا شعرًا مُنسدلًا على وجنتيّ المرأة. أمّا العصبة على عينيها، فتأخذ شكل زعانف سمكة، وكأنّها تُلغي البصر عنوة، وتدفع بالمرأة إلى حالة من العمى الرمزيّ.

من أعمال الفنانة التشكيلية عزة أبو ربعية
خصوبة غائبة ووردة سوداء

في تفسير العلاقات بين العناصر داخل العمل، تسبح السمكة خلف المرأة وكأنّها تتعقّبها. وبما أنّ السمكة تُحيل في الثقافة الرمزيّة إلى الخصوبة، فإنّ تموضعها هنا لا يحتفي بالأنوثة، بل يلاحقها ليطمسها.

لإتمام هذا المشهد، تظهر الوردة السوداء في خلفيّة العمل كإعلان حداد على الأنوثة. في خلفيّة هذا التكوين، يبرز التفسير الفرويديّ لحضور السمكة: كرمز ذكوريّ مسيطر، يعيد حصر دور المرأة في كونها أداة للتناسل، وينعى أبعادها الأخرى كذات مستقلّة.

في لوحة أخرى (150×150 سم، تول وخيوط على الكانفا)، يظهر ظلّ قاتم لامرأة جالسة، تتوغّل السمكة ذاتها داخل جسدها، كأنّها تخترقها أو تتملّكها. لكن هنا، لا يُصبح الرمز الذكوريّ هو المحور، بل تبرز ملامح التهميش من خلال شخصيّة ثانية داخل اللوحة: شكلٌ آخر، ضخم الأكتاف، متفوّق في حجمه على المرأة، يجلس بوضعيّة توحي بالتجاهل واللامبالاة.

اللون الأحمر يهيمن على المشهد، متّخذًا شكل الورود، لكنّه يحمل دلالة مزدوجة: من جهة، هو حضور بصري جذّاب، ومن جهة أخرى، هو رمز فجّ للفرج الأنثويّ

هذه الشخصيّة، التي تبدو ذكوريّتها من خلال بنيتها الجسديّة وهيمنتها البصريّة، تحتوي في داخلها على أوراق خضراء. هذا “الخضار” يبدو وكأنّه سُلب من المرأة، ليخرج منها كوردة سوداء، تُعلن مجدّدًا فداحة الفقد في رمزيّة الأنوثة.

العذريّة ودماء الشرف والسخرية

في عمل بصري ضخم (189×152 سم، تول وخيوط على الكانفا)، ترتفع وتيرة السخرية من التقاليد البالية، وتغدو اللوحة مساحة مفتوحة لتفكيك الرموز الذكوريّة.

اللون الأحمر يهيمن على المشهد، متّخذًا شكل الورود، لكنّه يحمل دلالة مزدوجة: من جهة، هو حضور بصري جذّاب، ومن جهة أخرى، هو رمز فجّ للفرج الأنثويّ ولدم العذريّة، كما تُصوّره الثقافة الذكوريّة كعنوان للشرف.

هنا، تُقابل هذه الرمزيّة المُثقلة بالتاريخ، بحركة متمرّدة: فتاة صغيرة تلهو على دراجة هوائيّة، ترقص بمرح، فيما الدراجة تسير فوق خط ّالدم نفسه – الذي كان يومًا ما رمزًا للقيد الاجتماعيّ.

رغبة معصوبة العينين

في لوحة بمقاس 140×140 سم (طبقات التول والخيوط على الكانفا)، يظهر جسد فتاة ممدّدًا على الأرض، وكأنّه تحت سطح ماء. الانعكاس يوحي بالغرق، أو بالانفصال عن الواقع، فيما السمكة – الرمز الفرويديّ المستمرّ – تقترب من منطقة العانة، وتخترق زهرة الرغبة المتفتّحة من ذات المكان.

هذا المشهد الصريح لا يُخفي دلالاته: امرأة نائمة، ساكنة في الشكل، لكنّ داخلها ثورة مكبوتة، تُعلن عن رغبة جُرفت تحت سطح الوعي بسبب البناء المجتمعيّ الذكوريّ. كأنّ اللوحة تقول إنّ المرأة، حتّى وهي في لحظة رغبة، لا يُسمح لها في الاعتراف بها أو التلذّذ بها علنًا.

وحين تعلن المرأة عن رغبتها وتمارسها مع رجل كما في اللوحة (طبقات التول والخيوط على الكانفا 140×140 سم) فنجدها معصوبة العينين، وهي تُمارس المرأة رغبتها مع رجل. العصبة هنا ليست أداة للعب الإيروتيكيّ، بل قناع للمنع. ممنوع عليها أن ترى، ممنوع أن تنظر في وجه رغبتها، أو أن تتملّكها بوعي كامل.

ظلّ الرجال… وثِقل الرمّانة

في لوحة أخرى (140×140 سم، تول وخيوط على الكانفا)، تتجرّأ المرأة على مدّ رأسها لتشمّ الوردة، رمز رغبتها، لكنّ جسدها يكتظّ بظلال رجال، أحدهم يظهر بعضوٍ ذكري بارز. يحضر هؤلاء كأشباح، كأنّهم سراب لا ملمح حقيقيّ له، لكنّهم يفرضون هيمنتهم الرمزّية على الجسد الأنثويّ.

وترمي الرمّانة بثقلها في لوحة أخرى (140×140 سم، تول وخيوط على الكانفا)، فتسحق الذكوريّة، مستعيرة المقولة الشعبية: “القصّة مش قصّة رمّانة، القصّة قصّة قلوب مليانة”.

ديكٌ على مزبلته

يصيح الديك على مزبلته الطبيعيّة (190×80 سم، تول وخيوط على الكانفا)، في مشهد يظهر فيه واقفًا على درج يطلّ على بابٍ ينفتح نحو طبيعة خضراء.

وفي لوحة أخرى (140×140 سم، تول وخيوط على الكانفا)، تُقلِب الفنّانة عدسة التصوير، فيتحوّل المشهد الطبيعيّ من أفقيّ إلى عموديّ. تسبح الشمس في الفراغ، تائهة، باحثة عن مساحة زرقاء، ليلامس خدّها السرير الأزرق. يبدو المنظور العموديّ مقصودًا، كأنّه وُسّع ليستوعب ساق نبتة طويلة– زهرة أو ما يشبهها– يحمل امتدادها ما يختصر رمزيّة “الين واليانغ”.

هي الباذنجانة والورقة الخضراء

رمزا فلسفة “الين واليانغ” في الثقافة الصينيّة، بما يحملانه من توازن وانسجام وحبّ، يُختصران في عالمنا بباذنجانة، تحاكي رمز الذكورة، وورقة خضراء أقرب إلى الأنوثة.

لكنّ العلاقة بينهما مشوّهة: الانفصال حاصل، مرسوم بخطّ أسود طويل يمتدّ كغصن النبتة، ويعزل الرمزين داخل عالم أزرق، منفصل عن فضاءٍ ملوّنٍ حالم.

تنتصب الباذنجانة ويعلو منها جزء فوق سطح الماء، كأنّه تأكيد إضافيّ على الذكوريّة داخل محيط أزرق.

وإن سلّمنا بمنطق الرموز اللونيّة في علم النفس– حيث يُنسب الأزرق للذكر، والزهريّ للأنثى– فإنّ هذا الانفصال يصبح شهادة مثبتة بثقافة شعبيّة لا تزال تُكرّس الفصل والاختلال في العلاقة.

خفّة الأنوثة والحبّ

في لوحة (85×72 سم، زيت على قماش)، يفرض الثبات والتوازن حضورهما، على رغم ضخامة حجم الباذنجانة وكتلتها الثقيلة. تأتي خفّة ورقة الشجرة التي تُنبت زهرةً أنثويّة لتكسر قانون الفيزياء، الذي لطالما خدم ثقل الذكر.

أعمالها تُقارب العلاقات الإنسانيّة بجرأة لافتة، وتُترجمها إلى مشاهد حميمة، عبر ثنائيّة الحبّ والجنس

أمّا في عمل بصريّ واسع (200×150 سم، طبقات التول والخيوط على الكانفا)، فتظهر يدان ناعمتان كظلّ فاتح اللون، ترميان الورود والعصافير على سلّم موسيقيّ، لرسم نوتة ترقص بين سطوره.

الحوار بين العناصر يُجسّد مشاهد حبّ– عصفوران يلتصقان كمن يمارس الحبّ– واستقرار عاطفيّ يظهر في أربعة عصافير تتحادث كعائلة.

وشوشات خفيفة بين الورود والعصافير تحافظ على روح المشهد، وعلى موسيقيّته الإنسانيّة. أمّا ثبات العلاقات البشريّة، فتختصره الفنّانة بخطوط مستقيمة، مدعّمة ومُثبّتة في الهواء الطلق.

الفنّانة إنسانة قبل كلّ شيء

الفنّانة عزّة أبو ربعيّة، هي إنسانة حقيقيّة. أستخدم هنا كلمة “إنسان” كأسمى توصيف وجدته، بعد أن فُقدت المعياريّة في توزيع الألقاب بين الناس.

ما يميّز الإنسان الحقيقيّ– كما في حالة عزّة– هو استخدامه للمفردات التي تنبع من جوهر المعنى، وتتماهى بدقّة مع السياق. فأعمالها تُقارب العلاقات الإنسانيّة بجرأة لافتة، وتُترجمها إلى مشاهد حميمة، عبر ثنائيّة الحبّ والجنس. لكنّ الجرأة في طرح هكذا موضوع، لا بدّ من أن تضع صاحبها في موقع المواجهة، بغضّ النظر عن الشكل الفنّيّ الذي يختاره.

الخطيئة والحرام

أتذكر مرّة كيف رفض المشاركون في أحد أندية القراءة مجرّد مناقشة رواية “تكسير رُكَب” للأديب زكريّا تامر، لمجرّد أنّها لامست منطقة “المحرّم”. وهنا، لا يعود السؤال عن مضمون العلاقة أو جرأتها، بل عن مفهوم الخطيئة نفسه: هل الحديث عن العلاقات الإنسانيّة، حتّى حين تكون حميميّة، يُعدّ خطيئة؟

المشكلة ليست في طرح الموضوع، بل أعمق من ذلك. هي مشكلة مجتمعيّة، تتعلّق بغياب الوعي، والخضوع لما يُشبه الوعي السحريّ– الغيبيّ– الذي يفرض سذاجة تُحرّم حتّى فتح الباب للنقاش، لا الخوض في تفاصيله.

تفّاحة آدم في يد النساء

لقد تجرّأت عزّة أبو ربعيّة على استخدام “وشائح الحرير” تقنيًّا، لطرح موضوع بالغ الحساسيّة، أشبه بحجر الأفاعي، فليس كافيًا أن نعلن للآخرين عن وعْينا، بل الأهمّ أن ندرك أنّ الوعي بالذات هو المدخل الأوّل لمعرفة الذات. وهذه المعرفة لا تكون حقيقيّة– فلسفيًّا– إن لم تشمل الإدراك العميق لرغبات الذات وحاجاتها، بما تتكوّن منه: الجسد، والعقل، والقلب، والروح.

من لوحات أبو ربعيّة، لوحة بحجم 30×40 سم، مرسومة بالحبر والألوان المائيّة على ورق مُخصّص. تُظهر خمس نساء مُتّشحات بالسواد، تحمل كلّ واحدة منهنّ “تفّاحة آدم”، فتُسيطر الأسطورة الدينيّة على المشهد، وتُعيد رسم ملامح المرأة بأوراق التفّاح الخضراء.

تمضي النساء كأنّهنّ سبايا، يسِرن نحو مصيرهنّ الذكوريّ، بلا صوت، بلا رأي، بلا اعتبار لوجودهنّ. تقنيّة الألوان المائيّة هنا شفّافة، إلى حدّ الغياب.

عزّة أبو ربعيّة

فنّانه تشكيليّة سوريّة من مواليد مدينة حماه 1980، متخرّجة من كلّيّة الفنون الجميلة جامعة دمشق 2002. لها أعمال مقتناة من عدّة متاحف ومؤسّسات فنّيّة. لديها مشاركات عديدة حول العالم. أقامت معارضها الفرديّة في مدينة بيروت حيث أِقامتها الحاليّة بعد خروجها القسريّ من سوريا العام 2017.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى