“الله يخَلّيك خَلّيْكْ بلبَيْتْ”

“شو عم تسمعي؟”. سألتُ بتول (15 عامًا) التي كانت ساهية إلّا عمّا يمدّها به الـ Ear Phones المحشوك في أذنيها. “فيروز” قالت لي وهي تطالعني بابتسامة ترواح بين التردّد والخجل. “بلا فيروز وبلا غيرها، شكلنا نحن ما بيلبقلنا نسمع إلّا أصوات الصواريخ والانفجارات”… بهذا دخلتْ الحاجّة والدة بتول في الحديث وهي تلقّم ركوة القهوة في إحدى الحدائق العامّة في بلدة الشويفات، والتي تعجّ بنازحين من الضاحية الجنوبيّة، وتحديدًا من “الليلكي” و”حي السلّم” بشكل خاص.

أكّدتْ مجالستي لهؤلاء النازحين أنّ النزوح وإن كان اجتماعيّ الطابع، إلّا أنّ وقعه ينطلق بالدرجة الأولى من انطباعات فرديّة إلى أقصى الحدود. “الكلّ ينزح خوفًا من الموت تحت الركام، تحت تلك الأبنية التي شُيّدتْ فقط من أجل أن يصار إلى هدمها فوق رؤوسنا” قالت والدة بتول. أنبأتني أحاديثي مع هؤلاء الناس أنّ وقع ترك الناس لبيوتهم يختلف من إنسان إلى آخر. فالصورة العامّة للنزوح، يضادها التدقيق في ملامح هذه الصورة، حيث يتبيّن في هذه الحال الأخيرة أنّ لكلّ فرد حصّته الخاصّة جدًّا من ألم النزوح وفجيعته الصاخبة.

تتقدم ذكريات بعض النازحين عن منازلهم التي هجروها بوضوح وجلاء، إنّما ذكريات أخرى تراها تتقدّم خلسة وبخفاء.

“مِشْ عم أعرف إحكي”

أيقظ تبادلي الأحاديث مع هؤلاء النازحين داخلي ميلًا إلى اعتبار النزوح واقعة روحيّة بالدرجة الأولى ثمّ واقعة جسديّة في ما بعد. الجسد ينزح خوفًا من أن يتحوّل إلى أشلاء، خوفًا من أن يُهدم شأن الأبنية المهدّمة، أمّا الروح فلا تنزح على الإطلاق، تراها تتفسّخ بين الأمكنة، بين الـ “هنا” والـ “هناك”.

الجسد ينزح خوفًا من أن يتحوّل إلى أشلاء، خوفًا من أن يُهدم شأن الأبنية المهدّمة، أمّا الروح فلا تنزح على الإطلاق، تراها تتفسّخ بين الأمكنة، بين الـ “هنا” والـ “هناك”.

بعض الدموع بلّ غالبيّتها، حفرتْ داخل ذهني الحقيقة الآتية، وهي أنّ الخروج عنوة من مكان نحبّه، هو بمثابة ذبح للروح وللنظرات القديمة، وهو أيضًا بتر جليّ للأنامل التي اعتادت ملامسة جدران تلك الأمكنة التي نحبّ، فضلًا عن كون هذا الخروج رجفة شديدة العنف لمعجم الكلمات اليوميّة التي تسوق الألسنة في أماكن يوميّاتنا تلك.

“مِشْ عم أعرف إحكي”، قالت الحاجّة وهي تسكب القهوة وقد أخذتْ الرجفة بصوتها لتنهمر بعدها  في البكاء. لم تنزع بتول الـ Ear Phones من أذنيها على وقع بكاء أمّها، لكنّها أردفتْ هذا البكاء بدمع صامت راح ينسكب فوق خدّيها، ولست أدري بماذا كانت تخبرها فيروز في تلك اللحظات.

“كلّو راح”

تمامًا كمعرفتي بأحياء وشوارع وأزقّة الضاحية، أنا أعرف منطقة الليلكيّ وحيّ السلّم إلى حدّ كبير، ولم أخل في يومي أنّ ثمّة رابطة روحيّة قد تشدّ قاطني الليلكيّ وحي السلّم، إلى كلّ من هذين المكانين، بسبب ما يحفلا به من فوضى عمرانيّة وكثافة سكّانيّة وتداخل الشرفات بعضها ببعض، فضلًا عن تشابك أسلاك الكهرباء وحبال الغسيل واختلاط الزوايا والمنحدرات والطرقات… إنّما كلّا! فأحاديثي مع نازحي هذه الأماكن أفصح لي عن أنّ المكان بجوهره ليس مجرد إسمنت متراكم فوق بعضه البعض…

“بحياتي مَفكَّرتِش إنّي بحبّ الحيّ هلقدّ”، قال لي أحد الرجال وهو يترجّل من ڤانه (باصه) المركون لصق الرصيف حيث رائحة قهوة والدة بتول قد داخلتْ إلى أقصى الحواس.

لم أجد نفسي إلا وقد اختليتُ بنفسي بين جمهرة النازحين، أرتشف القهوة وأنصت إلى أحاديثهم، حول الأمكنة التي نزحوا عنها، وكأنّي عبر تداول عباراتهم ثمّة رغبة بشدّ أواصر علاقتهم مع تلك الأمكنة وإعادة إحيائها من جديد. قال حسين الذي كان ينفث دخان “الأرغيلة” بلا مبالاة مصطنعة، إذ أنّ ملامحه تشي بانفجار داخليّ مكبوت إلى حدّ الهذيان: “كلّو راح والله بيعلم شو مصيرنا”. ردّد هذه العبارة التي داخلتْ الدخان المنبعث من بين شفتيه ثمّ ركن إلى صمت امتدّ إلى كلّ الآخرين.

“المكان بجوهره ليس مجرد إسمنت متراكم فوق بعضه البعض”

… “الله بيعلم شو مصيرنا” كرَّر رجل عجوز عبارة حسين وهو يغالب زخّات القهر المنبعثة من بين جفنيه المتراخيين.

“الله يخلّيك…خَلّيْكْ بلبيت”…

لست أدري لمن كانت تتوجّه بتول بهذا “المطلع” الفيروزيّ الجميل. لم أجرؤ على أن أتوجّه إليها بسؤال حيال هذا الأمر، فحزن بتول في تلك اللحظات كان يضاهي بجرأته أيّ جرأة أخرى في العالم. فالحزن جريء، جريء جدًّا إلى حدّ رغبة المحزون في الموت… “أحلى شي الموت”، قالت الحاجّة والدة بتول وهي تحدّق في تعرّجات “الثفل” في قعر فنجانها وجدرانه.

“الله يخلّيك… خلّيك بلبيت”… كررتْ بتول بتمهّل مقصود وكأنّني بها تخاطب كلّ يوم من أيّامها في ذلك البيت.

أدوّن كلمات هذه المادّة وأنا أتخاطف النظرات بين جدران الغرفة، وتلك الكتب المتراصّة وقطع الأنتيكا التي أهوى جمعها منذ عقود وعقود. أدوّن الكلمات وأنا أمعن في النظر إلى وسادة اسفنجيّة أحبّها، وإلى كرسيّ خشبيّ، وفي وجه فتاة يشبه وجه بتول، معلّق فوق أحد جدران الغرفة. أسترسل – أنا العسراويّ- في رصف الكلمات وأنا أمرّر أصابع يديّ اليمنى فوق قماش الكنبة، وأكرّر مع بتول قولها: “الله يخلّيك…خلّيك بلبيت”. إذ يبدو أنّنا في هذه البلاد رهن التشرّد والنزوح الدائم، أمّا الاستقرار – كما تبدّى لي مشهد أهل الليلكي وحي السلّم– أمّا هذا الاستقرار حتّى وإن كان أبديًّا فإنّه موقّت على الدوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى