المؤرخ مزرعاني يلملم النبطية المفقودة – زهير دبس
في العام ١٩٧٦ حيث كان في الرابعة عشرة من عمره بدأ الباحث علي مزرعاني توثيق الاعتداءات الاسرائيلية والأحداث التي كانت تشهدها مدينة النبطية ومحيطها بشكل يومي ومن ضمنها الحروب الكبرى والاجتياحات، وهي وثائق ستأخذ طريقها للنشر ضمن كتاب سيصدر قريباً تحت عنوان «النبطية بين السياسة والأمن» وهو يؤرخ لمدينة النبطية ابتداءً من العام ١٨٨١- ٢٠١٨ وحتى اليوم. الكتاب يقول مزرعاني إنه يؤرخ لحقبة غير ملحوظة من تاريخ المدينة وغير موجودة في الكتب، عمل على توثيقها من خلال عمل استمر لحوالى عشر سنوات تمّ فيه إجراء عشرات المقابلات وتجميع مئات الوثائق من أشخاص ومكتبات وأماكن مختلفة كانت لا تزال تحتفظ بها.
يتابع مزرعاني: «ما أنجزته ووثقته عن تاريخ النبطية ومحيطها كان ضائعاً وغير مكتوب ولم يتطرّق إليه أحد، وهذا «سبق» قمت به على صعيد كتابة تاريخ المدينة، وما سأقدمه في كتابي المقبل هو تاريخ مهم جداً عن النبطية، وهو أخذ مني جهداً كبيراً في التفتيش والبحث والمتابعة. أضاف: ما وضعته عن النبطية ومحيطها في كتابي الأول عنها «النبطية في الذاكرة ١٨٦٠ – ١٩٩٩» وصدر في العام ١٩٩٩ هو أول كتاب يؤرخ لتلك الحقبة من تاريخ المدينة وقضائها على مختلف الصعد وضم ١٢٩ مرجعاً ومقابلة. الكتاب الثاني كان «قضاء النبطية في القرن العشرين» وصدر في العام ٢٠٠٢. ومن ثم «تاريخ العمارة في النبطية» الذي يوثق لتاريخ العمران في المدينة بكل تفاصيله الدقيقة، وأيضاً «فهرس جبل عامل» الذي صدر في العام ٢٠١٣ ويتضمن كل ما كتب عن جبل عامل في ١٣٠٠ كتاب ومنشور من جميع اللغات من العام ١٩٠٦ وحتى العام ٢٠١٣. بالإضافة إلى كتاب عن مناضل شيوعي كبير لن يتكرر من النبطية هو الأستاذ عادل الصباح الذي أعطى النبطية الكثير وكان وراء العديد من الصروح التي أنشأت مثل نادي الشقيف الذي تأسس في العام ١٩٦٤ وزاره كبار الشعراء أمثال محمود درويش ومظفر النواب وغيرهم وأول سينما والعديد من الجمعيات والأنشطة. وبهذه الكتب أصبح للنبطية وقضاؤها تاريخاً مكتوباً بعدما كان شفهياً ضائعاً.
يضيف مزرعاني: المراجع التي أتحدث عنها بعضها عبارة عن مقابلات مع معمرين، إحداها مع معمِّر شهد زيارة جمال باشا إلى النبطية، حيث حدثني عن تلك الزيارة بأدق تفاصيلها من زيارته للسراي وتناوله الطعام مع الجنود هناك ولقاءاته مع الأهالي، إلى سيارته التي أتى بها إلى المدينة حيث كانت أول سيارة تسير في شوارع النبطية، وقد توجّه منها إلى الطيبة للقاء كامل بيك الأسعد وكان ذلك خلال الحرب العالمية الأولى في العام ١٩١٥. ويشير مزرعاني إلى أن المراجع الأخرى تعود لوثائق مهمة لكن كانت مهملة.
بعد أربعين عاماً من عمله في توثيق تاريخ مدينة النبطية، أصبح تاريخ تلك المدينة ككف يده يحفظه عن ظهر قلب، فمزرعاني لم يترك شاردة أو واردة في النبطية لم يسجلها أو يحفظها أو يفتش عنها بلا هوادة وفي شتى المجالات، يعني «مفصلها تفصيل». وهو في هذا الإطار يقول «خدمت في الجيش اللبناني مدة ٣٣ عاماً أمضيت معظمها في مديرية التوجيه وهذا أكسبني خبرةً في الإعلام وفي التوثيق». يضيف مزرعاني «كنت حيادياً بالكامل في كتابة تاريخ النبطية ونقلته كما هو، بغض النظر إن كان ذلك يُعجب هذا أو يرضي ذاك فما حصل كان قد حصل وتحوّل إلى وقائع لا يستطيع أحد التعديل فيها».
علي مزرعاني هو مؤرخ تاريخ النبطية الحديث الممتد منذ حوالى الـ ١٢٠ عاماً وحتى اليوم. وفي هذا الإطار يقول مزرعاني «أنا امتداد للشيخين الكبيرين الذين كتبوا تاريخ المنطقة وهما من النبطية أقصد الشيخين سليمان ضاهر والشيخ أحمد رضا إضافة للمؤرخ محمد جابر آل صفا والشيخ أحمد عارف الزين وهم كانوا معروفين على صعيد الجنوب والمنطقة العربية وكانوا أدباء ومثقفين وشعراء وكان لهم دور بارز في النبطية وجبل عامل وتركوا وثائق مهمة.
عن الغنى في كتابة تاريخ جبل لبنان وقصوره عن ذلك في جبل عامل يقول مزرعاني «إن العديد من المخطوطات التي تتعلّق بتاريخ الجنوب أحرقت خلال هجمة أحمد باشا الجزار بعكس وثائق جبل لبنان التي حُفظت في الأديرة والكنائس”. وأشار إلى تاريخ جبل عامل يعاني الكثير من النقص في كتابته، وهذا ما أحاول التصدي له من خلال عملي في كتابة تاريخ النبطية أولا ومن ثم الجنوب ثانياً، فالنبطية والجنوب ليسا معزولين عن لبنان وهما جزء منه.
عن الذي تميزت به النبطية عن سواها من المدن والمناطق يقول مزرعاني إن أهل النبطية يتميزون تاريخياً بتنوعهم السياسي والعقائدي وبحبهم للحياة
عن طريقة عمله في كتابة تاريخ النبطية وقضاءها يقول مزرعاني إنه لم يكتفِ بالمعلومة فقط بل نزل إلى الأرض وتأكد منها، حيث ذهب إلى مواقع الآثار وأرفق كل ما كتبه بالصور والمستندات، وهذا الشيء لم يقتصر على الآثار بل شمل أول مدرسة وأول جمعية وتاريخ الأحزاب ونشوئها وكلها مدعمة بالصور والوثائق والشهادات.
عن عمر مدينة النبطية يقول مزرعاني إنها قديمة جداً من عهد الرومان لكنها بدأت تتبلور كمدينة منذ العهد الصليبي حين أتوا هؤلاء وأقاموا في قلعة الشقيف أي منذ حوالى الـ ٨٠٠ سنة. وأشار مزرعاني إلى أهمية سوق الإثنين في النبطية الموجود منذ مئات السنين وساهم إلى حد كبير في تطور المدينة. ولفت مزرعاني إلى وجود منازل في النبطية عمرها ٥٠٠ سنة، إضافة لآثارات من مختلف العهود البيزنطية والفينيقية وغيرها. وأشار مزرعاني إلى أن أول مدرسة رسمية أنشأت في النبطية كانت في أواخر القرن الـ ١٩. وعن قامات النبطية ذكر مزرعاني أسماء حسن يوسف مكي، الشيخ سليمان ظاهر، الشيخ أحمد عارف الزين الذي كان له وجود دائم في النبطية والمرجع عبد الحسين صادق وحسن كامل الصباح والفنان زعل سلوم وغيرها الكثير من الأسماء التي وردت في كتبي.
بالإضافة إلى كتبه عن النبطية ومحيطها أصدر مزرعاني ثلاثة إصدارات في العام ٢٠١٨ وهي «الإعلام والتوجيه في الجيش اللبناني ١٩٤٢-٢٠١٦» وهو يوثق للإعلام في الجيش اللبناني ودراسة عن مجلة «الجندي اللبناني» التي صدرت في العام ١٩٤٢
وأيضاً «الحزب الشيوعي اللبناني في أوراق الأمير فريد شهاب» و«النبطية بالأبيض والأسود» ويتضمن ألف صورة للمدينة. عن مشاريعه المستقبلية يقول مزرعاني «هناك كتاب قيد التحضير عن الإعلام الحزبي منذ العام ١٩٢٤ حتى العام ٢٠١٨ وهناك مشروع كتاب تحت عنوان «أطلس الحروب في جبل عامل» وهو يتضمن الخرائط الحربية التي حصلت في الجنوب. وأشار مزرعاني أن لديه العديد من الوثائق والصحف القديمة جداً وغيرها من المستندات القيمة التي تخدم موضوع التوثيق والتأريخ.
بين التصوير والبحث والتوثيق والعمل الصحافي يحط مزرعاني رحاله فيكتب دون ملل عن تاريخ حفر عميقاً في الأمكنة وفي الذاكرة، فيستحيل بين يديه كلمات وصور تحفظها كتبه، فيعيد نفض الغبار عن محطات مضيئة وشخصيات وأحداث ستتحول إلى وثائق تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل ولسان حاله يقول اللهم اشهد أني بلغت.