المتحف الفلسطيني في صور يحاكي آثار غزة المهدّدة بالزوال
في لحظة الدم المسفوك، يخجل المرء من الحديث عن الحجر، أو أيّ أثر ملموس مثل وثيقة، أو لوحة، أو تحفة، أو عملة قديمة، أو كتاب نادر، فهكذا نوع من الشكوى يُعتَبَر ترفاً في حضرة أرواح الأطفال التي تطير أسراباً نحو السماء في كلّ يوم من أيام غزّة الدامية.
في سياق متّصل، ثمّة من طرح فكرة تهجير أهالي غزة باتّجاه سيناء في مصر؛ ليردّ الرئيس المصريّ عبد الفتّاح السيسيّ بأن يتمّ نقلهم إلى صحراء النقب في فلسطين كبديل عن غزّة! الأمر ليس غريبًا على بعض التحاليل الغربيّة والعربيّة التي ترسم خرائط مبنيّة على تهجير سكّان القطاع من أراضيهم ومنازلهم إلى الأبد.
هكذا ننتقل في تقييم الطرح، من حالة الحرب التي تشبه الحروب في فلسطين والمنطقة، إلى حالة التطهير العرقيّ والثقافيّ، الذي يلغي الكيانات الحضاريّة للجماعات، تمهيداً لتأسيس تاريخ بديل يُصنع بالنار والموت والقهر. بالطبع ليست الحال بهذه البساطة، والميدان يشي بعكس ذلك لناحية الروح المقاوِمَة التي يتمتّع بها جميع سكّان غزّة وأهل فلسطين، فلا يسمحون لهكذا مخطّطات بالتسلّل، ليس في الحرب ولا في السلم.
آثار رومانيّة وبيزنطيّة في غزّة
بينما تقوم وسائل الإعلام بتغيير عدّادات الضحايا في غزّة، بين الساعة والأخرى، ثمّة خسائر هناك لا تقدَّر بثمن، بقيمتها المعنويّة، المتعلّقة بالتاريخ والذاكرة، القريب منها والبعيد. بعض تلك الأشياء شخصيّة خاصّة بكلّ عائلة على حدة، مثل تلك الصور القديمة الحافلة بذكريات الماضي، مِن أعراس ورحلات وأسواق، أو حتّى الصور الشمسيّة في الإستديوهات.
أيضاً هناك عصا الجدّ وكوفيّته، ومفتاح البيت العتيق، ووثائق الولادات من الزمن العثمانيّ أو الإنكليزيّ أو الفرنسيّ. أمّا إذا ما تناولنا المقتنيات والآثار الأبعد، فسوف نكون أمام مئات، بل آلاف القطع التي غالباً ما تضيع تحت الركام في جميع الحروب، خصوصاً تلك التي تهدم المباني من السماء، ساحقة كلّ ما فيها من نوادر ووثائق، بل إنّ بعض الأبنية هي آثار بحدّ ذاتها، ونحن نعلم أنّ كثيراً من البيوت والكنائس ومباني المستشفيات في غزّة، تمّ تشييدها منذ أكثر من مائتي عام.
تقوم وسائل الإعلام بتغيير عدّادات الضحايا في غزّة، بين الساعة والأخرى، ثمّة خسائر هناك لا تقدَّر بثمن، بقيمتها المعنويّة، المتعلّقة بالتاريخ والذاكرة، القريب منها والبعيد
وهناك آثار رومانيّة يفوق عمرها الألفي عام، بينما هناك آثار بيزنطيّة، مثل الكنيسة التي تضمّ مدافن وأرضيات من الفسيفساء وأعمدة من رخام، على مساحة 850 متراً مربّعاً، نصفها مرصوفة بالفسيفساء. أمّا عمرها فيزيد على 1700 عام، والكنيسة تلك، عاصرت منذ نشأتها 24 إمبراطورًا بيزنطيًّا و14 خليفة مسلمًا من الحقبتين الأمويّة والعبّاسيّة. إنّها مراحل تاريخيّة متنوّعة تصبّ بعض آثارها في متحف غزّة “الوحيد” الذي تجتمع فيه آلاف القطع الفنّيّة، من المعدن والرخام والفخّار. هذا المتحف مشروع لم يكتمل بعد كمنجَز نهائيّ، حتّى يومنا هذا.
بالنسبة إلى قصر الباشا، فهو يقع بحيّ الدرج، في البلدة القديمة من مَدينة غزة، ويُعدّ النموذج الأوحد للقصور المتبقّية في مدينة غزّة. يعود بناء هذا القصر إلى العصر المملوكي في زمن الظاهر بيبرس، سنة 1260 ميلاديًّا، على وجه التقريب.
أمّا متحف السيّدة سهيلة شاهين في غزّة، فيتضمّن مقتنيات عديدة، منها الثياب والمطرّزات والعملات النقديّة من مختلف العصور التي مرّت على فلسطين، بالإضافة إلى كلّ ما يتعلّق بالأدوات القديمة الزراعيّة، مثل المنجل والمحراث والشادوف والغربال وغيرها.
كما يضمّ المتحف زاوية مخصّصة للنحاسيّات، ومساحة للخيمة الفلسطينيّة. هكذا يتضافر ما هو رسميّ مع المبادرات الفرديّة التي ليست أقلّ منها.
“متحف دكوَر” الفلسطينيّ في لبنان
بسبب النكبة الفلسطينيّة في العام 1948، تمّ نقل الكثير من التحف والآثار والوثائق من فلسطين نحو الشتات، نجد بعضها في متحف المربّي الفلسطينيّ الراحل محمود دكوَر في البرج الشماليّ، قرب صور، ذلك المتحف الذي صار محجّة للمهتمّين، وكلّ باحث في التراث الفلسطينيّ، وكذلك لوسائل الإعلام، والمدارس.
على امتداد سنين طويلة، راكم دكوَر أكثر من ثلاثة آلاف قطعة قديمة، متعلّقة بفلسطين وتراثها، إضافة إلى ثلاثين ألف كتاب ووثيقة.
ولد محمود يوسف دَكْوَر في فلسطين، في العام 1937، وبعد النزوح إلى لبنان، حصل على إجازة في اللغة العربيّة وآدابها سنة 1967 وعلى دبلوم في التربية سنة 1968 من الجامعة العربيّة في بيروت، وعمل مدرّسًا ومديرًا في مدارس الأونروا في منطقة صور مدة 44 عاماً.
قبل رحيله بسنوات، زرتُ متحف دكوَر عند أطراف صور، وحاورت ذلك الرجل لساعات، حول شغفه بجمع كلّ ما يتعلّق بوطنه السليب، خصوصاً تلك العملات النقديّة والورقيّة، وأدوات الزراعة، ونحاسيّات المطبخ، وبعض الأسلحة القديمة. وكان عنده ركن للزيّ الفلسطينيّ ذي الزخارف المطرّزة بعناية.
وقتذاك، أسرَّ دكوَر أمامي بعض هواجسه، وقلقه من أن يتعرّض متحفه لأيّ شكل من أشكال الخطر، أو السلب، “ذلك لأنّ الإسرائيليّ يعمل بجدّ على محو التاريخ الذي يُدينه، ويُثبت متانة جذور الفلسطينيّين في أرضهم”.
تطرّقنا في تلك الجلسة إلى الجغرافيّ المصريّ الشهير جمال حمدان، الذي اشتغل على جغرافيّة مصر والمنطقة، بما يثبت هويّة أصحاب الأرض الحقيقيّين، وقد مات حمدان جرّاء حريق شبّ في بيته الصغير، تلف جميع أوراقه، بما فيها تلك التي خطّها عن فلسطين. البعض يقول إنّ الحادث كان عرضيًّا، وهناك من يرسم علامات الشكّ حول تلك الميتة المشؤومة.
إنقاذ الذاكرة الفلسطينيّة
من ضمن حوارات كثيرة أُجريَت مع محمود دكوَر، يروي قائلاً: “تمّ تأسيس المتحف فعليًّا سنة 1989، إذ كنتُ أحتفظ بهذه القطع في منزلي. في سنة 2004 سمحت لي الدولة اللبنانيّة ببناء هذا المكان، وهو عبارة عن متحف مع مكتبة عامّة كبيرة تضمّ مئات الكتب التي يعود تاريخها إلى القرنين السابقين”.
ويضيف:”جُمعت محتويات المتحف من جميع أنحاء العالم؛ من الفلسطينيّين في لبنان وغير لبنان، ممّن يملكون بعض هذه القطع، وكذلك من إخوة عرب خصوصاً من الإخوة اللبنانيّين، ومن أوروبّا وأمريكا. وكنت عندما أعلم عن وجود قطعة معيّنة نادرة من التراث الفلسطينيّ غير موجودة في متحفي، أسعى بسرعة كي أضيفها إلى محتويات المتحف ولا سيما العملة الفلسطينيّة”.
ويضيف: “أصبحتْ هذه القطع شبه مفقودة في الوقت الحاضر، لكنّني أعتبر أنّ العمل الذي قمت به هو إنقاذ لهذه القطع، حتّى تبقى في ذاكرة أولادنا وأجيالنا القادمة، ولكي يتعرّفوا على فلسطين، لا بل على تراث وحضارة فلسطين، ولكي تعطيهم الدافع الكبير حتى يتمسّكوا بتراب الوطن وأرضه، وبكلّ ما يتعلّق بفلسطين”.
يدرك خبراء الآثار تماماً أنّ الاسرائيليّين نهبوا آلاف القطع الأثريّة من أرض فلسطين، كما عادوا وفعلوها في جنوب لبنان، وتحديدًا في إبان اجتياحهم، في العام 1982. وهي عمليّات مقصودة، ومنظّمة، هدفها قطع الأوردة الحضاريّة بين سكّان هذي البلاد، وبين ماضيهم الضارب في عمق التاريخ، وما يجري من قتل ودمار في غزة، لا يندرج إلّا تحت هذه الخانة.