المتساقطات في أدنى معدلاتها وشح الأمطار يُقلق المزارعين

يتناقل اللبنانيّون مثلًا شعبيًّا في يوميّاتهم يقول: “أيلول طرفه بالشتا مبلول” ما يعني أنّ شتاءهم يبدأ أواخر أيلول (سبتمبر) أو ربّما مطلعه، لكن هذا العام، حتَّى كتابة هذه السطور، يعيش لبنان فصل صيف مُمددًا له أو مُجدّدًا له، إذ إنّ درجات الحرارة مرتفعة ونسبة المتساقطات شحيحة، بعدما طالت فترة الجفاف، ما يثير قلق الخبراء والمزارعين، وأيضًا أصحاب قطعان الماشية والنَحَّالين.

نتائج خطرة ومُقلِقة

لانحباس المطر وتأخّره طويلًا انعكاسات سلبيّة وتداعيات خطرة تطال نواحٍ عديدة بحسب ما يشرح المهندس الزراعيّ أحمد محي الدين في حديث لـ “مناطق نت”، فيقول: “على المستوى الزراعيّ هناك مخاطر تهدّد الزراعة التي تعتمد بنسبة كبيرة على مياه الأمطار، ما يُعَرَّضها لخطر الانخفاض في الكمّيّات المنتجة، وربّما تَلَف بعضها، ما ينتج عنه حكمًا ارتفاع أسعار المنتجات الزراعيّة، فاكهةً وخضارًا وحبوبًا”.

يتابع محي الدين: “أمّا على المستوى المائيّ فتأخر المتساقطات وبخاصَّة الثلوج وبالكمّيّات الطبيعيّة، سيؤدّي حتمًا إلى انخفاض منسوب المياه الجوفيّة والينابيع الدائمة والموسميّة، وربّما يَتَسَّبب أيضًا بجفاف السدود”. ويشير محي الدين إلى أنّ أخطر ما يؤدّي إليه انحباس المطر هو “التَغَيُّر المناخيّ الناجم عنه، وهو ما يتسّبب في اضطرابات تطال الغطاء النباتيّ والإنتاج الزراعيّ والحيوانيّ والنحل”.

شُحّ الأمطار يقلق المزارعين
ارتفاع درجة حرارة الأرض

ليس احتباس الأمطار وليد صدفة، بل هناك عوامل وسلوكيّات بشريّة تؤدّي إليه، ومن الأسباب العلميّة للانحباس المطريّ، ارتفاع درجة حرارة الأرض وفق ما قاله لـ “مناطق نت” الناشط البيئيّ بّول أبي راشد رئيس جمعية “الأرض- لبنان”، الذي أشار إلى أنّه “خلال مؤتمر بّاريس الذي عُقِد العام 2015 تمّ إقرار توصية بضرورة خفض درجة حرارة الأرض ما دون الدرجة ونصف 1,5، لأنّ الثورة الصناعيَّة أدَّت إلى انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون والميثان”.

يؤكّد أبي راشد صدور تقارير قبل أسابيع قليلة تفيد “بتخطّي درجة حرارة الأرض حاجز 1,5 درجة، حيث لم تستطع الإنسانيّة خفض انبعاث الغازات الدفيئة، وقد نتج عن ذلك اضطرابات مناخيّة عدّة، مثل العواصف الحراريَّة التي تؤدّي إلى الحرائق كما حصل في ولاية لوس أنجلوس الأميركيّة، أيضًا الجفاف في إسبانيا، وفيضانات غمرت مناطق كثيرة في العالم، لذلك ما يحصل في لبنان أمر عاديّ جدًّا ومُتَوَّقع”.

يتابع أبي راشد متسائلًا: “هل سَتُمْطِر؟ هل يستمر الجفاف؟ لا أحد يملك جوابًا، ممّا يُحَتّم علينا إعلان حالة طوارئ مناخّية، وحماية كلّ شجرة، وترشيد استهلاك المياه، ومحاربة الاستهلاك العشوائيّ للمياه بهدف الحفاظ على الثروة المائيّة، والمواجهة الإيجابيّة بالأفعال النافعة وليس بانتظار ما سيحدث”.

الأرقام مخيفة

الفوارق المُسَجَّلة في أرقام المتساقطات ومعدّلاتها، بحسب نشرة الأرصاد الجوّيَّة في مطار رفيق الحريري الدوليّ، بين التاسع من كانون الثاني (يناير) الحالي والفترة ذاتها من العام الماضي، مقلقة جدًّا، ففي مدينة بيروت كانت السنة الماضية 520 ملّيمترًا بينما هذه السنة 242 ملّيمترًا، في مدينة طرابلس كانت 540 ملّيمترًا حاليًّا 247 ملّيمترًا، أمَّا في زحلة فكانت 285 ملّيمترًا وحتَّى الآن بلغت 149 ملّيمترًا.

الفوارق المُسَجَّلة في أرقام المتساقطات ومعدّلاتها مقلقة جدًّا، ففي مدينة بيروت كانت السنة الماضية 520 ملّيمترًا بينما هذه السنة 242 ملّيمترًا، في مدينة طرابلس كانت 540 ملّيمترًا حاليًّا 247 ملّيمترًا

التقنين بدأ

أدَّى غياب الأمطار إلى إجراءات فوريّة في مصالح المياه، إذ قامت مؤسّسة مياه بيروت وجبل لبنان بإصدار بيان بتاريخ الـ 15 من كانون الأوّل (ديسمبر) 2024 أعلنت فيه عن تقنين قاسٍ في المناطق الواقعة في نطاق صلاحيّتها، من كسروان والمتن والعاصمة بيروت وشرحت المؤسسة واقع المياه بالقول: “نتيجة ضآلة المتساقطات لغاية تاريخه، انخفض منسوب مياه الينابيع بشكلٍ كبير، كما منسوب المياه داخل الآبار، وأصبحت المياه في كلّ من سدّ شبروح وبحيرة بقليع شبه معدومة”. ودعت المؤسّسة المواطنين إلى “أخذ العلم والترشيد في استخدام المياه إلى أن ينعم الله بمزيدٍ من الأمطار”.

التخزين ضروريّ

غالبيّة المياه العذبة في لبنان تتخزَّن في القمم الثلجيَّة، ثمَّ تتسرّب إلى جوف الأرض، القسم الأكبر منها يذهب هدرًا إلى البحر. دعا الخبير الأكّاديميّ الدكتور سمير زعاطيطي إلى ضرورة حماية التخزين الطبيعيّ للمياه وعدم العبث بالمخازن الطبيعيّة وتلويثها، فقال لـ “مناطق نت”: “لبنان بلد مائيّ في شرق أوسط جافّ، يجب علينا استثمار هذه الثروة بدل هدرها”.

يتابع زعاطيطي: “آن أوان اتّباع سياسة العلم والخبرة والكفاءة في مقاربة هذا الموضوع، بدل الاعتماد على وزراء الجهل والفساد والسرقة، واجب الدولَّة الاستفادة من هذه الثروة المتجدّدَة سنويًّا، وحمايتها من عبث العابثين عن قصدٍ أو جهل. لا يمكن أن نعطش في لبنان، هذه جريمة، هناك شيء اسمه علوم المياه، فمن من الوزراء عمل بخطط علميّة لإدارة الثروة المائيّة؟ جاؤوا إلينا بوزراء متخصّصين بعلم السرقة في ملفّات الطاقة والمياه، نأمل تغيّر ذلك في العهد المقبل”.

المزارع صالح الحجيري في أرضه في عرسال
المزارعون خائفون

بدأ المزارعون يلحظون التَّغَيُر المناخيّ منذ العام الماضي، وهو ما أدَّى إلى نضوج المواسم في وقت قصير، كما حصل مع مزارعي الكرز في جرود بلدة عرسال، حيث تَقَلَّص موسمهم من الشهرين إلى ثلاثة أسابيع.

عن نتائج تأخّر الأمطار يقول “المزارع العتيق” صالح الحجيري لـ “مناطق نت”: “الجفاف بدأ فعليًّا منذ أذار (مارس) السنة الماضية، حيث انخفض معدل المتساقطات بشكلٍ كبير. الشجر تعب كثيرًا من الأوراق إلى الجذور. أيضًا هذه السنة الأرض ما زالت قاحلة “عفير” ما يوحي بأنَّنا أمام صعوبات كبيرة ستواجه المزارعين، وبخاصّة أولئك الذين لديهم بساتين بعليَّة بالكامل، فتأخُر المطر يمنع أيضًا فاعليّة الأدوية والكيماويّات، التي ينبغي استعمالها وفق كمّيَّة محدَّدة من الأمطار”.

حول أهمّيّة انخفاض درجات الحرارة بالنسبة لبعض أنواع الشجر والنباتات يشرح الحجيري: “تُحِبّ شجرة الكرز البرودة والجليد، بينما نحن اليوم في كانون الثاني حيث إن درجة الحرارة تلامس الـ 15 درجة مئويّة، بينما الطبيعيّ أن تكون صفرًا أو تحته في مثل هذه الأوقات، كذلك بعض النباتات الشوكيّة التي تُشَكّل الغطاء النباتيّ في جرودنا والتي تتطلَّب برودة في الطقس لاكتمال نموّها، وفي غياب هذا العامل، فإنّ ذلك يؤدّي إلى تكاثر بعض أنواع الحشرات والديدان الخطرة على المزروعات، بينما يقضي الجليد عليها ويمنع خطرها عن النباتات، على أمل أن يرسل الله المطر والخير لنا في هذا البلد وغيره، لقد تعب اللبنانيّ وآن له أن يستريح” يختم الحجيري.

يبقى التخطيط ورَسْم الاستراتيجيّات المستقبليَّة من ملامح الدول والمجتمعات الناجحة الناضجة، حتَّى تصل دولنا وحكوماتنا وصُنَّاع القرار في بلادنا، إلى هذا المستوى من وعي المسؤوليّات وتَحَمُّلِها، يبقى التَّضَرُع إلى الله، سبيل اللبنانيّ الوحيد، في الاستسقاء والحصول على الأمطار للشرب وريِّ مزروعاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى