المختار ذاك الطيف الرمزيّ في الدراما اللبنانيّة

هو تقاطع الزمن الدراميّ مع الزمن السياسيّ. نحن في خضمّ انتخابات بلديّة واختياريّة في لبنان، حيث يعود المختار إلى الساحة لا كشخصيّة فولكلوريّة بل كلاعب فعليّ. إنّه الوجه الذي نعرفه في مشهد سياسيّ فقد ملامحه. يطلّ علينا من مسرحيّات الماضي، لا ليذكّرنا بما كنّا عليه وحسب، بل ليقارن بين طهارة الكاريكاتور وفساد الحقيقة.

في ثقافة باتت تمزج الجدّ بالهزل، يصبح رئيس البلديّة نسخة باهتة من “يا رئيس البلديّة”، وتتحوّل الانتخابات إلى عرض مسرحيّ بلا موسيقى. وهكذا، يصبح الماضي الرحبانيّ وسيلة نقد غير مباشرة للواقع، كما لو أنّ رموز “سهرة حبّ” تعرف سلفًا أنّ الحبّ في لبنان يمرّ عبر صندوق اقتراع، وأن “كرمال وردة الجوريّة” قد يُباع صوت انتخابيّ.

شيفرة القرية المتخيّلة

في لحظة يبدو فيها البلد وكأنّه يتأمّل صورته في مرآة قديمة متشقّقة، تعود إلينا مسرحيّة “سهرة حب” (1971) كمنفضة غبار من الذاكرة، لا لتستعيد فنًّا غنائيًّا استعراضيًّا وحسب، بل لتفكّك، دون أن تدري، بنية رمزيّة شبه سياسيّة، إذ تنزلق السلطة المحلّيّة إلى الحكاية، وتتماهى البلديّة مع الحبّ، والوردة الجوريّة مع السيادة اليوميّة. هذه المسرحيّة، التي جمعت أعمدة الغناء اللبنانيّ (فيروز، وديع الصافي، نصري شمس الدين) وألحان الأخوين رحباني وفيلمون وهبة، ليست مجرّد عرض فنّيّ بل شيفرة للوطن الرحبانيّ المخترَع.

المختار طيف يدير الطقس المدنيّ

منذ بدايات المسرح الرحبانيّ، كان “المختار” أكثر من موظّف رسميّ. إنّه تجسيد لفكرة السلطة غير المُمَركَزة، تلك التي تأتي من معرفة تفاصيل القرويّ وحلمه وملفّه العاطفيّ. في “ميس الريم”، يظهر المختار (إيلي صنيفر) في نبرة كاريكاتوريّة، لكنّه يحمل تحت عباءته عبء قريةٍ بكاملها. وفي “بيّاع الخواتم”، يتورّط المختار في خديعة جماعيّة فيظهر كمن يعرف أنّ الحقيقة وهمٌ جميلٌ يجب الحفاظ عليه. أمّا في “سفر برلك”، فإنّ نصري شمس الدين، بجبينه المقطّب وحنجرته الجبليّة، يلبس عباءة المختار الذي ينحاز إلى الثوّار، في لحظة يصبح فيها العرفُ أقوى من القانون.

نصري شمس الدين في دور المختار مع فيروز في فيلم بياع الحواتم

المختار في المخيال اللبنانيّ ليس تمثيلًا للبيروقراطيّة، بل هو ما يشبه “الضمير المتجوّل”، رجل يعرف من مات ومن تزوّج ومن عاد من الغربة، ويُمسك بمفتاح الجماعة أكثر ممّا يمسك بختم الدولة. بينما رئيس البلديّة لم يحتلّ الواجهة الدراميّة إلّا ما ندر، ربّما لأنّ المختار كيان وسلطة مستقلّة، بينما البلديّة أداء جماعيّ.

عا سطح البلديّة

تبدأ الأغنية “عا سطح البلديّة” بلحظة شخصيّة حميميّة، فتبدو كأنّها عن حبّ ضائع، أو قبلة لم تتمّ. لكن السطح ليس سطح بيت، بل “البلديّة”. نحن أمام مشهد غراميّ يحدث على طاولة السلطة المحلّيّة. هنا لا تعني البلديّة المبنى الحجريّ وحسب، بل تمثّل فكرة السلطة المدنيّة في لبنان، تلك التي تتوزّع بين المختار، رئيس البلديّة، والمخبر المحلّيّ. في الأغنية، تُستعاد القصّة العاطفيّة كـ “أرشيف بلديّ”، يذكّرنا بأن الذاكرة اللبنانيّة لا تُخزّن في مكاتب رسميّة بل على الشرفات، وفوق الأسطح، وفي الأغاني. الأسطح، كما تعرف الثقافة الشعبيّة، هي حدودٌ بين الخاص والعام، بين ما يُرى وما يُسرق من العين، ومن هنا فإنّ فيروز، في تلك الأغنية، تمارس “احتلالًا غنائيًّا” للمؤسّسة، وتحوّل السطح الإداريّ إلى مساحة عشق.

مختار “الدنيا هيك”

في مسلسل “الدنيا هيك”، لا يظهر المختار محمّد شامل كبقيّة من زمن الفلاحة أو وريثًا لسلطة الطربوش والشاربين، بل يتقدّم كرجل مدينيّ بملامح مدنيّة خالصة. لا شروال، لا عصا، ولا حتّى استعراض للهيبة. مجرّد قميص مكويّ، وربطة عنق خفيفة، ونبرة هادئة تقطع الصخب من دون أن تجرحه. لا شيء فيه يوحي بالاستعلاء، ولا شيء يشي بالهامشيّة. هو ليس في الأعلى ولا في الأسفل، بل في الصلب الرماديّ من يوميّات الحيّ.

في الغالب تدور الأحداث في قهوة الدِّرْوَندي، كما تدور الملاعق في كؤوس الشاي، لا تحضر الدولة. لا شرطيّ ولا محكمة ولا بلديّة. النظام الوحيد الممكن هو النظام الذي يصنعه الانفعال، ويتكفّل المختار بتهذيبه. إنّه لا يحكم، لكنّه لا يُحكم. دوره ليس إصدار الأحكام، بل تأجيل الانهيار. طاولة المقهى تتحوّل إلى مسرح لجدال لا يُفضي إلى قرارات، لأنّ المشكلة ليست في القانون بل في النفس. نزوة من علّوش، غيرة من زمرّد، أو زلّة لسان من بلبل، تكفي لإعادة خلط أوراق الشارع.

في مسلسل “الدنيا هيك”، لا يظهر المختار محمّد شامل كبقيّة من زمن الفلاحة أو وريثًا لسلطة الطربوش والشاربين، بل يتقدّم كرجل مدينيّ بملامح مدنيّة خالصة.

غياب الدولة هنا ليس صدفة، بل سمة دراميّة مقصودة. فالحيّ يُدار بكلماتٍ منزوعة من اللغة الرسميّة، وأفعالٍ لا تمرّ عبر المؤسّسات. كأنّه خيط رفيع يشدّ أطراف المدينة من أن تنفلت. لا يتدخّل في كلّ شيء، لكنّه حاضر كظلّ مألوف، كحيادٍ يُفترض أنّه طبيعيّ، على رغم أنّه صُنع من تراكم التجربة والاحتكاك. وحين يتكلّم، لا يرتفع صوته. فقط الكلمات تنزل في المكان المناسب، كأنها وُلدت هناك.

العمق المدينيّ لمسلسل “الدنيا هيك” يتمظهر بشكل صارخ في شخصيّة كوكو، إذ إنّه شاب ينتمي إلى تيّار الخنافس، بشعره وقلادته وثيابه، ولا مبالاته المتمثّلة بالعلكة التي يمضغها في جلّ المشاهد. هنا نتنبّه أنّ كوكو يعيش مع والدته وردة وفي كنف زوجها بلبل، الشخصيّة الوحيدة التي ترتدي الطربوش في المسلسل، وكأنّ شامل تعمّد توليد التنافر والتناقض بين الكاراكتيرين.

غياب وحضور

على الرغم من حضور المختار في عديد من الأعمال الدراميّة اللبنانيّة، فإنّ تمثيله لم يكن متوازنًا عبر مختلف الأنواع والسياقات الفنّيّة. فقد تجلّى حضوره بوضوح في المسلسلات التي تناولت حقبًا تاريخيّة دامية، وخصوصًا تلك التي استحضرت أجواء المجاعة الكبرى خلال الحرب الكونيّة الأولى، حيث كان المختار يُستدعى بوصفه شاهدًا على فقر الجماعة وصراعاتها اليوميّة، أو كرمز هشّ لسلطة محلّيّة تئنّ تحت وطأة الكارثة.

غير أنّ هذا الحضور لم يجد له مكانًا في الأعمال التلفزيونيّة الأشدّ رسوخًا في الذاكرة الشعبيّة، مثل “أبو ملحم” و”أبو سليم الطبل”، إذ غاب المختار كلّيًّا أو أُقصي لصالح نماذج أخرى من الزعامة الشعبيّة والبطل الكاريزميّ، في حين تلاشت صورته تمامًا في كلاسيكيّات دراميّة ذات طابع حداثيّ أو رمزيّ مثل “ديالا” و”عازف الليل”، وحتّى في الكوميديا الاجتماعيّة الخفيفة مثل “المعلّمة والأستاذ” و”الكابتن بّوب”، لم يُترك له أيّ هامش للظهور، ما يعكس انزياحه التدريجيّ عن المخيال المدينيّ لصالح شخصيّات أكثر توافقًا مع إيقاع المدينة المعاصرة.

المختار محمد شامل وممثلو مسلسل الدنيا هيك

أمّا على خشبة المسرح، فقد ظلّ المختار يحجز لنفسه موقعًا، وإن بدرجات مختلفة من الرمزيّة والتوظيف الجماليّ. ففي أعمال روميو لحّود وجيرار أفيديسيان، كان المختار بمثابة حامل للذاكرة، مرآةً للقرية وعمقها السرديّ، في حين عمد زياد الرحبانيّ إلى تفكيك هذه الصورة عبر عدسة ساخرة وناقدة. ففي مسرحيّته “شي فاشل”، ظهر المختار بشكل كاريكاتوريّ، شخصًا خاضعًا لابتزاز السوق والتلفزيون، إذ يطلب منه منتج المسرحيّة (ضمن الحبكة الميتا-مسرحيّة) أن يؤدّي مشهدًا حميميًّا مع فتاة نقيّة، في مفارقة قاسية تفضح كيف يمكن للسلطة المحلّيّة – مهما بدت بريئة – أن تتحوّل إلى أداة ترفيهيّة فاقدة للمعنى، أو تُفرّغ من رمزيّتها بفعل السوق والابتذال. هذه المفارقة الرحبانيّة كانت بمثابة دفن ناعم لصورة المختار الكلاسيكيّة، ليس عبر العنف، بل عبر تحويله إلى مادّة ضاحكة، أيّ إلى طيف غير جدير بالرهبة أو التقدير.

ما تبقّى من المختار

لم يعد المختار ذاك الذي يوقّع على إخراج القيّد فقط، بل من يمثّل الإخراج الجماعيّ للهويّة من الدوائر الرسميّة نحو الذاكرة. ربّما لهذا السبب ظلّ المختار – في المخيال الرحبانيّ- أكثر حضورًا من الوزير، وأكثر فصاحة من النائب. فالمختار لا يملك “برنامجًا انتخابيًّا”، بل يملك شجرة عائلة. لا يقيس شعبيّته بعدد اللايكات، بل بعدد الذين يثقون بأنّه لن يخونهم في غياب الدولة.

وإذا كانت السلطة قد تحوّلت اليوم إلى حفلة تنكّريّة، فإنّ المختار يظلّ ذلك القناع الذي يشبه الوجه الحقيقيّ. وجهٌ يعرف أنّ السطح ليس فقط للبناء، بل للحلم. وأنّه في بلدٍ فقدَ العمق السياسيّ، لا بدّ من العودة إلى السطح، “سطح البلديّة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى