المختار في ذاكرة القرى طربوش وشاربان وختم و”يا مختار المخاتير”
يعكُس استحضار شخصيّة “المختار” في عديد من الأعمال الفنّيّة اللبنانيّة ماضيًا، وتحديدًا الرحبانيّة منها، أهمّيّة تلك الشخصيّة ومحوريتها في حياة القرى والبلدات، خصوصًا الريفيّة والنائية. وعلى الرغم من أنّ استحضار تلك الشخصيّة وتناولها لم يكن واحدًا، إلّا أنّها أجمعت على أهمّيّة دور المختار ومركزيّته في معالجة شؤون البلدات والقرى.
أسهمت تلك الأعمال الفنّيّة إلى حدّ بعيد في بلورة صورة نمطّية للمختار، والتي تحوّلت مع الأيّام إلى مرادف فولكلوريّ لصورة الدولة الصوريّة والهشّة والطريفة في آن. وهو ما تفصح عنه ذاكرتنا ومخيالنا الذي يحتفظ بتلك الصورة، وهي عادة ما تقترن برمزيّة الطربوش أو “الحطّة والعقال” والشاربين، والعصا والختم والأوراق الصفراء.
مختار المسرح والشاشة
لم تتماثل شخصيّات المخاتير في ساحات القرى، مع أدوارهم التي قُدّمت على خشبات المسرح، لكنّها في الأخير لم تأتِ من فراغ، فاختلفت بين عمل وآخر وبين منطقة وأخرى، فهي في “بيّاع الخواتم” مع المختار الذي أدّى دوره الممثّل والمطرب المبدع نصري شمس الدين طريفة هزليّة، تنسج من الخيال حكايا تسلّي الناس، وتستحوذ على تفكيرهم، وفي “ميس الريم” أيضًا متهالكة مع مختار المخاتير إيلي صنيفر، حيث أراد الرحابنة من خلاله إظهار شيخوخة الدولة وهرمها. لكن اختلف ذلك في فيلم “سفربرلك” مع نصري وهو أكثر من أبدع في تأدية دور المختار، حيث الجدّيّة والمسؤوليّة والدور الأساس في عمل المقاومة وتأمين الطعام للأهالي. وهو يؤشّر إلى أنّ وجود المختار في القرى اللبنانيّة قديم جدًّا ويعود إلى الحقبة التركيّة.
ولأنّ شخصيّة المختار تختلف بين منطقة وأخرى، تبعًا للطبيعة المجتمعيّة التي تتميّز بها المناطق، فإنّها في المدن وتحديدًا في بيروت اختلفت جذريًّا من حيث الصورة والشكل والأسلوب، فهي مع المختار محمّد شامل في مسلسل “الدنيا هيك” تلبس بدلة وكرافات، وتنحو إلى البساطة، لكنّها لم تحد عن دورها العام في المشورة والرأي الصائب، والحكمة في معالجة الأمور، وإن أخذت مع شامل الطابع الطريف في ذلك.
مختار الأمس
اختفت اليوم شخصيّة المختار التي انطبعت في أذهاننا، نتيجة تطوّر الحياة وتغيّرها. أطاح بها العالم الرقميّ، لكن لا يزال المختار حاضرًا، وإن خفّ بريقه، وتغيّر دوره واضمحلّت مهامه وصورته. لكنّ تلك الشخصيّة ما زالت ماثلة في أذهاننا بمجرّد ذكر القرية بصيغتها الماضية وتاريخها وحياتها وشخصيّاتها، فالمختار في حينه كان زعيم القرية ومدبِّر شؤونها وموحّد كلمتها والناطق باسمها، فإذا ما حاق بالقرية خطر لا بدّ أن يجتمع الأهالي أو وجهاء البلدة عند المختار لبحث الأمر، واتّخاذ ما يلزم من إجراءات، فينصتون إلى رأيه بتهيّب ووقار، وغالبًا ما تكون تعليماته مطاعة من قبلهم، وللمختار “مونة” على الكبير والصغير بينهم.
لم تقتصر اهتمامات المختار على القضايا العامّة التي تخصّ أحوال القرية، بل تعدّتها إلى الأمور الاجتماعيّة والعائليّة، فإذا شاء أحدهم خطبة فتاة لابنه فمن المسلّم به أن يكون المختار على رأس وفد “الطلْبة”، وهو الذي يبدأ الكلام في تلك الجلسة الحسّاسة، حيث يجب أن ينتقي كلماته بدقّة وتأنٍّ، وقلّما يُرفض طلب وفدٍ على رأسه المختار.
لم تقتصر اهتمامات المختار على القضايا العامّة التي تخصّ أحوال القرية، بل تعدّتها إلى الأمور الاجتماعيّة والعائليّة، فإذا شاء أحدهم خطبة فتاة لابنه فمن المسلّم به أن يكون المختار على رأس وفد “الطلْبة”
“حلّال المشاكل”
وإذا حَمِيَ وطيس معركةٍ بين جار وجاره، أو بين أخٍ وأخيه، فإنّ المختار لها، وقلّما يستعصي عليه حلّ أيّ مشكلة تطرأ في البلدة. وإذا حدثت حادثة أو ظاهرة في البلدة من سرقة أو تعدّيات، أو غير ذلك، فعلى المختار أن يستدعي أبناء البلدة، ويبحث معهم أو يقترح عليهم حلًّا لها، وهكذا يتّخذ صفة قاضي الأمور المستعجلة بين الأهالي، وإليه يلجأون لحلّ مشاكلهم، ولا يتوجّهون إلى السلطة القضائيّة الرسميّة إلّا في ما ندر، لكن وفق القانون يلعب المختار دور الضابطة العدليّة، وهو جزء منها.
هذا الدور الذي كان يُتقنه المختار، يعود في الأصل إلى شخصيّته التي على أساسها اختير مختارًا، كما أن بعض الصفات يكتسبها اكتسابًا من خلال ممارسته لدوره، أو استشارته لمخاتير سابقين وعقّال البلدة، دون أن ننسى دور أعضاء المجلس الاختياري، الذين يشكّلون مجلسًا استشاريًّا للمختار، كما أنّ لهم دور تقريري أو تنفيذي أحيانًا في بعض المهام الرسمية والقانونية.
فكاهة وحضور
إضافة إلى القواسم المشتركة الكثيرة التي كانت تتّسم بها شخصيّات المختارين، إلّا أنّ كثيرين منهم كانوا يتمتّعون بحسّ الفكاهة وسرعة البديهة والخاطر، وهذا لم يكن يقلّل من شخصيّاتهم، التي في الغالب كانت شخصيّة تمتاز بإحقاق الحقّ والكرم والحزم، وفي مقدّمة هذه الصفات محبّة المختار لأهل بلدته، فهو موضع ثقتهم، وتمتّعه بالصدق والاستقامة وسعة الصدر وسلاسة القول، وبُعد النظر وقوّة الشخصيّة والقدرة على الإقناع، أو ما يُسمى اليوم بـ”الكاريزما”، وأن يكون غير منحازٍ لمصالحه الخاصّة ولا ساعٍ لمكاسب مادّيّة، وأن يخدم الجميع بالتساوي وبلا منّة.
فإذا فقد المختار بعضًا من هذه الصفات، يبدأ التململ والشكوى منه تدريجًا إلى أن يفقد جزءًا من هيبته وشعبيّته، وبالتالي طاعته بين الأهالي. لكن على الرغم من ذلك، كان قسم كبير من المخاتير يشكّلون مفاتيح انتخابيّة في بلداتهم وقراهم، وكثيرون منهم توزّعت ولاءاتهم على الزعامات الاقطاعيّة.
للمختار قديمًا، ما يشبه الصورة النمطيّة من حيث الشكل، فهو ذلك الشخص البهيّ الطلعة، والضخم القامة، وغالبًا ما يعتمر طربوشًا على رأسه أو “الحطّة والعقال” ويلبس العباءة العربيّة المطرّزة الجوانب، الجميلة اللون والجيّدة القماش. ولا بدّ من أن تكون سُبحته في يده، وأن يجلس في مقدّمة الحضور، ويتقدّم الوفود و”الجاهات”، وكثيرًا ما يكون منصب المختار، متوارثًا في العائلة، من الجدّ إلى الأب، فالابن فالحفيد، وغالبًا ما يكون محصورًا في العائلات الكبيرة.
اكتفاء مادّيّ
لم تكن المخترة في ما مضى مصدرًا لعيش المخاتير، فمعظمهم لم يكن يتقاضى أجورًا على المعاملات التي كان ينجزها، وبعضهم كان يدفع من ماله الخاص. فالمختارون كان لديهم مهنهم الخاصّة التي يعتاشون منها، إلى جانب أعمالهم في “المخترة”، ولطالما أفقرت “المخترة” غنيًّا لأنّ ثمن الوجاهة غال. لذلك وعلى رغم جاذبيّة المركز، كثيرون كانوا يتجنّبونه خوفًا ممّا يتطلبه من جهد ووقت ومال، كما أن العمل في الشأن العام يجلب أحيانًا المشاكل والكره والعداوة والتهم الباطلة، لأنّ إرضاء جميع الناس فيه كثير من المشقّة والصعوبة.
حتّى أواسط الثمانينيّات من القرن الماضي، استمرّت شخصيّة المختار ودوره وصورته على ذلك المنوال، إلى أن بدأت التغييرات الجذريّة والتحوّلات تلفح تلك الشخصيّة وذلك الدور. السبب الأوّل في ذلك الأحزاب والحرب والفوضى التي سادت البلدات والقرى، وأفقدت المختار كثيرًا من زخمه، فبدأ تدريجًا يفقد دوره وحضوره لصالح جهات عديدة منها رئيس البلديّة أو إمام البلدة، ومنها المسؤول الحزبيّ وشيوخ العائلات أو بعض مثقّفيها أو أغنيائها ومتنفّذيها، وأصبحت المصالح السياسيّة مصحوبة بالتوازنات العائليّة تلعب أدوارًا أساسيّة في انتخاب المختارين الذين تضاعف عددهم وفق القانون نسبة لعدد الناخبين.
“المخترة” مصدر عيش
مع معاودة تنظيم الانتخابات البلديّة والاختياريّة في العام 1998، بعد انقطاع دام ثلاثة عقود ونصف العقد، لم تعد المخترة بعد تلك الانتخابات كما كانت قبلها، فقدت حيزًا كبيرًا من حضورها وتقاليدها وعاداتها ووجوهها. وإن لم تتغيّر مهام المختار، إلّا أنّ كثيرًا ممّا كان يمارسه اندثر واختفى. أثّرت ضغوط المعيشة في كثيرين ممّن يتبوّأون منصب مختار، وأدّى ازدياد الطلب على المعاملات إلى مضاعفة عمله، فتفرّغ إلى تلبية طلبات الناس وبالتالي تحوّل في جزء كبير من مهامه إلى معقّب معاملات، مقابل بدلات مادّيّة.
شيئًا فشيئًا اختفى تقريبًا دور المختار المصلح، وزعيم القرية وأصبح دوره يقتصر على إنجاز إخراجات القيد وشهادات الولادة والوفاة وما شابه، إلّا قلّة منهم ما زالوا يصارعون للحفاظ على صورة ودور وصفات المختار كما كانت قديمًا، وهو أمر صعب لأنّ الحياة تغيّرت.
تبدّل الصورة النمطيّة
لم يعد المختار يعتمر الطربوش الأحمر على رأسه، ويعقف شاربيه، ولم يعد يلبس الشروال أو القمباز ويحمل عصاه. صار يلبس أحدث الماركات من “الجينز” ويصفّف شعره وفق أحدث التسريحات، يتلقّى طوال النهار طلبات المواطنين على هاتفه الخلويّ. حلّ المكتب مكان المنزل أو الدكّان، و”اللابتوب” مكان الدفتر الأسود المجلّد والعتيق. ولم يعد المختار كبير السنّ، أصبح بعمر الـ25 عامًا مثل مختار كفررمان جاد ضاهر وهو أصغر مختار في لبنان.
لم تعد صورة المختار ذكوريّة بامتياز، غزتها النساء وأصبحنَ يتبوّأنَ ذلك المنصب، غدونا نرى امرأة “مختارة” تتلقّى طلبات المواطنين وتنجز معاملاتهم.
يؤشّر اختفاء صورة المختار كما عهدناها في الماضي، وترسّخت في ذاكرتنا، إلى تحوّلات جذريّة وعميقة شهدتها القرى التي لم تعد كذلك. لقد جرفت الحروب والفوضى العمرانيّة وما يسمّى استصلاح الأراضي، معالم الريف وحوّلته إلى طبيعة أخرى تسودها الحداثة. مع تلك التحوّلات اختفت حقبات غنيّة ومهمّة من تاريخ القرى، أصبحت من الماضي، كان أحد رموزها الجميلة والغنيّة صورة المختار التي وبالرغم من أنّها اختفت من ساحات القرى، إلّا أنّها ستبقى عميقة في الذاكرة.