المدارس الخاصة في النبطية تملأ فراغ الانهيار.. دولرة الاقساط ومضاعفتها
منذ بداية الأزمة يعاني القطاع التّعليمي في لبنان وتحديدًا الرسمي من شبه شلل ومشاكل كبرى، أودت بأعوام دراسية إلى الضياع، والتعليم إلى الانهيار. نتيجة ذلك اتّجه الأهالي نحو المدارس الخاصّة تجنّبًا لما حدث هذا العام في المدارس الرّسميّة من إضرابات وعطل قسريّة وإهمال للمنهاج التّعليمي الّذي بدأ يتناقص سنة بعد أخرى بحجّة ضيق الوقت، ما زاد الضّغط على التعليم الخاص، تحديدًا المدارس والثّانويات الخاصّة الّتي بدأت تستغلّ وتحتكر هذا التحوّل الّذي طرأ بعد 17 تشرين.
صعوبات وتحدّيات جديدة تواجهها الأسر الفقيرة والمحدودة الدّخل في النّبطيّة، والنّاتجة عن الزّيادات المضاعفة والمرتقبة للأقساط المدرسيّة الّتي بدأت إدارات المدارس تعلن عنها تباعًا.
لم تنتهِ هذه السنة الدراسية بعد، إلا أنّ الأسئلة والهموم بدأت منذ الآن تدور حول السنة المقبلة، خصوصًا بعد الحديث عن رفع الأقساط في المدارس الخاصة بشكل خيالي ودولرتها بالكامل. هذه الزيادة المفاجئة والخياليّة في آن كشفت المستور عن هشاشة القطاع التّعليمي الّذي فقد الكثير من مقوّماته تحت وطأة الإنهيار الّذي يعيشه القطاع المأزوم والبلد معًا، وذلك منذ حوالي الأربع سنوات ولا يزال.
مصير التعليم الرسمي مجهول حتى الساعة، والمعنيون خارج التغطية، وفي المقابل لا ضوابط أمام المدارس الخاصة، فهل يلجأ الأهالي إلى المدارس الرسميّة مجهولة المصير مجدّدًا، أم هل يثقون بالمدارس الخاصّة الّتي غلب عليها الطمع واستغلّت حال الأهالي المجبرين على الانصياع لمصير أولادهم بدقّة ومسؤوليّة، وبتعب يؤمّن رسم التّسجيل المدرسي!
النبطية.. نموذج عن استغلال القطاع الخاص للأزمة!
النبطية حاضرة جبل عامل، حلقة الوصل بين الساحل والجبل والداخل، المحافظة والمدينة التي باتت مقصداً لكل باحث عن العلم والمعرفة. تضم منطقة النبطية والجوار حوالي 25 مدرسة، بين ابتدائية وثانوية، رسمية وخاصة. إضافة إلى فروع عدة للجامعة اللبنانية، فضلاً عن عدد كبير من المعاهد والحضانات. كل هذا جعل من النبطيّة مساحة تضج بالآتين من مختلف المناطق المجاورة حتى تلك القرى البعيدة، إلا أنّ ما حصل في السنوات الأخيرة قلب المعايير وغيّر كل الخطط.
فمع الانهيار الاقتصادي الذي أطاح بالقطاعات كلها ومنها الرسمي، أكملت جائحة كورونا على ما تبقى مفسحة المجال بعدها للإضرابات المطلبية للأساتذة الرسميين. والنتيجة كانت أن تعلّم طلاب المدارس الرسميّة في السنة الأخيرة حوالي 60 يوماً فقط، بينما تعلم نظرائهم في المدارس الخاصة حوالي 130 يوماً، وبذلك تكون الفئة الأولى قد خسرت بمعدل نصف السنة.
تضم منطقة النبطية وجوارها حوالي 25 مدرسة، بين ابتدائية وثانوية، رسمية وخاصة. إضافة إلى فروع عدة للجامعة اللبنانية، فضلاً عن عدد كبير من المعاهد والحضانات
حتى هذه اللحظة لا خطط ولا حلول واضحة. في المقابل بدأت المدارس الخاصة تعلن عن أقساطها الخيالية، فقد تحدث الأهالي لـ “مناطق نت” أنّ أرقام بدل الأقساط التي وصلتهم تترواح بين 900$ وجزء بالليرة اللبنانية و 1000$ وحوالي 5 ملايين ليرة لبنانية، والأدنى بينها سيترواح قسطها بين 550$ و6 ملايين ليرة لبنانية. كل هذا “التعالي” بالأقساط مرده أنّ الحلول الممكنة أمام الأهالي قليلة، وهي إما أن يرضخوا ويعملوا ليلاً ونهاراً لتأمين “الفريش دولار” أو أن يخسر أبناءهم فرصة التعليم، والخيار الأخير أن يرسلوهم إلى المدارس الرسمية المحكومة بمصيرها ومستقبلها المجهول.
في محاولة لتقصّي واقع الحال، أشار مدير ثانوية حسن كامل الصباح الأستاذ “عباس شميساني” في حديث لـ”مناطق.نت”، إلى أنّ واقع القطاع مؤلم معتبراً أنّه هناك تصميم على تدمير القطاع الرسمي في لبنان. وكشف أنه في السنوات الأربعة الأخيرة خسرت الثانوية حوالي 400 تلميذ، وتحديداً في السنة الأخيرة تدنى العدد بحوالي 200 تلميذ بسبب الاضرابات الأخيرة. ويلفت إلى أنّ عامل النقل أثر بشكل كبير، فبعدما كانت الثانوية مقصداً لمختلف القرى والبلدات المجاورة، أصبح الأهالي يفضلون تسجيل أطفالهم في المدارس الخاصة القريبة، توفيراً لبدل النقل الذي ارتفع بشكل كبير مع ارتفاع أسعار المحروقات وكسباً لأيام تعليم أكثر عدداً وأكثر إنتاجية.
ورغم الأقساط المرتفعة، يرى شميساني أنّ نسبة كبيرة من الأهالي باستطاعتها التسجيل في الخاصة كون الجميع عمل على “دولرة” عمله وإنتاجه، إلا أنّ “العترة” وحدها على موظف الدولة الذي لا وجهة له إلّا الرسمي حتى لو تمت مضاعفة رواتبهم. ويشير إلى أنّ رسم التسجيل في الثانوي يبلغ حوالي الـ 700 ألف ليرة لبنانية، لافتاً، أنّه حتى هذا المبلغ يعجز أمامه البعض، ليأتي دور الجمعيات. واعتبر أنّ “دعم المغتربين والجمعيات والبلديات وغيرهم للمدارس لم ولن يكون حلاً، الحل يجب أن يكون شاملاً وهو وحده بيد الدولة إن وجدت”.
التعليم.. الوظيفة التي تحولت من حلم إلى كابوس!
بعد أن كانت مهنة التعليم حلماً يسعى إليه أغلب الخريجين كونه يؤمن أكثر من المتطلبات الأساسية ويعطي ضمانات على مختلف الأصعدة، باتت مهرباً لا يلجأ إليه إلا من اتخذ منه اليأس سبيلاً. فالاضرابات والتوقف عن التدريس هي السمة العامة التي طبعت التعليم الرسمي منذ أربع سنوات وحتى الآن، لكن كل تلك التحركات لم تأتِ بنتيجة مرضية للأساتذة وباءت بالفشل.
عاد بعض الأساتذة للتعليم، فيما آخرون لا زالوا على مواقفهم وبعضهم ترك “المصلحة” لمن فيها. وقد علم “مناطق.نت” أنّه في إحدى المدارس ترك حوالي 7 أساتذة الوظيفة. وفي رحلة البحث عن الأسباب والدوافع، تقول إحدى المعلمات التي قضت أكثر من 10 سنوات من عمرها في تعليم اللغة الأجنبية في إحدى مدارس النبطية لـ “مناطق.نت” إنّها أصبحت “تصرف عالوظيفة مش الوظيفة تصرف عليها”.
وتشير إلى أنّ والدها ووالدتها وحتى الأشقاء كانوا يتجهون نحو التعليم فور تخرجهم، كونها مهنة مضمونة إلا أنّ ما حصل في السنوات الأخيرة لم يكن متوقعاً. ورغم أنّها وأولادها يحملان الجنسية الألمانية وكانت دائماً ترفض فكرة السفر إلا أنها رضخت في النهاية، وعزمت على الرحيل.
في إحدى المدارس ترك حوالي 7 أساتذة الوظيفة. تقول إحدى المعلمات التي قضت أكثر من 10 سنوات من عمرها في تعليم اللغة الأجنبية في إحدى مدارس النبطية إنّها أصبحت “تصرف عالوظيفة مش الوظيفة تصرف عليها”.
من جهته اعتبر حسن شكر، وهو أستاذ وصاحب معهد للتدريس في النبطية، أن التدريس أصبح مهنة المتاعب. ويشير إلى أنّ السنة المقبلة ستكون بمثابة التحدي الأكبر في ظل معلومات تفيد أنّ راتب الأستاذ سيكون بحدود الـ 250$ في المدرسة الخاصة، وهذا لن يجدي نفعاً، فهذا المبلغ لا يكفي للحاجات الأساسية لأي رب عائلة. يضيف شكر أنّ المصير لا يزال مجهولاً بالنسبة لوضع الأساتذة في التعليم الرسمي. وعن وضع معاهد التدريس، يؤكد أنّ الأعداد انخفضت كثيراً، والسبب الأبرز كلفة النقل.
هي حكاية “حب” مع التعليم عمرها أكثر من 10 سنوات، يرويها مقرر فرع النبطية في رابطة التعليم الثانوي الأستاذ قاسم حديب. يروي لـ “مناطق نت” تجربته التي تحولت إلى “كارثية” مؤخراً، بعدما صار راتبه بالكاد يساوي 120 $ شهرياً. ويشير إلى أنّه يعيش على الأمل المتبقي حالياً، رافضاً فكرة الغربة رغم تلقيه عروض عدة من الخارج. ويلفت إلى أنّه يعمل منذ الصباح حتى آخر النهار، متنقلاً بين الصفوف في المدارس الرسمية والخاصة والمعاهد لكي يستطيع الاستمرار.
ويقول أنّه عاد إلى التعليم بعد الاضراب رأفة بالطلاب، بعكس الدولة غير المبالية بالتعليم الرسمي ولا حتى بمستقبل أبنائها. وعن السنة المقبلة، يؤكد حديب أنّ فراغاً ونقصاً في الأساتذة بانتظارنا، مشيراً إلى أنّ عددًا كبيرًا من زملائه قدّم أوراقه إلى الخارج، وهم بانتظار الموافقة لحمل كتبهم وحقائبهم والرحيل.
الحضانات على خطى المدارس الخاصة
لم يقتصر رفع الأقساط على المدراس الخاصة فقط، بل انتقلت العدوى إلى الحضانات. في النبطية وبحسب المعلومات التي حصل عليها “مناطق.نت” من البلدية يوجد 11 حضانة ضمن نطاق المدينة فقط. وبسبب كثرتها، باتت لا تلتزم جميعها بالمعايير المطلوبة، وأبرزها تخصيص مساحة مخصصة للأطفال للعب، فصارت موجودة في شقق صغيرة، رغم أنّ بعض الأقساط تتجاوز الـ 200$ شهرياً على الطفل الواحد.
تضطر الأمهات العاملات لوضع أطفالهن بالحضانات، ولكن رأى العديد منهن أنّ العمل بات لا يكفي لقسط الحضانة فتخلّينَ عن وظائفهن وخصّصنَ الوقت الضائع لأطفالهن. تروي إحدى السيدات لـ “مناطق.نت” أنّ قسط حضانة طفلها الواقعة في كفرجوز الضيعة الصّغيرة، بات حوالي الـ 100 دولار، وطفلها الآخر في صف الـ KG3 الذي يبلغ قسط مدرسته هذه السنة 800$ و20 مليون ليرة لبنانية، بعدما كان في السنة الماضية 200$ و10 ملايين ليرة لبنانية. وتضيف أنّ ابنها الصغير سينتقل هذه السنة إلى الـ KG1 والقسط نفسه مطلوب منه، مما يجعلها في حيرة من أمرها اذا كانت ستبقيهم في المدرسة نفسها أو أنّها ستضطر للبحث عن مدرسة ترضى بقسط أقل.
تتعدد المدارس ومعها الأقساط، لكن تبقى المعاناة واحدة، والأصعب فيها تلك التي ترزح تحتها المدراس الرسمية المنسية، والعائلات التي باتت تلوك الصخر لكي تعلم أبناءها الذين وُلدوا في بلد يضع تعليم أبنائه أولوية في مقدمة دستوره وقوانينه ومعاهداته، ولكنه كما كل شيء فيه يبقى حبراً على ورق. وحتى الحبر والورق صار نادراً في بعض المدارس، فأي تعليم ومستقبل ومصير ينتظر الطلاب والأساتذة؟ كلها أسئلة يسألها اليائسون يومياً ولا إجابات صادقة تلوح في الأفق، فقط وعود تتوالى، و”عالوعد يا كمون”.