المدينة التي وُلِدَ منها للمرّة الثانية.. صور حاضنة الصدر
جادَت صور على السيد موسى الصدر ببعض روحها، إذ ألبسته عباءة البحر، وقالت له: “هاك جامع الجواد، بيت الله، فليكن لك مسجداً، ومنبراً”. كان ذلك في العام 1959، فدخل المكان، بقدمه اليمنى، تبرّكاً، ثم ذاب في تلك المدينة، ذوبان الملح في البحر. ردّ الصدر تحيّة صور بمثلها، أو بأحسن منها، إذ كانت انطلاقته من تلك الشوارع والحارات، وبدأ مشروعه من جمعية، ومهنية، ومشغل، ومعهد…وتابع حتى قضى على التسوُّل في تلك المدينة التاريخية.
صور موعد فلقاء
كانت الزيارة الاولى للصدر إلى لبنان في العام 1955، ليعود ويستقرّ فيه منذ العام 1959 في مدينة صور، حيث صار إمام ذلك المسجد الذي شيّده المرجع السيد عبد الحسين شرف الدين. بداية، كان قليل الكلام لا يبادر لا إلى القول ولا إلى السؤال، واستمر الحال كذلك ما يقارب الشهرين، حتى غيّر طريقته، وكأنه كان يستكشف أو يستقرئ النفوس.
يقول “الصدر” في حوار مع “منى مكي” (وكانت في صدد تحضير رسالة الدكتوراه): “يبدو أنه بعد وفاة “السيد عبد الحسين شرف الدين” طالب بعض أهل صور وبعض المؤمنين بحضور العلماء، فلم يتوفقوا، أو بمعنى أصح لم يتفقوا، فبقي الفراغ حوالي سنتين في “صور”. راسلوني، وطلبوا مني أن أحضر. والحقيقة أنني كنت في المجامع الدينية في “قم” في ذلك الوقت. وكنت أهتم بإصدار مجلة اسمها “مكتب إسلام” أي “المدرسة الإسلامية” حتى العدد الأخير الذي توقف أو بالأحرى أوقفته الحكومة. فقلت لنفسي لأجرّب ذلك، ومن ثم أتيت إلى لبنان. عشت حوالي الشهر في صور، وبالفعل وجدت أن هناك استعدادًا تامًا للقبول، وتفاهمًا كاملًا من الناس ومحبة عارمة ومكانًا مناسبًا للعمل. فاخترتُ “صور” واستقريت فيها، وأخذتُ بيتًا”.
لم تكن عائلة “الصدر” ترغب بمجيء إبنها إلى لبنان. وهو بقراره هذا خالف تلك الرغبة، وجاء إلى المكان الذي رأى فيه مشروعه، وبنى تصوّره الخاص فيه. في هذا البلد الذي يعيش بعض الديمقراطية، بينما كانت إيران تعيش تحت رحمة الشاه، كما هو حال العراق مع الديكتاتورية.
البيوت المستأجرة
تنقّل “الإمام الصدر” في بيوت عديدة في مدينة صور، إلا أن كل تلك الشقق كانت مستأجرة. وعلى الرغم من توزيع الأثاث فيها بشكل عاديّ إلّا أن هناك ميزة وخصوصية لغرفة الجلوس/السفرة، تتمثل في السجاد، وبعض المساند، على طريقة البيوت الإيرانية، من دون كنبات أو كراسي. وفي هذه الغرفة يوضع الطعام على الأرض، فتجتمع العائلة حول العديد من الأطباق الجامعة للمطبخين الايراني واللبناني، وعلى تلك السجادة تذوق البقلاوة والدبس والمهلبية التي كان يوليها اهتماماً.
وزّع الصدر وقته بين صور وبيروت، ولم ينس دوره اتجاه عائلته، حيث كان يقضي معها ما تيسر من الوقت، بينما تتكفل زوجته السيدة بروين بمسؤوليات الأسرة اليومية. تخبرنا السيدة “حوراء” الإبنة الكبرى للإمام الصدر أن معظم مشاوير العائلة، من “صور” إلى “بيروت”، كانت تتخلّلها استراحة في أحد مطاعم “خيزران” على الساحل الجنوبي، بالقرب من مدينة “صيدا”، وبالطبع كانت الأسماك طبقًا مركزيًا مع بقية الأطباق اللبنانية المرافقة.
معظم مشاوير العائلة، من “صور” إلى “بيروت”، كانت تتخلّلها استراحة في أحد مطاعم “خيزران”، وبالطبع كانت الأسماك طبقًا مركزيًا مع بقية الأطباق اللبنانية المرافقة
عند نهاية كل اسبوع، كانت منطقة “قبيّ”، في بلدة “جباع” الجنوبية، مقصدًا للإمام الصدر مع عائلته، حيث كان هناك مطعم قريب من النهر. وعادة تتوزع الجلسة على نموذجين: الجلوس على الطاولات، وافتراش الأرض بعد أن تُمَدّ سجادة على العشب، فتجلس العائلة لتناول الطعام ولشرب الشاي، وإلى جانبهم “آلة التسجيل” التي تقدّم الموسيقى العربية والفارسية. كل هذا من دون إهمال الإمام لنشرات الأخبار التي لا يستثني منها أحدًا، بما فيها إذاعة العدو.
صديق الصيادين
ازدادت صداقات الصدر مع مختلف الشرائح في صور، دون أن يستثني أي طبقة، أو شريحة عمالية، بمن فيهم الصيادون، الذي راح يؤمن لهم تقديمات بشكل دوريّ.
بأسلوبه الميداني، صار الصدر مرجعًا من نوع آخر. فهو لا يشبه رجل الدين الكبير الجالس على أريكة، في غرفة متواضعة، متفرغًا للكتابة وإحياء الشعائر. على العكس تمامًا، كان “الصدر” خير تمظهر لفلسفة “أنطونيو غرامشي” الذي نادى بالمثقف العضوي الملتحم والعملي الميداني، بعيدًا من الأبراج العاجية والنخبوية الثقافية.
هكذا، نستطيع أن نتخيّل القوّة الجارفة لموسى الصدر الذي نشر سحره يمينًا وشمالًا، مركزًا على الأفراد، ومتنقلًا من أقصى الناقورة إلى أقصى بلدات الهرمل، عابرًا الوحل والثلج. كانت طلّته وابتسامته ومشاركته الآخرين أفكارهم وهواجسهم، هي طريقه في قطع المسافات وبلوغ القلوب، والتأسيس السريع لخميرة متنوعة الاهتمامات والخلفيات، بين مزارع التبغ، وأستاذ المدرسة، والمتديّن التقليدي، والشاعر المتوجّس، والسياسي المتحسّس.
الشرع والمشروع
في صور، لم يبدأ السيد الصدر بالعنوان الديني، ولم يولِ التحديث العقائدي أولوية، بقدر ما كان يوظّف الإرث الديني في عملية التثوير الاجتماعي التي بدأها من خلال إنشاء المعاهد والمدارس والجمعيات الأهلية ودورات تمكين المرأة ومحو الأمية، متعاونًا في ذلك مع “الانعاش الاجتماعي”، الذي صار اسمه “وزارة الشؤون الاجتماعية”، وكذلك مع “وزارة التربية”، التي كانت تخصّص مبالغ لإنشاء المدارس في المناطق، ضمن سياسة الدولة العامة. فكان “الإمام” عرّاب تلك الخطوات من خلال التواصل مع الأهل، ووجهاء البلدات لتقديم الأراضي، ثم تأتي المؤونة الكبرى من رجال الأعمال الشيعة وغير الشيعة، في “أفريقيا”، و”الخليج”، و”أستراليا”، و”فرنسا”، وغيرها من البلدان.
نستطيع أن نتخيّل القوّة الجارفة لموسى الصدر الذي نشر سحره يمينًا وشمالًا، مركزًا على الأفراد، ومتنقلًا من أقصى الناقورة إلى أقصى بلدات الهرمل، عابرًا الوحل والثلج
“المهنية العاملية”
في شهر كانون الأول من العام 1962 وضع الامام الحجر الأساس لمهنية “جبل عامل”، (البرج الشمالي ـ شرقي صور) لينطلق التدريس فيها في العام الدراسي 1969-1970، وتولى إدارتها المهندس سعد الدين فرحات، وفي العام التالي تسلم الادارة الاستاذ أدولف باليت، وهو من البعثة الفرنسية التي كانت تقيم في المؤسسة. ثم تسلّم الدكتور الراحل “مصطفى شمران” الإدارة بعدما كان في لبنان لمهمة ثانية هي نصرة فلسطين، فقال له الصدر: “هل تريد نصرة فلسطين؟ إذهب إلى المؤسسة” ليبقى فيها حتى مغادرته إلى ايران. يذكر انه في العام 1976 تعيّن الأستاذ أبو حسن سبيتي مديراً مساعداً في المؤسسة، وهو عراقي الجنسية، وذلك لضرورة تواجد شمران لوقت طويل مع الامام الصدر في بيروت.
كان مصطفى شمران مهندس كهرباء ودكتور في الفيزياء النووية، وكان يعمل في “النازا” في اميركا. بالاضافة إلى اهتمامه بالرياضة والجمباز على وجه التحديد، كما كان يهوى الرسم والخط. تميزت شخصية شمران بالتواضع الشديد، وكان يعيش في المساكن التابعة للمؤسسة، ويخدم نفسه بنفسه، ويدعو الطلاب للقيام بالخدمة الذاتية. بالنسبة لسيارته فكانت فلوز واغن ستيشن، ثم خصّص له الإمام سيارة مرسيدس فيما بعد.
كان للمؤسسة الدور الأساسي في تأطير الطاقات الشابة في مجالات كانت الأرياف بأشد الحاجة إليها، وبالطبع كانت من الروافد الرئيسية لحركة المحرومين. كذلك كان الأمر مع جمعية “البرّ والإحسان” التي كانت خير معين لخطط “الإمام”، بعد أن جدد نظامها وأهدافها، واستحدث فيها طرقًا جديدة في العمل.
خصوصية المسيحيين في صور
في الثامن من حزيران من العام 1968، شارك السيد موسى في قداس أقيم في مدينة صور عن روح قداسة “البابا يوحنا الثالث والعشرين”. فأدهش الحضور بشرحه رسالة البابا الراحل، “السلام على الأرض” وعن علاقة الإنسان بالدين.
أولى الصدر أهمية خاصة للمكوّن المسيحي في صور، وكان ينسّق مع مطرانها الكثير من الخطوات، منها توزيع بعض المساعدات على بعض المسيحيين الفقراء، كما يخبرنا المؤرخ الصوري الراحل منير بدوي. ويضيف بأن ذلك الإجراء كان يتم بشكل سرّي دون أن يكون الصدر في الواجهة.
في مدينة “صور” معمل صغير لصناعة البوظة، يملكه العم “جوزيف سليم أنتيبا”. فافتتح أحد المسلمين في المدينة معملًا مشابهًا له، وكي يستجلب الزبائن أخذ يبث أخبارًا أن بوظة “أنتيبا” محرّمة لأن من يصنعها مسيحي ويخالطها دهن الخنزير.
ولأن المنطقة في تلك الفترة تتأثر بالفتاوى الدينية انعكست نتائجها سلبًا على نسبة الزبائن عند “أنتيبا”، فزار “الإمام” وأخبره قصته، فما كان من “السيد الصدر” إلا أن قصد محل البوظة الخاص بذلك الرجل، وجلس إلى الطاولة الخارجية حتى يراه جميع المارة من أهل صور، ليدركوا أن البوظة التي يصنعها هذا الرجل ليست من المحرّمات، فكانت النتائج ايجابية، وانتشر خبر تلك الجلسة، ليس فقط لأن صاحب المحل من مسيحيي صور، بل لأن فكرة جلوس رجل دين شهير في مكان عام لتناول البوظة لم تكن شائعة كذلك.
بعد صور، تنقلت عائلة الامام الصدر بين منازل عدّة في بيروت، ليكون الاستقرار لسنوات في الطابق العلوي من المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى في منطقة الحازمية، المكان الذي اضطر لمغادرته بسبب انطلاق الحرب في العام 1975، فكان ان قطن منزلاً في “الغربية”. كل ذلك دون أن يتوقف اتصاله، وتواصله مع صور، حيث المؤسسات والصداقات والضرورات الانمائية والسياسية، التي تستوجب الحضور الدائم، فكانت صور محل امتزاج الرغبة بالضرورة.