المسرح العاشورائي من الطقوس إلى الخشبة

خرج المسرح العاشورائيّ من خاصرة مطعونة، من صمتٍ يشهق. لا يعرف المسافة بين المؤدّي والمتلقّي. هو لحظة كثيفة، تختنق بالدمع ولا تُغلق. في مسرح عاشوراء لا ستارة تُرفع، لا نهاية تُصفّق لها الأيادي. هناك فقط نزول الرأس، تقوّس الجسد، وتحوّل الإنسان إلى أثر يمشي. كلّ شيء معلّق كدمعة في جفن التاريخ.
إعادة توليف الحزن
في زمن الصفويّين، كان الطقس تحويل المأساة إلى جهاز إنتاج للهويّة الجمعيّة، جرى تعميد الحكاية بالدم كي تظلّ تفيض. فتح الجسد التمثيليّ نفسه لعبور الأسطورة من خلاله. كان الممثّل وعاءً فارغًا يتلبّسه الغياب، حضورًا يشير دومًا إلى ما لا يمكن القبض عليه.
في النبطية، تُستخرج المرثيّات العاشورائيّة من الأرض كما تُستخرج المياه المقدّسة من أعماق الصخور. فالتعزية أكثر من نصّ يُروى، هي آليّة تعبير طقسيّة، منقوشة على جسد الجماعة، منقولة عبر الأجساد والنفَس لا عبر الحبر والقرطاس. وفي زمن خنق فيه السلطان العثمانيّ الفضاء الشيعيّ، لبست الطقوس جلد السرّ، وأخذت شكل الهمس المتناقل في البيوت والمجالس. كانت تُروى كما تُروى الدساتير التأسيسيّة في المجتمعات المتماسكة.
الى النبطية، جاء إبراهيم الميرزا من طهران، مستدعيًا رموزًا تعود إلى زمن لا يُقاس بالسنوات. ما حصل كان فتحًا لبوّابة زمنيّة تُعيد الناس إلى “الوقت المقدّس”، حيث يصبح اليوم عاشوراء، وتصبح النبطية كربلاء. صارت النبطية “محور العالم” وفق رؤية مرسيا إلياد، النقطة التي تتقاطع فيها الأرض بالسماء، والزمن بالميتوس، والفرد بالجماعة.

الجسد أثر طقسيّ
في العام 1926، دخل نعش خشبيّ إلى حسينيّة النبطية، كان استدعاءً كاملًا لبنية القربان. في العام التالي، ظهر الرضيع المكفّن، عليّ الأصغر. بدا إشارة كونيّة تُستعاد كي يسترجع تأسيس معنى التضحية. الحسينيّة تحوّلت من مكان إلى “عالم مركزيّ”، من صالة إلى معبد.
بهذا المعنى، يرى الناقد المسرحيّ بهرام بيضائي، أنّها مسألة تجسيد لمأساة قديمة، بقدر ما هي ولادةً جديدةً للهويّة من داخل الجرح. فالضحايا لا يُرثَون، بقدر ما يُستحضرون كي يُصيّروا شهودًا ومقاتلين في صراع رمزيّ طويل الأمد. وهكذا، كما في كلّ طقس كونيّ، لا يعود الهدف هو استذكار ما جرى، انّما إعادة خلقه كي يستمرّ الحاضر في الحدوث.
يرى الناقد المسرحيّ بهرام بيضائي، أنّها مسألة تجسيد لمأساة قديمة، بقدر ما هي ولادةً جديدةً للهويّة من داخل الجرح.
شِمر في المدينة
في العام 1934، دخل يوسف العجمي إلى النبطية ممثّلًا دورًا، وحاملًا أيقونة، كمن يستحضر كيانًا مضادًّا. لم يكن شمرُ فردًا، كان تجسيدًا للظلّ، لوظيفة “الآخر العدوانيّ” في هندسة الطقس: السيف، الدرع، الخوذة، الحصان. كلّها علامات داخل خطاب بصريّ ثنائيّ: الحقّ والعدوان، الروح والجسد.
هذه الثنائيّة، بحسب منطق دوركايم، تُقرأ بوصفها نظامًا رمزيًّا مغروسًا في اللاوعي الجمعيّ، يهدف إلى تأمين الاتّزان بين التناقضات عبر التمثيل العنيف للكارثة. إحراق القشّ لا يعني فقط إعادة إنتاج الحريق، بل تفريغ الطاقة السلبيّة عبر تمثيلها.
من تكرار عفويّ إلى نصّ طقسيّ
في العام 1936، قرّر الشيخ عبد الحسين صادق كتابة الأدوار والسيناريو، لتكون خطوته تحوّلًا جذريًّا من الطقس الشفهيّ إلى بنية رمزّية مكتوبة، ما يعني إدخال الذاكرة الجماعيّة في مسار جديد: مسار قابل لإعادة التوليد تحت شروط محدّدة. فمع كلّ شخصيّة تُضاف، لا يتوسّع النصّ وحسب، بل يتعمّق النظام الدلاليّ: كلّ صوت يحمل خلفه وظيفة ضمن شبكة تقابلات أخلاقيّة ونفسيّة.
المذياع تخطّى كينونته من أداة تضخيم إلى لحظة رمزيّة فاصلة: صار الصوت يمرّ عبر وسيط صناعيّ، ما يدلّ على دخول التقنيّة في طقس مقاوم لمحو الصوت. وهكذا بدأت الحدود بين الواقع والمسرح تترنّح، بين الفجيعة والتمثيل، بين الألم وتكراره المقونن.
فحم الوجوه فتكنولوجيا الرموز
في السبعينيّات، حينما دخل المكياج والإضاءة إلى المسرح العاشورائيّ، أصبح الفحم على الوجه أكثر من سواد، كان ختمًا للهويّة. اللحى الاصطناعيّة، القماش الأحمر، الإضاءة الموجّهة، كلّها اشتغلت كعلامات داخل نظام يشتقّ رمزيّته من بنية الطقس الأصليّة، لا من جماليّات المسرح الحديث وحسب.
في العام 1970، عندما أُعلن العاشر من محرّم يوم عطلة رسميّة، كان لحظة “تجميد موقّت” لزمن الدولة، كي يُفسح المجال أمام زمن الجماعة. ظهرت “لجنة عاشوراء”، وخرج الطقس من حالته السيّالة إلى هيئة مؤسّساتيّة، ومن الأداء العفويّ إلى النظام المنظَّم. لم يعد المشهد حكرًا على ساحة النبطية، بل أضحى شبكة سائلة نحو القرى المحيطة، حيث الجماعة تُعيد إنتاج نفسها من خلال العرض.

هنا، يتحوّل المسرح إلى مساحة تفاوض رمزيّ بين ما تُريده الدولة كاحتواء، وما تريده الجماعة كمحقَّق وجوديّ. فما يُعرض على الخشبة ليس فاجعة كربلاء فقط، إنّما سؤال الهويّة في مواجهة الزمن: من نحن عندما نؤدّي هذا الألم؟ ومن نكون لو توقّفنا عن تكراره؟
تطوّر تقنيّ وإبداعيّ
عاشوراء تتجسّد كفعل رمزيّ يتجاوز الوقائع. كلّ حركة فيها إعادة تمثيل لهويّة تتكوّن من وجع مستمرّ، لا من انتصار حاسم. كلّ جسد يُلَفّ بكفن صغير هو استمرار لذاك الجسد الأكبر، الممتدّ إلى السهول، المعروض مثل حقيقة مفتوحة بلا انتهاء، في حالة إقامة داخل الحزن صيغة للبقاء.
يشهد المسرح العاشورائيّ اليوم تحوّلات إبداعيّة واضحة، مع استخدام أحدث تقنيّات الصوت والإضاءة، وتوظيف المؤثّرات البصريّة والملابس والمكياج والموسيقى بطريقة تُفعّل البنية الرمزيّة للنصّ الحسينيّ. الإخراج بات يحمل وعيًا جمعيًّا متراكمًا، والممثلون الكبار يُجسّدون أدوارهم كأنّهم يستحضرون أركيتايبًا (النموذج الأصليّ) دفينًا في أعماق الذاكرة الجماعيّة. لا يُعاد الحدث من أجل التكرار، بل لأنّ النداء لم يخفت، ولأنّ الجرح لا يزال يحتفظ بصداه في اللاوعي الشيعيّ العام.
لكن تبقى هناك وجهة نظر، ترى في التقنيّات الاحترافيّة خدشًا لعفويّة الانفعال الشعبيّ وفعل الالتصاق بالبساطة التي تشبه الناس، وهناك من يردّ على هذا الطرح بأنّ الناس تجاوزوا الحالة الفطريّة، لقد تشكّلوا مع الزمن بما فيه من تكنولوجيا وهواتف ذكيّة وذكاء اصطناعيّ.