المصارعة زمن “كيري فون أيريك” على تلفزيون موصول بغطاء طنجرة
منذ مطلع الثمانينيّات، لم يعد صعودنا إلى الجنوب مرتبطًا بعطلة الصيف، إنّما اندرجت تلك المشاوير تحت خانة النزوح، فأصبح خروجنا من البيت في الشّياح، باتّجاه بلدتنا الجنوبيّة، فعلًا تهجيريًا قسريًّا، يرغمنا على المغادرة حاملين صرر الثياب، وبعض الطناجر، وجهاز الراديو وعلبة الدبابيس والإبر والبكرات.
في بلدتنا أنصار (قضاء النبطية)، كما في غالبية بلدات الجنوب، لم يكن بثّ تلفزيون لبنان متاحًا على الشاشات الصغيرة في المناطق البعيدة عن العاصمة، إلّا بما سمحت به أحوال الطقس، أو التحايل باستخدام بعض “التقنيّات” البدائيّة، كأن نوصل شريط الإرسال، بغطاء طنجرة من الألمنيوم، على أن نوجّهه كصحن لاقط باتّجاه العاصمة بيروت.
“الشرق الأوسط” بدل تلفزيون لبنان
آنذاك كانت قناة “مصر” أكثر قربًا من بيوتنا المتواضعة، لكنّها تصل مشوّشة بعض الشيء، فتفقدنا متعة المشاهدة، في حين كانت صورة “تلفزيون الشرق الأوسط” أكثر وضوحًا، ببرامج لا تخلو من التشويق، أبرزها المصارعة الحرّة، التي كانت تُجرى في حلبات أمريكيّة، وكذلك كانت هناك برامج للأطفال، لا تخلو من التوجيه العقائديّ المسيحيّ والسياسيّ، حيث كانت عبارة عن قصص ذات أبعاد توراتيّة، أو على الأغلب إنجيليّة، تستند بشكل كبير إلى العهد القديم.
في تلك الأيّام كنّا نطلق عليه تسمية “تلفزيون لحد”، حيث كانت نشرة الأخبار تتبنّى وجهة النظر الاسرائيليّة، وعلى الأرجح كانت هناك تقاطعات مع “ميليشيا أنطوان لحد”، لكن ليس إلى درجة الوصاية على المحطّة، خصوصًا أن “الشرق الأوسط” كان يعرض برنامجًا تبشيريًّا شهيرًا للقسّ الدكتور إيليا ملكي، وهو من أوائل المعتمدين على الشاشة لنشر الفكر المسيحيّ الإنجيليّ في العالم العربي، وكانت له مقدّرات تأثير مستندة إلى أسلوبه الكاريزماتي، إضافة إلى ترديده عبارة “حطّ إيدك عالشاشة وصلّي معي”، وعبارة أخرى هي “ما تطّفّي التلفزيون، خلّيك معي”.
آنذاك كانت قناة “مصر” أكثر قربًا من بيوتنا المتواضعة، لكنّها تصل مشوّشة بعض الشيء، فتفقدنا متعة المشاهدة، في حين كانت صورة “تلفزيون الشرق الأوسط” أكثر وضوحًا، ببرامج لا تخلو من التشويق، أبرزها المصارعة الحرّة، التي كانت تُجرى في حلبات أمريكيّة.
كان يشير هذا البرنامج، إضافة إلى برنامج الأطفال ذاك، إلى أنّ “الشرق الأوسط” كان عبارة عن تقاطع أجندات، أمريكيّة تبشيريّة، واسرائيليّة دعائيّة، وما جماعة لحد سوى عناصر ضمن المشروع، وكان لهذه المحطّة، مركز إرسال في بلدة مارون الراس، قامت مجموعة مقاوِمَة من الحزب الشيوعيّ بتفجيره بتاريخ 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 1985، وكانت المجموعة نفسها قد قامت بعملية مشابهة باتّجاه اذاعة “صوت الأمل” الناطقة باسم جماعة لحد.
زمن “كيري فون ايريك”
على شاشة “الشرق الأوسط”، عشيّة كلّ سبت، كانت “المصارعة الحرّة” نقطة شغف، أجمع عليها جلّ سكان الجنوب، منحازين إلى البطل الأميركي “كيري فون إيريك”، وباقي أشقائه المصارعين، ديفيد، كيفين، مايكل وكريس. كما أجمعوا على العداء لـ “كمالا”، الوحش الأسمر، وآيسمن الذي اشتهر بضربة المؤخّرة! أمّا اسكندر أكبر، فكان وكيل بعض المصارعين، يواكبهم من خارج الحلبة، لكنّه بكلّ الأحوال شخصيّة ملفّقة لشخص يريدون تقديمه كعربيّ أحمق، فيلبسونه العقال والشماغ والعباءة وهو قصير القامة يقوم بحركات كاريكاتوريّة غاضبة.
لأنّ التلفزيون لم يكن متوافرًا في بيت جدّي الحاج فريد، كانت أكثر المشاهدات تتمّ في منزل عديله، الجار أبو صالح حازر، هكذا يجتمع الناس بكثرة في غرفة واحدة فيتحمّسون ويشجّعون بشكل يجمعهم تحت رأي واحد، فجميعنا كنا مع كيري وأخوته ضدّ باقي الأشرار.
أمّا حين نضطرّ للمشاهدة بواسطة بطاريّة السيارة، على جهاز تلفزيون “12 فولت” فهذا يعني جلوسنا بالقرب من سيّارة عمّي محسن على حافّة صغيرة أمام دكّان عمّتي زينب. إنّها مشاهدة في الهواء الطلق، بعيون جاحظة، مستنفرة، يرافقها بعض الصراخ، والتصفيق والصفير.
المصارعة على أشرطة فيديو
بعدما هدأت الحرب على محوريّ الشيّاح عين الرمّانة، نزلنا الى بيروت لمتابعة الدراسة، وتجريب العودة إلى اليوميّات. ما أن نزلنا من السيارة وأفرغنا الحقائب والأكياس، وأعدنا الطناجر إلى رفوفها، حتّى توجّهنا مباشرة الى سنتر الخليل، بالقرب من جامع الشيّاح، حيث يوجد مركز لتأجير أشرطة الفيديو، فاخترنا منه خمسة أفلام دفعة واحدة، فيها “العجب العجاب” نسبة لما نشاهده على شاشة الشرق الأوسط، فهنا الصور بالألوان، وبعض المباريات فيها مؤثّرات خاصّة مثل تحويل الحلبة إلى قفص فلا يخرج الخاسر منها إلّا بعد أن يوشّى بالكدمات، ويتخضّب بالدماء.
لم نكتفِ بتلك الأشرطة، بل رحنا نشتري المجلّات المعنيّة بكمال الأجسام، خصوصًا تلك التي يصدرها آل عليوان، بالأبيض والأسود، وهُم عائلة رياضيّة، يمتلكون ناديًا للتدريب، وتصنيع العضلات. وقتذاك تعرّفنا على أرنولد شوارزيناغر، ولي هاني، وتوم بلاتز.
بعدما هدأت الحرب على محوريّ الشيّاح عين الرمّانة، نزلنا الى بيروت لمتابعة الدراسة، وتجريب العودة إلى اليوميّات. ما أن نزلنا من السيارة وأفرغنا الحقائب والأكياس، توجّهنا مباشرة الى سنتر الخليل، بالقرب من جامع الشيّاح، حيث يوجد مركز لتأجير أشرطة الفيديو، فاخترنا منه خمسة أفلام دفعة واحدة، فيها “العجب العجاب”.
صوَر دفعت بعض فتيان حيّنا إلى الانتساب إلى نادٍ متخصّص في منطقة الغبيري، بينما اجتهد عمّي عباس، فصنع بنفسه أدوات التدريب، مستعينًا بتنكتي حليب “نيدو” فيصبّها بالأسمنت، ويوصل في ما بينها بقضيب حديدي لا يتجاوز المتر، لتصبح “عَمدة”.
عنف في مدرسة البنات
في تلك الأيّام، لم تكن كرة القدم وحدها الشغل الشاغل لسكّان الشيّاح، بل أحيانًا كانت تطرأ رياضات أُخرى مثل المصارعة الحرّة التي نُظّمت لها مباريات كبرى في قاعة مدرسة البنات، وعُلِّقت الإعلانات على الجدران المتفسّخة وأعمدة الكهرباء الخشبيّة “المقشّبة”. معظم المصارعين يرتدون أقنعة وسراويل مرصّعة بنجوم لامعة. جميعهم يحملون ألقابًا مفخّمة، فهذا سيّد الظلام، وذاك الوطواط الفضّيّ، حتّى جارنا منصف حيدر شارك تحت لقب بطل الخليج، وهو لم يزر الخليج يومًا.
وهنا أنقل عن صهري سهيل أنّه حضر مباراة مصارعة، من تنظيم الأخوين سعادة، وبمشاركة أشهر اللاعبين مثل داني لانش وكوماري، ولأنّه كان في الصفوف الأماميّة، لاحظ أنّ أحد المصارعين، تناول شيئًا صغيرًا من ثوبه كأنّه كيس، وفركه على اللاعب الخصم بشكل لا ينتبه إليه الجمهور، ليتبيّن أنّه كيس دم مزيّف يُراد من خلاله إعطاء جرعات من الشراسة التي تلهب المدرّجات المبنيّة على سقالات معدنيّة مغطّاة بألواح خشب “البوندي”.
جميعنا يعرف أنّ المصارعة رياضة استعراضيّة فيها تمثيل وإخراج واتفاقات مسبقة، لكنّه في بعض الأحيان تمثيل دمويّ يرضي الفتيّة ممّن يميلون إلى الأكشن الحقيقيّ الذي يحرّك “الأدرينالين”، وينفّس عن بعض مكنونهم من مخزون الخوف، والغضب، الناتجين عن مباريات الأحزاب والفصائل.