المصارف تتذاكى مجدداً وترفع الفوائد..فهل من ثقة؟
تعود مسألة المصارف إلى الواجهة من جديد، ليس من خلال حكم قضائيّ عادل ومنصف بحقّ غالبيّة اللبنانيّين الذين احتجزت (صودرت) أموالهم، وإنّما من باب الفوائد المرتفعة جدًّا التي تطرحها بعض المصارف على ودائع الناس بالليرة المحلّيّة، الأمر الذي كثر الحديث عنه أخيرًا وأثار مخاوف المودعين تجاه واقع الليرة وعروض المصارف الطارئة في آن، بعدما انهارت الثقة بكامل القطاع المصرفيّ.
القصّة كما بدأت
بدأت القصّة قبل أسابيع قليلة، عندما تواصلت بعض المصارف مع زبائنها من أجل إيداع مبالغ ماليّة بالليرة اللبنانيّة “كاش” مقابل فوائد مرتفعة، أو تحويل ودائع الدولار التي احتجزتها المصارف إلى الليرة اللبنانيّة على أساس سعر صرف 15 ألفًا للدولار الواحد (وهو راهنًا 89 ألفًا) ومن ثمّ الحصول عليها مع فائدة مرتفعة بعد مدّة زمنيّة محدّدة. ويُحكى أنّ الفوائد التي تطرحها المصارف راوحت بين 30 و45 في المئة وفق حجم الوديعة وعرض المصرف نفسه.
وفي حسبة بسيطة مثلًا، يحصل المودع صاحب الوديعة الكاش، لنفترض أنّها بقيمة 500 مليون على 150 مليونًا إضافيًة في حال قبل تجميدها مدة ثلاثة أشهر على أساس فائدة تبلغ 30 في المئة. وكذلك، مثلًا في حال قبل المودع تحويل وديعة الـ 10 آلاف “لولار” إلى 150 مليونًا، ومن ثم يأخذها 195 مليونًا بعد انقضاء المدّة على أساس فائدة 30 في المئة.
اتّصالات وعروض
تختلف عروض الفوائد على المودعين، فـ “عماد” وهو صاحب وديعة في أحد المصارف اللبنانيّة واحد من هؤلاء، يروي لـ “مناطق نت” المعطيات المتوافرة لديه، إذ يقول: “اتُّصل بي من المصرف قبل نحو أسبوعين، وعرض عليّ الموظّف تجميد وديعتي، مقابل فائدة مرتفعة، وأخبرني عن إمكانيّة تحسُن الليرة اللبنانيّة، بشكل كبير في المرحلة المقبلة”، وهو شكل من أشكال التسويق الذي يشي بازدهار العملة المحلّيّة في وقت قريب، لكن لا يوجد إثبات ملموس على أرض الواقع.
يضيف عماد: “تواصلت مع جمعيّة المودعين، وخبراء ماليّين بدأوا في الحديث عن الموضوع، وأجمعوا على أنّ هناك لعبة خطيرة، ليست لصالح الليرة ولا المودعين، لذا لم أقبل بالعرض ولم أوقّع على أيّ مستند رسميّ مع المصرف، وبقي الحديث بيننا شفهيًّا فقط”. ويسأل: “ماذا سيكون مصير الودائع في حال تراجعت قيمة العملة الوطنيّة أكثر قبل فترة استحقاق الوديعة؟”، ويختم: “الثقة معدومة بالمصارف وعروضهم غير مطمئنة”.
وعن العروض التي حصل عليها المودعون الذين احتجزت المصارف ودائعهم منذ بدء الأزمة، يُخبرنا “أيمن” بأنّه “عُرض عليه أن يحصل على فائدة 30 في المئة على وديعة الـ 500 مليون ليرة، ثمّ بعد ثلاثة أشهر يحصل عليها مع 150 مليون ليرة” وكذلك يقول: “كلّما كبر المبلغ زادت الفائدة، فمثلًا طُرح على مودع آخر فائدة 45 في المئة على وديعة مليار ليرة لثلاثة أشهر”.
جمعيّة المودعين: الرسائل كثيرة
حتّى الآن لا يوجد أيّ إعلان رسميّ يوضح ماهيّة هذه الفوائد التي أصبحت حديث الناس، لكن الرسائل التي وصلت إلى جمعيّة المودعين في هذا الخصوص كثيرة، وفق ما يؤكّد رئيس الجمعيّة حسن مغنيّة لـ “مناطق نت”؛ إذ يقول: “تواصل معنا عدد كبير من المودعين، وأبلغونا بالعروض التي قدّمتها لهم بعض المصارف، لتجميد الودائع بالليرة اللبنانيّة لمدّة زمنيّة تختلف بين عرض وآخر، لعام أو عامين، مقابل فوائد راوحت بين 40 و45 في المئة”.
مغنيّة: تواصل معنا عدد كبير من المودعين، وأبلغونا بالعروض التي قدّمتها لهم بعض المصارف، لتجميد الودائع بالليرة اللبنانيّة لمدّة زمنيّة تختلف بين عرض وآخر، لعام أو عامين، مقابل فوائد راوحت بين 40 و45 في المئة
إذًا من هي هذه المصارف؟ يجيب مغنيّة: “ما عرفناه من مضمون الرسائل أنّهما بنك بيروت والبلاد العربيّة BBAC وبنك البحر المتوسّط MED، لكن لا يمكن حصر الأمر بهذين المصرفين، ربّما هناك مصارف لم يأتِ على ذكرها أصحاب الرسائل”.
وعن دلالات هذه الخطوة يرى مغنيّة أنّها “تدلّ على أنّنا ذاهبون في لبنان إلى “الدولرة” الشاملة، أقلّه لمدّة محدّدة” إذ إنّ المصارف راهنًا “تضع يدها على الودائع التي تصبح بعد تجميدها مجرّد أرقام في الحسابات، وتشتري الدولار بالسيولة النقديّة التي امتلكتها بعد موافقة المودعين”. يُتابع مغنيّة: “هي عمليّة نصب واحتيال جديدة، ونتيجة حتميّة لعدم محاسبة المصارف على ما اقترفته بحقّ المودعين، وعدم إصدار قرار قضائيّ فاعل وقويّ في هذا الخصوص”.
قراءة اقتصادية مؤقتة
ثمّة قراءة مختلفة للخبير الاقتصاديّ الدكتور بلال علامة حول ما يجري راهنًا، إذ يقول لـ “مناطق نت”: “ما يحصل حاليًّا هو عمليّة استدراج من قبل بعض المصارف لمن يمتلك العملة اللبنانيّة، وسحبها من السوق”.
“هذا الأمر يحصل لسببين أساسيّين، هما، إمّا خوفًا من استعمالها للمضاربة على سعر الدولار، أو من أجل موازنة حساباتها، أيّ الأرباح والخسائر لفترة محدّدة وموقّتة، ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر من العام 2025، لتقوم بعدها وتتخلّى عن هذه الودائع”، بحسب علامة، و”في الحالتين يكون عمل المصارف غير منظّم”.
كغيره من المتابعين للملف، سمع علامة بأسماء بعض المصارف حتّى الآن، وهي بنك البحر المتوسّط MED وسوسيتّيه جنرال SGBL، ويقول: “أعتقد أنّهما يلعبان دائمًا لعبة استدراج المودعين، وخير وسيلة هذه المرّة هي رفع الفوائد إلى مستوى خياليّ وصل إلى 43 في المئة”. ويُحكى أنّها أكثر من ذلك، في الوقت الذي يفترض بها (أيّ المصارف) “خفض الفوائد وفتح المجال أمام الاستثمارات والمشاريع الإنتاجيّة، وليس سحب السيولة وتقليصها”.
لا تتناسب والاقتصاد اللبنانيّ
مرّ لبنان بأزمات ماليّة واقتصاديّة، وبدأت ملامح تعافٍ بسيطة تظهر أخيرًا قبل أن تبدأ الحرب الإسرائيليّة على لبنان. هذا الواقع لا يمكن فصله عمّا يحدث اليوم، فخطورة الفوائد تكمن في أنّها “لا تتناسب مع واقع الاقتصاد اللبنانيّ” بحسب ما يؤكّد علامة، خصوصًا وأنّ السلطات المعنيّة لم تقرّ القوانين الإصلاحيّة المطلوبة بدءًا من هيكلة المصارف وصولًا إلى هيكلة القطاع الماليّ في لبنان، حتّى إنّ العلاقة بين الجهات المعنيّة نفسها، بين المصرف المركزيّ ووزارة المال والمصارف ليست سويّة.
يضاف إلى ذلك عدم صدقيّة الترويج لاحتماليّة ارتفاع قيمة العملة الوطنيّة في وقت قريب، إذ إنّ سعر الدولار مصطنع في لبنان، تمّ تثبيته ولا نيّة لخفضه أو إعادته إلى السعر الطبيعيّ المتفاعل نتيجة للعرض والطلب في السوق.
قانونيًا
تعليقًا على ما سبق يرى المحامي جاد طعمة أنّ “المودعين في المصارف اللبنانيّة يواجهون منذ العام 2019 واقعًا مريرًا يتجسّد في ادّعاء شحّ السيولة وتدهور قيمة العملة الوطنيّة بالإضافة إلى تعمّد زرع الشكوك في الآليّات التي ستُعتمد للتعامل مع الودائع المودعة في المصارف منذ ما قبل بدء الأزمة الاقتصاديّة والنقديّة التي عصفت بالبلاد”.
ويتابع استاذ مادّة القانون في الجامعة اللبنانيّة: “بعض المصارف تعرض اليوم على المودعين تسييل ودائعهم السابقة على سعر صرف 15 ألف ليرة مع فوائد فاحشة تصل إلى 45 في المئة على الودائع بالعملة اللبنانيّة، يحصل ذلك مع وعود مستمرة بتحسن الوضع الاقتصاديّ في حال تمّ انتخاب رئيس للجمهورية، لكن في الحقيقة لا شيء مضمون في ظلّ غياب الاستقرار السياسيّ والأمنيّ داخل البلاد”.
طعمة: يحصل ذلك مع وعود مستمرة بتحسن الوضع الاقتصاديّ في حال تمّ انتخاب رئيس للجمهورية، لكن في الحقيقة لا شيء مضمون في ظلّ غياب الاستقرار السياسيّ والأمنيّ داخل البلاد
ويضيف طعمة: “هناك ثقة مفقودة بالمؤسّسات الماليّة، وشكوك جدّيّة لدى عموم المواطنين في القدرة على استعادة ودائعهم المنهوبة والتي تمّ تجميدها بخطأ جسيم من المصارف التي استثمرت أموالهم في الديون البغيضة، واستفادت بشكل غير مشروع من الفارق بين أسعار الصرف وشطب الودائع سابقًا، وتسعى لتكرار ذلك اليوم عبر دفع الناس إلى مقامرة جديدة على أمل تحسين الأوضاع”.
من جهة أخرى، يستغرب طعمة، “عدم تبنّي هذا القرار من جمعيّة المصارف وبقاء مصرف لبنان غائبًا تمامًا عن تحديد السياسات الماليّة الواضحة، لأنّ آلية شطب الودائع القديمة المسجّلة في قيود المصارف بالدولار الأميركيّ هو تمهيد لاقتراف جرم جديد واضح المعالم”.
مخالفة قانون النقد والتسليف
وعن المخالفات القائمة، يقول طعمة: “إنّ أيّ خلل ربّما يؤدّي إلى طباعة مزيد من العملة اللبنانيّة، ممّا يفتح الباب أمام تضخّم إضافيّ ويفاقم الضرر الاقتصاديّ؛ وكلّ هذه الإجراءات تخالف قانون النقد والتسليف”.
إنّما ذلك على اعتبار أنّ عرض الفوائد المرتفعة على الودائع بالليرة لتشجيع شطب الودائع السابقة بالدولار الأميركيّ، تفضي إلى تشويه جديد لواقع الاقتصاد اللبنانيّ. هذا التشويه من شأنه أن يزيد أرباح المصارف غير المشروعة تصل نسبتها إلى 83 في المئة من أموال المودعين، إذا ما جرى صرف ودائعهم السابقة على سعر 15 ألفًا، وهذا مخالف لمبدأ العدالة الاقتصاديّة وحقوق المودعين المنصوص عليها في القانون نفسه الذي يلزم المصارف بعدم فرض فوائد غير معقولة على الودائع.
نقطة أخرى يتطرّق إليها طعمة، وهي مصير الديون التي على الدولة تسديدها للمصارف، فيقول: “لا يجري الحديث عنها، ما يزيد شكوكنا حول تواطؤ حاصل بين جمعية المصارف وأعضاء النادي السياسيّ اللبنانيّ؛ خصوصًا في ظلّ غياب الرقابة القانونيّة والتقاعس القضائيّ عن معالجة مثل هذه القضايا”. إذ إنّ، والكلام لطعمة “المصارف التجاريّة ملزمة بالتعليمات والقرارات التي يصدرها المصرف المركزيّ للحفاظ على الاستقرار الماليّ. وحين لا يتمّ العمل بهذه الأحكام عمدًا، يفتح المجال للتلاعب بالودائع ويسمح للمصارف بالتحايل على قوانين حماية أموال المودعين”.
غياب التشريعات الناظمة
ويلفت طعمة إلى أنّ “الأزمات القانونيّة والاقتصاديّة تتسارع بينما تغيب التشريعات الناظمة، فمجلس النوّاب لم يصدر أيّ قانون يتعلّق بحماية الودائع السابقة، ولم يستدرك أحد وجوب معالجة كلّ الحلول السابقة التي فرضتها المصارف على عملائها. علمًا أنّه حتّى يومنا هذا، لم تنفّذ أيّ عقوبات حقيقيّة على هذه المصارف التي أخلّت بالثقة المصرفيّة وأضرّت بمصلحة الشعب اللبنانيّ في ظلّ تجاهل تامّ لوجوب توفير الشفافيّة التامّة في التعاملات الماليّة والمصرفيّة مع عملائها. كلّ هذا ينعكس خللًا واضحًا في انتظام عمل القطاع المصرفيّ اللبنانيّ ويؤدّي إلى تزايد الاحتقان الاجتماعيّ”.
وهنا، يضيف طعمة أنه “لا بدّ من تأكيد تماهي جهات عدّة تسعى إلى تضليل الناس ودفعهم إلى اعتماد حلول “واقعيّة” على حساب الحلول “القانونيّة” المشروعة، وهي أمور لا تتمّ إلّا بسوء نيّة ومن خلال تنسيق مدفوع الأجر بين جهات تتبادل الأدوار والخدمات. وهذا التواطؤ يهدف إلى تغييب الحلول القانونيّة تمامًا ويُساهم في تفاقم الأزمة ويزيد من فقدان الثقة في النظام المصرفيّ”.
من أجل تحرّك قانونيّ
هذا الوضع يستدعي تحرّكًا قانونيًّا سريعًا، وفق طعمة الذي يؤكّد “ضرورة محاسبة كلّ من يساهم في سرقة أموال الناس وتشويه الاقتصاد اللبنانيّ عبر هيئة الرقابة على المصارف والنيابات العامّة المعنيّة، من أجل ضمان العدالة للمودعين وحماية حقوقهم من أيّ استغلال”.
ويختم: “لذا يتعيّن على وزارة المال التنسيق مع مصرف لبنان وتفعيل الدور الرقابيّ المكرّس في قانون النقد والتسليف بما يوجب على الأخير ضمان استقرار النظام الماليّ وحماية حقوق المودعين من أيّ تلاعب أو استغلال”.
فهل تسعى المصارف مجدّدًا لإيقاع الناس بفخّ الودائع مقابل تحقيقها أرباحًا غير مستحقة؟ وأين السلطات المعنيّة من مجلس نوّاب وحكومة ومصرف لبنان وجمعيّة مصارف وقضاء لبنانيّ وغيرها من كلّ ما يجري؟