المظاهر الرمضانية ودراما الفضائيات
يحمل لنا حلول شهر رمضان المبارك على مرّ الزمن معانٍ وتقاليد دينيّة واجتماعيّة موروثة، ليس أقلّها فرصة للتصالح مع الذات ومع الآخرين. كما يلحظ علماء الاجتماع أنّ شهر رمضان يتيح للدارسين فهم مجموعة من الظواهر الاجتماعيّة يصعب ضبطها في غيره من الشهور، وذلك لاتّسامها بالعشوائيّة، وعدم الانتظام الذي يفرضه الرادع الخارجيّ في ضبط الأوقات وانتظام الحركة الجمعيّة والاقتصاديّة، بحسب مواعيد الصوم والافطار وما بعده من عادات وسلوكيّات في التواصل الاجتماعي بين الناس.
فماذا بقي اليوم من هذه العادات، بعد التحوّلات الديموغرافيّة التي غيّبت العادات والخصوصيّات عن الأرياف، كما عن المدن وظواهرها القديمة، ولا سيّما في العقود الأخيرة بعد سلسلة الحروب والأحداث السياسيّة والمتغيّرات والانهيارات الاقتصاديّة في لبنان والمنطقة العربية بشكل عام؟
يعود الباحث الراحل حسّان حلّاق في كتابه “بيروت المحروسة” بجذور العادات اللبنانيّة الرمضانيّة والبيروتيّة تحديدًا إلى العادات والتقاليد العربيّة والإسلاميّة. فالأجواء الرمضانيّة يبدأ التحضير لها اقتصاديًّا عبر إقامة الأسواق المستحدثة التي ترافق المناسبة، ويمكن القول إنّ مهن رمضانيّة وفرص عمل ينتجها اقتصاد هذا الشهر وتنتشر في أسواق بيروت القديمة.
إلّا أنّ رمضان هذه الأيام، فقد وهجه ورونقه اللذين كان يتّسم بهما في القدم، فالأجواء الرمضانيّة نفسها بين العادات الاجتماعيّة والشعائر الدينيّة وحتّى الحلويات الرمضانيّة التي كانت علامة فارقة، لا بد من أن ترافق هذا الشهر الفضيل ولكنّها اليوم اندثرت ولم يعد لها وجود”.
ويصف حلّاق الأسواق قبيل شهر رمضان في ذلك الزمن “بالحركة التي لا تهدأ، إذ كانت تزدهر وتنتعش ابتداء من نصف شهر شعبان وتزداد ازدهارًا قبيل أيّام قليلة من رمضان المبارك، ولكن إضافة إلى الأسواق العاديّة الموجودة طوال أشهر السنة، كأسواق اللحوم والأسماك والخضار، كان لأسواق الحلويّات والمشروبات الرمضانيّة دور في اكتمال الطقوس الرمضانيّة الغذائيّة، على سبيل المثال في لبنان سوق القطايف التي كان البائعون فيه متخصّصين في صناعة القطايف، من دون أن تغيب عن كلّ المناطق الأخرى، محلّات السوس والجلّاب والمشروبات الرمضانيّة الأخرى”.
طقوس استقبال رمضان
وعن استقبال شهر رمضان في بيروت، يكتب الباحث حلّاق أنّ الناس تقوم بتحضير أنفسها قبل أسبوع تقريبًا، وذلك بتنظيف المنازل أو طلاء الجدران وغيرها من ترتيبات وأعمال منزليّة، إضافة إلى ذلك يكون هناك رحلات يقوم بها البعض وتسمّى “سيبانة رمضان” قد يقضونها على الشاطئ أو في الجبل، المهمّ فقط هو الخروج مع الأهل أو الأصحاب في رحلة يتناولون فيها أشهى المأكولات وألذّها، ولا وقت لها إذ إنّ وقتها يمتد لقبل رمضان بيوم. وبمجرّد إعلان ثبوت رؤية الهلال يدوي صوت المدفع ثلاث مرات على التوالي لإعلان دخول الشهر المبارك”.
عن استقبال شهر رمضان في بيروت، يكتب الباحث حلّاق أنّ الناس تقوم بتحضير أنفسها قبل أسبوع تقريبًا، وذلك بتنظيف المنازل أو طلاء الجدران وغيرها من ترتيبات وأعمال منزليّة.
وهي عادة تشير الدراسات إلى أنّها بدأت العام 1811 في زمن والي مصر محمد علي باشا وتكرّست مع الوجود المصريّ في بلاد الشام (1831-1840) واستمرّت حتّى قبيل الحرب الأهليّة اللبنانيّة، حيث كان مدفع الإفطار والامساك يُطلق من منطقة تلّة الخيّاط التي تعتبر أعلى تلّة في بيروت.
أمّا ظاهرة المسحّراتيّ المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بليالي شهر رمضان، فيكون عادة من أبناء الحيّ الميسورين، يبدأ قبل الفجر بإيقاظ الصائمين حتّى يتناولوا الطعام قبل الإمساك، وكان يضرب بواسطة عصا على طبلة خاصّة، وكان المسحراتيّ يتطوّع لهذا العمل تقرّبًا لله، ولمعرفته بأسماء أبناء الحي أو الشارع الذي يسكن فيه. كما كان المؤذّن في المسجد يؤذّن أيضًا تقرّبًا من الله، وليس كما هو جاري اليوم من أنّ المهام التطوعيّة باتت تسمى “الوظائف الدينيّة”.
غزو الفضائيّات
حتّى الستينيّات من القرن العشرين، كان المسلمون في لبنان لهم عادات وتقاليد وأعراف في شهر رمضان، حرصوا عليها منذ مئات السنين، وفي مقدّمها الحرص على تقديم التهاني وتعميق أواصر صلة الرحم، وتبادل الزيارات اليوميّة بين العائلات، سواء بين الأهل والأقارب، أو بين جيران المحلّة حتّى طلوع الفجر.
هذه العادات أخذت بالانحسار بعد دخول التلفزيون إلى المنازل في مطلع الستينيّات، وباتت البرامج التلفزيونيّة ملهاة يوميّة تُقفل أبواب المنازل على ساكنيها، وتقطع أواصر العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة. أمّا في العقدين الأخيرين ومع غزو مئات المحطّات الفضائيّة المنازل العربيّة، ومع تكريس شهر رمضان كشهر تسويق وبيع وعرض المسلسلات الدراميّة التي عُمل على إنتاجها طوال العام، اجتاحت هذه الفضائيّات المواعيد والأوقات على مدار الأيّام والليالي الرمضانيّة، واحتلّت الشاشات الأماكن العامّة والمقاهي والمطاعم التي تستقبل الساهرين، كما احتلّت الشاشات المتعدّدة الأحجام والقياسات البيت الواحد.
أمّا عن الأثر السلبيّ لاعتبار شهر رمضان هو شهر الدراما العربيّة، فكانت هذه الصناعة تعتمد على الأفكار والسيناريوهات التي يمكن أن تُقسّم عادة إلى ثلاث عشرة حلقة تلفزيونيّة وفي بعض الأحيان تُختصر بسداسيّة أو حتّى بحلقة أو ما كان يعرف بسهرة تلفزيونيّة.
أمّا اليوم ولارتباط صناعة الدراما وأحداث المسلسلات على مدى الشهر الرمضانيّ، أصبحت المسلسلات وسيناريوهاتها التي كانت تحتاج كحدّ أقصى إلى 13 حلقة تلفزيونيّة، تُمغّط وتُفتعل بالأحداث حتّى تصل الحلقات إلى نهاية الشهر الاستهلاكيّ للدراما العربيّة. إذا أراد الباحثون اليوم دراسة حركة المجتمع وظواهره المنضبطة خلال شهر رمضان كما اعتبروها في الدراسات السابقة، سوف يجدون المجتمع منضبطًا بمساعدة الشاشات على مدار الـ 24 ساعة، وهو يتوزّع على الشاشات بعرضها الأوّل والثاني أو الاستعاديّ للحلقات الدراميّة المحشورة على أرقام آلة الريموت كونترول.
غابت الأسواق الرمضانيّة ومظاهرها الاجتماعيّة، وخفّت أصوات الأطفال وفوانيسها تهلّل مع أصوات المطربين الذي كان يتعالى عبر الإذاعات مرحّبين بشهر البركات، وغابت الصور الاحتفاليّة المجتمعيّة بعد أن احتكرتها الشاشات الفضائيّة المنتشرة داخل المنازل، وفي الغرف الموصدة على حوارات المسلسلات ومطوّلاتها حتّى التماس هلال العيد.