المناضل غالب ياغي يرحل مُشبعًا بحبّ بعلبك وناسها
رحل غالب ياغي، المحامي، المناضل، والإنسان الآدميّ الخلوق، صاحب السيرة الطويلة من الأفعال الحسنة التي يتذكرها ويثني عليها، جميع من عرفه من سكّان مدينته بعلبك. لذا، ليس من المستغرب، بل من الطبيعي أن تنهمر تعليقات البعلبكيّين على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وكانت الأسرع في تلقّي الخبر، للتعبير عن الحزن على وفاة رجل تلازمت سيرته مع حقبة مهمّة من تاريخ المدينة، والوطن أيضًا، في خلال نصف قرن ونيّف من الزمن.
لطالما ارتبطت سيرة غالب ياغي بهذه المدينة التي أحبّها. فالكلمة الأولى التي تتصّدر صفحات كتابه “خبايا الذاكرة”، الكتاب الذي سرد فيه مجموعة من الخواطر والذكريات، تقول: “يسعدني أن أهدي خبايا الذاكرة إلى أبناء بعلبك الشرفاء الذين أحببتهم، وإلى كلّ من ينشد الحقيقة في زمن ضاع الحقّ فيه”، ويضيف: “أهدي هذه الذكريات إلى جميع الشرفاء في لبنان والبلاد العربيّة الذين رفضوا الخنوع للأنظمة الإستبداديّة…”.
هذا الإهداء هو خير تعبير عن منحيين اثنين كان قد اتّخذهما الراحل ياغي: العلاقة الوثيقة مع مدينته أوّلًا، وانتمائه العروبي المكلّل بجملة من النضالات التي خاضها في خلال مراحل مفصليّة من تاريخ لبنان والمنطقة العربية.
بدأ غالب ياغي دراسته الإبتدائيّة في بعلبك، لكنّه انتقل بعدها إلى مدرسة الحكمة في بيروت، وربّما كان أوّل احتكاك له مع السياسة عندما حضر مهرجانًا شعبيًّا في بلدة دير القمر، نظّمته في العام 1952 قوى المعارضة المطالِبة بتنحّي بشارة الخوري، وكان له من العمر في حينه عشرون عامًا، وذلك برفقة شقيقه الراحل محمّد عبّاس ياغي.
الإنتساب إلى حزب البعث
أمّا في العام 1953، فكان له أول لقاء مع أكرم الحوراني، الذي ستجمعه به صداقة خاصّة، بعدما لجأ إلى لبنان مع ميشال عفلق وصلاح البيطار. وفي السنة نفسها انتخب شقيقه محمّد عبّاس ياغي رئيسًا لبلديّة بعلبك، وقد استطاعت البلديّة برئاسته القيام بجملة من الإنجازات المتعلّقة بالبنية التحتيّة في مدينة بعلبك، وبأمور أخرى كانت الحاجة إليها ملحّة حينذاك.
أمّا أولى المهمّات النقابيّة لغالب ياغي فكانت من خلال انتخابه رئيسًا للنادي الأدبيّ، خلال فترة دراسته في الجامعة الأميركيّة ببيروت. تلى ذلك انتسابه إلى حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ، وكان طالبًا في القسم الفرنسيّ بالجامعة الأميركيّة، في العام الدراسيّ 1953- 1954. لم يمضِ وقت طويل من انتسابه إلى الحزب حتّى رُشّح إلى عضويّة القيادة القطريّة، ومارس دوره في القيادة والحزب، متفرّغًا لهذه المهمة.
أولى المهمّات النقابيّة لغالب ياغي فكانت من خلال انتخابه رئيسًا للنادي الأدبيّ، خلال فترة دراسته في الجامعة الأميركيّة ببيروت. تلى ذلك انتسابه إلى حزب البعث العربيّ الإشتراكيّ، وكان طالبًا في القسم الفرنسيّ بالجامعة الأميركيّة.
أمّا حصّة بعلبك من هذه المهمّات فكانت من خلال تكليفه بتنظيم شعبة بعلبك، إذ قام بتشكيل قيادة جديدة، وكان أعضاؤها، بحسب ما يقول، “من خيرة عناصر الحزب في المدينة”. وقد شارك ياغي في كثير من الأنشطة حينذاك، ومنها إقامة مهرجان خطابيّ في سينما أمبير تأييدًا لثورة الجزائر، ودعمًا لمصر بعد العدوان الثلاثيّ عليها، العام 1956.
حماية بعلبك ومطالبها
انفجرت ثورة 1958 لأسباب عديدة، كما يفيدنا التاريخ، وبدأ غالب ياغي في تلك الفترة بممارسة دوره الميدانيّ، وبتحريك عناصر المقاومة بالاشتراك مع الأحزاب والقوى الوطنيّة الأخرى في مدينة بعلبك. وقد أدّى هذا الأمر، كما يقول، “إلى انسحاب القوى الحكوميّة من البقاع الشماليّ بكامله حتّى مدخل بعلبك الجنوبيّ، ومن ثمّ انسحبت من بعلبك أيضًا، واحتفظ الجيش ببعض النقاط فقط”.
وقعت على غالب ياغي ورفاقه مهمّة حفظ الأمن في المدينة والحفاظ على ممتلكات الناس، فقاموا بتشكيل لجنة من فاعليّات بعلبك من أجل هذا الهدف. وبصرف النظر عن تتابع الحوادث في ذلك الوقت، فهي قد أتاحت لياغي الاحتكاك بالكثير من الناس والقيام بمصالحات كثيرة على صعيد المنطقة. ولا شك في أنّ تلك الفترة كانت مليئة بالتجارب على جميع الأصعدة.
فعلى الصعيد المطلبيّ الخاصّ بمسألة المياه اللّازمة لريّ بساتين بعلبك، قاد ياغي تظاهرة في المدينة لمطالبة الحكومة بحلّ هذه المعضلة، وذلك في العام 1959. على صعيد آخر، وفي العام نفسه، وبعد سنوات من العمل الحزبيّ وتحّمل المسؤوليّات في خلال حوادث العام 1958 ، تمّ انتخابه أمينًا قطريًّا لحزب البعث في لبنان.
انتخابات وأحداث دامية
في السنوات التالية زار غالب ياغي العديد من البلدان رفقة ميشال عفلق، والتقى العديد من الشخصيّات في لبنان وخارجه، كما بدأ بممارسة مهنة المحاماة. أماّ في ما يخصّ العمل السياسيّ والبلديّ، فقد كان عونًا لشقيقه محمّد عبّاس ياغي، أكان في الانتخابات النيابيّة، العام 1964، التي فاز فيها، أو في الانتخابات البلديّة الفرعيّة، التي فاز فيها الراحل سهيل حيدر في ذلك الوقت.
لكن تلك الفترة لم تمرّ من دون حوادث ذات طابع درامي، إذ قُتل شقيقه الآخر تغلب ياغي في ظروف شبه غامضة في خلال إحدى التظاهرات في المدينة، العام 1965. ومن المعروف أنّ خلافًا سياسيًّا قام في تلك الفترة بين العائلتين البعلبكيّتين الكبيرتين: ياغي وحيدر، وكان أن أغتيل سهيل حيدر أيضًا، وكان مقتل الاثنين، أيّ تغلب ياغي وسهيل حيدر، بمثابة صدمة عميقة للعائلتين، إذ إنّ الراحلين كانا من خيرة شباب المدينة، ويَعتبر غالب ياغي أنّ الحادثتين وقعتا خطأً وظلمًا، نتيجة الجوّ العائليّ والعشائريّ المشحون حينذاك.
الحرب الأهليّة وآلام الفقدان
لطالما شكّلت الحرب الأهليّة اللبنانيّة نقطة مفصليّة في تاريخ البلد وساكنيه، وما زالت آثارها واضحة، ولو بدرجات متفاوتة، حتّى اللحظة. كان غالب ياغي يسكن في بيروت حينذاك، في منتصف الطريق بين جسر المطار والحازميّة، في حين وقع مكتبه كمحاميّ في شارع الحمراء. وقد آثر البقاء في العاصمة برغم المخاطر وعدم الانتقال إلى بعلبك، تفاديًا لبعض الحساسيّات السياسيّة، لكنّه اضطر إلى ذلك نتيجة إصرار شقيقيه محمد وخليل.
بمجرد وصوله إلى بعلبك زاره وفد من الحركة الوطنيّة شارحًا له معاناة المدينة نتيجة غياب السلطة، وقد عرض الوفد ضرورة إنشاء لجنة للحفاظ على الأمن فيها. وقد تشكّلت اللجنة بالفعل (القوّات المشتركة) من ممثّلي الأحزاب الوطنيّة المدعومة من منظّمة التحرير الفلسطينيّة. في تلك الفترة التقى ياغي مسؤولين كبارًا في حركة فتح، وعلى رأسهم أبو جهاد خليل الوزير، وطُلب منه في الاجتماع المساعدة في إقامة التواصل وتعميق العلاقات بين الفلسطينيّين وسكّان المدينة، وفقًا لما تقتضيه ضرورات المرحلة.
إثر حريق سرايا بعلبك في العام 1976، غادر ياغي لبنان إلى السعوديّة، وبقي فيها حتّى العام 1989، وقد عمل هناك مستشارًا قانونيًّا لشركتين لآل السليمان. ولكن بعد عودته إلى بيروت لم تسرْ أموره العائليّة على ما يرام، إذ تبيّن أنّ زوجته مصابة بمرض خبيث، ما اضطرّه لإرسالها إلى الولايات المتّحدة للعلاج.
استغرق هذا العلاج سنة كاملة، وتشتّتت حينها العائلة بين أميركا حيث الزوجة وابنته الصغرى، وابنه في كندا، وبنته الكبرى مع زوجها في اليونان، وهو موزعّ بين بيروت والرياض. وإذا كنّا قد ذكرنا هذا التفصيل، فمن أجل الإشارة إلى ما عانته عائلات لبنانيّة كثيرة من أوضاع بعيدة عن الاستقرار، كانت الحرب من أولى مسبباتها.
فقد ياغي زوجته في العام 1992، يوم عيد الشهداء في السادس من أيّار، وقد رافقه هذا الفقدان طوال حياته. بعد سنوات على ذلك، أيّ في العام 1996، فقد صديقًا جمعته معه علاقة مودّة وصداقة متينة تعود إلى منتصف خمسينيّات القرن الماضي، وما هو إلاّ أكرم حوراني.
إنجازات انتخابات 1998 البلديّة
بعد ما يزيد على ثلاثين عامًا من تعطيل الانتخابات البلديّة، وتعطيل الممارسة الديمقراطيّة، قرّرت الحكومة إجراء انتخابات بلديّة عامّة في لبنان. اتّخذ غالب ياغي القرار بخوض “معركة” الانتخابات البلديّة من أجل مدينة بعلبك ومصلحة أبنائها، وليس طمعًا بالمنصب. وكان الهدف الأساس من خوضها هو استعادة قرار أهل بعلبك، ورفع الغبن عنها، وانفتاحها على العالم، بعدما اتّهمت بأنّها أحد مراكز الإرهاب الدوليّ.
كان الجو العامّ في المدينة متعاطفًا مع اللائحة التي تضمّ ياغي، كما تميّزت هذه الانتخابات بحسن التنظيم، وقد فاز غالب ياغي برئاسة البلديّة، وذلك بالرغم من التدخّلات المتعدّدة والمتشعّبة من أطراف السلطة، وبعض الأحزاب من أجل الوقوف في وجه هذا الفوز.
لو شئنا الحديث بموضوعيّة، ومن دون أيّ خلفيّة سياسيّة أو شخصيّة، لقلنا إنّ الفترة التي أمضاها غالب ياغي في رئاسة البلديّة كانت من أفضل الفترات في العمل البلديّ. قامت البلديّة بإنجازات عديدة، أكان في ما يخصّ احتياجات المدينة، أو من خلال العلاقات التي نُسجت مع بلديّات أوروبّيّة ومنظّمات دوليّة. هذه الإنجازات لا مجال لذكرها (يمكن مراجعة كتاب “خبايا الذاكرة”) ويشهد على نتائجها وإيجابيّاتها كثيرون من أهل المدينة وسواهم، هذا، بالإضافة إلى جملة من المشاريع التي لم يُكتب لها أن تصبح واقعًا.
إنّ الفترة التي أمضاها غالب ياغي في رئاسة البلديّة كانت من أفضل الفترات في العمل البلديّ. قامت البلديّة بإنجازات عديدة، أكان في ما يخصّ احتياجات المدينة، أو من خلال العلاقات التي نُسجت مع بلديّات أوروبّيّة ومنظّمات دوليّة.
وإذ يكون من الصعب الحديث مطوّلًا عن ذلك، فسنكتفي بذكر اللقاء الذي جمع بين الرئيس الحريري، مصحوبًا بوزير الثقافة حينذاك غسّان سلامة، وكلّ من مديري التنظيم المدنيّ والآثار، بغالب ياغي، وكان الهدف من الاجتماع بحث مشروع يسعى من ورائه الرئيس الحريري إلى مساعدة بعلبك وإنمائها، من خلال تحويل المنطقة الممتدّة من مدخل المدينة الجنوبيّ وحتّى المنطقة الأثريّة، أيّ ما بين كيلومتر وكيلومترين إلى منطقة سياحيّة، مع كلّ ما يعنيه ذلك من متطلّبات. لكن وللأسف، اصطدم المشروع بعقبات، كما يحدث غالبًا في بلدنا، وأجهضت الفكرة قبل أن تكتمل.
انتخابات بلدية 2004 وتداعياتها
ترشّح غالب ياغي للانتخابات البلدية مرّة أخرى، العام 2004، بعد انقضاء فترة البلديّة التي ترأّسها، علمًا أنّه لم يكن راغبًا في ذلك، وأتى هذا الترشّح نتيجة إصرار القوى الوطنيّة في المدينة. لم يوفّق ياغي هذه المرّة، بعدما حشدت اللائحة المنافسة كلّ ما في استطاعتها من موارد وإمكانات لم يكن يملكها غالب ياغي، وهو الذي شغله العمل البلديّ عن مهنته الأساسيّة، وأصبح في وضع مادّيّ دقيق.
ما حدث في انتخابات 2004 تكرّر في الانتخابات البلديّة اللاحقة التي خاضها غالب ياغي، لجهة الضغوط المادّيّة والمعنويّة على اللوائح التي كان هو ضمنها، وذلك في مدينة ذات خصوصيّة معروفة من الجميع. استعاض غالب ياغي عن ذلك، مع مجموعة من شباب المدينة، بإعادة تأسيس “تجمّع أبناء بعلبك”، العام 2009، تطبيقًا لفكرة إنشائه في العام 2006، وحصل التجمّع على العلم والخبر.
انتخب التجمّع الدكتور أسعد قرعة رئيسًا له، وأصدر ملحقًا شهريًا لمجلّة “إضاءات” التي تعود ملكيّتها للصحافيّ صبحي منذر ياغي، تحت اسم “هموم الناس”. أمّا الأنشطة التي قام ولم يزل فتتمّ بتمويل ذاتيّ من أعضائه فقط.
في خلاصة تجربته الطويلة، يقول غالب ياغي: “في مشوار الحياة، ومنذ تفتّح الوعي عندي، لم أحمل الضغينة أو الكراهيّة لأحد… إنّ العامل في الشأن العام معرّض دائمًا لسهام الحاقدين… لم تهمّني المراكز والمناصب، ولم تغيّر شيئًا من قناعاتي وسلوكي. أنا أؤمن أنّ قيمة الإنسان تُقاس بمحبّة الناس واحترامهم له. لقد شعرت بمحبة الناس الطيّبين أصحاب الضمائر الحرّة ممّن لم تفسدهم المغانم الرخيصة… هذا الحبّ الكبير من أبناء مدينتي وغيرها سأعتزّ به ما حييت، وهو رأسمالي الوحيد في الحياة”.