المونة المندثرة من بيوت البعلبكيين.. لبنة “القنبريس” و”الضرف” وكان ياما كان!
“قديمًا لم يكن يخلو بيت واحد من “الجرّة”، أما اليوم فقلّة هم الذين يهتمون بتحضير هذا النوع من المونة”.. تقول إبنة بلدة البجاجة في قضاء بعلبك سميرة الغضبان أم علي، وتتابع عملها في تحضير “لبنة الجرة” التي تُعرف أيضًا بـ “القنبريس”، حيث كُثر منا لا يعرفون ذلك النوع من اللبنة البلدية التي يتم تحضيرها يدويًا أو سمعوا به. لكن بالتأكيد سكان القرى والبلدات البقاعية والجبلية خصوصًا كبار السن، عرفوه وخبروه والقسم الأكبر منهم ذاقوا طعمه وحضّروه في يوم من الأيام.
“لبنة الجرة” هي واحدة من ضمن قائمة طويلة، كانت تُحضّر قديمًا على نطاق واسع، وحجزت لها مكانة مرموقة في سلة “المونة” في بلدات بعلبك الهرمل. لكنها تكاد تندثر الآن، لتقتصر على بعض القرى، وأحيانًا تتركّز فقط في بيوت معدودة لا تزال تحافظ على تحضير المونة، العادة التي كان أبناء بعلبك-الهرمل يتوارثونها جيلًا بعد جيل.
عادت مؤخراً بعض مظاهر هذه الحياة الريفية تنتعش قليلاً في بعض قرى بعلبك-الهرمل، وعاد بعض النسوة إلى سابق عهدهن في تحضير مونتهنّ من اللبنة، لا سيما “لبنة الجرة” و”لبنة الضرف” وذلك لتحقيق الاكتفاء الذاتي لعائلاتهن، وأحياناً ليبعنَ ما تبقى منها والاستفادة من مردودها.
لبنة الجرّة
من أبرز الأطعمة المندرجة في خانة “المونة” والتي اشتهر بها أبناء بعلبك-الهرمل هي “لبنة الجرّة” أو كما يُطلق عليها البعض “لبنة القنبريس”. يعيدنا هذا الصنف سنوات إلى الوراء ويرسم لنا صورة الحياة القروية التي على ما يبدو ولّت إلى غير رجعة، وهي لبنة مبسترة تُحضّر في جرّة من الفخار توضع على قاعدة من الحديد لكي ترفعها عن الأرض، ويُضاف إليها حليب طازج من الماعز الذي يرعى في الجرود أو على مقربة من المنزل، ويتم متابعتها وتفقدها يومياً مرات عدّة.
تشتهر بعض البلدات البقاعيّة بتحضير هذا الصنف من اللّبنة مثل حربتا، البجاجة، اللبوة، عرسال، رسم الحدث، شعت، يونين، البزالية، ومقراق، وفي العديد من قرى قضاء الهرمل مثل الكواخ، الشربين، فيسان، القصر، الشواغير، السلمان وغيرها. بالإضافة إلى معظم القرى الحدودية بين لبنان وسوريا، وهي بمعظمها قرى وبلدات لا يزال أهلها يعتمدون على تربية المواشي في معيشتهم. وهذا ما يسهّل تأمين الحليب الّذي تحتاجه لبنة “القنبريس” يوميًّا.
عاد بعض النسوة إلى سابق عهدهن في تحضير مونتهنّ من اللبنة، لا سيما “لبنة الجرة” و”لبنة الضرف” وذلك لتحقيق الاكتفاء الذاتي لعائلاتهن، وأحياناً ليبعنَ ما تبقى منها والاستفادة من مردودها
سميرة الغضبان “أم علي” من بلدة البجاجة في قضاء بعلبك، والتي لا تزال تضع جرة في منزلها تتحدث لـ “مناطق نت” عن طريقة إعداد “لبنة القنبريس” فتقول “إن هذا الصنف من المونة هو من موروث الجدات اللواتي كن يبرعن به، وقد علّمنَه لبناتهن وتناقلته الأمهات جيلًا بعد جيل”. تتابع أم علي الغضبان “أنها تعلّمت تحضير لبنة الجرة من والدتها التي هي بدورها تعلمتها من والدتها، مضيفة أنها علمتها لبناتها ليحافظنَ على هذا الإرث فلا يندثر”. وتلفت خلال حديثها إلى أن بعلبك خصوصًا تشتهر بلبنة الجرة بسبب طبيعة الطقس في جرودها.
عن طريقة تحضير “لبنة القنبريس” تشرح “أم علي” أنها واحدة، وقد تختلف في جزئيات بسيطة خلال عمليّة التحضير، لكن يُجمع كل الذين يحضرونها على وجوب توفر الطقس المعتدل، حيث أنه لا يمكن تحضير “لبنة الجرّة” في بيروت لشدة ارتفاع درحات الحرارة فيها.
فخار وليس بلاستيك
“أم علي” من القليلات اللواتي لا زلن يضعن جرة فخار في بيوتهنّ، وكأنها جزء من أثاث المنزل. تتسع الجرّة لحوالي 30 كيلوغرامًا من الحليب، لينتج عنها لاحقاً حوالي 10 مرطبانات متفاوتة الحجم من اللبنة، تتراوح سعة كل واحد منها بين 2 و3 كيلوغرام. وتلفت أم علي إلى أنها تحضر الجرة بدءاً من شهر نيسان حيث يتم نقعها بالماء والملح لأيام عدة، لكي تتعقم وتتطهر. بعد عملية غسل الجرة، تتابع أم علي “نضع فيها القليل من اللبنة المصفاة ونضيف يوميًّا الحليب والملح لمدة 4-5 أيام، ولاحقاً نضيف الحليب كل 3 أيام”. وتشير أم علي أن الجرة تتميز بفتحة في أسفلها مهمتها “تمصيل” اللبن بغية تجفيف اللبنة، والتي يكتمل جفافها في شهر تشرين الثاني لتستوي في بداية شهر كانون الأول داخل مرطبانات وأواني زجاجية تحضيرًا للاستهلاك.
تشدد أم علي على أهمية جرة الفخار في تحضير “لبنة القنبريس”، والّتي لا يُعلى عليها حسب تعبيرها. تلفت أم علي إلى أن العديد من النساء استبدلن جرة الفخار بأخرى بلاستيك، وذلك نظرًا لغلاء سعر الأولى و”رخص” الثانية. وتوضح أم علي أن سعر جرة الفخار صغيرة الحجم (سعتها ما بين 10 و12 كيلو) يبلغ 65 دولارًا، لذلك استعاضت معظم النسوة عن الفخار واستبدلته بالبلاستيك.
“أم علي” من القليلات اللواتي لا زلن يضعن جرة فخار في بيوتهنّ، وكأنها جزء من أثاث المنزل. تتسع الجرّة لحوالي 30 كيلوغرامًا من الحليب، لينتج عنها لاحقاً حوالي 10 مرطبانات متفاوتة الحجم من اللبنة
تعتبر “لبنة القنبريس” حساسة جدًا لناحية الذباب والحشرات التي من الضروري إبعادها عنها، لذلك تحرص النساء على نظافة الجرة ومتابعتها. وفي هذا الإطار تقدم توصي “أم علي” بالحفاظ على نظافة الجرة وغسلها دائمًا من الخارج، ووضع غطاء قماش عليها ووضعها داخل المنزل في غرفة باردة، لأنّ الاستهتار وقلة الإهتمام بها، يؤدي إلى فساد عملية التحضير.
لبنة الضرف
كثيرون لا يعرفون شيئًا عن “لبنة الضرف”، لا بل لم يسمعوا باسمها أو تذوقوها. لكن لا تزال فئة قليلة من النسوة في القرى المرتفعة قليلاً عن سطح البحر تُعنى بها وبتحضيرها مثل حلبتا وحربتا وحقلة شرف.
تقول أفندية سيف الدين وهي من بلدة حلبتا، ولا تزال تحافظ على هذا التقليد، إن هناك فرقًا كبيرًا بين “لبنة الجرة” و”لبنة الضرف”، فالأولى هي لبنة مصفاة يضاف إليها الحليب تدريجيًّا، بينما الثانية هي لبنة يضاف لها الجبن أو الحليب وتوضع في الضرف.
عن الضرف تشرح سيف الدين إنه يُصنع من جلد الماعز، حيث يتمّ صب المياه والملح في داخله ومن ثم يوضع في الشمس بعد تنظيفه من الشعر، وبعدها يتم خضّه لمرات متتالية بالحليب ليصبح ملائمًا للتحضير، ومن ثمّ يتم وضع اللبنة والجبنة والحليب واللبن في داخله.
تروي أفندية حكايتها مع “لبنة الضرف” مشيرة إلى أنها تعلمتها من حماتها، وهي تعمل بتحضيرها منذ وقت طويل. تضع أفندية سنوياً حوالي 8 ضروف لأنّ الطلب عليها مرتفع جداً. تضيف لـ “مناطق نت”: “أعمل على كميات كبيرة وأصرفها كلها، وحاليًا عملت على “ترويجة” وأبيعها في الوقت الحالي بـ 300 ألف ليرة، بعت حتى الآن اكثر من 500 كيلو، بينما الجزء الذي أنجزته لفصل الشتاء وتبلغ كميّته 500 كيلو، فيتراوح سعره بين 500 و600 ألف”.
لا تزال “لبنة الجرة” و”الضرف” من “الأكلات” المرغوبة والتي تُقدم للضيوف كوجبة فطور، ولا سيما الغرباء عن المنطقة. ولكن مع تقدم الوقت من المرجح أن تندثر هذه المونة لأن الجيل الجديد لم يتعلم كيفية تحضيرها من جهة، ومن جهة ثانية فإنها مرتبطة باقتناء الماعز والمواشي حيث يستصعب النسوة تحضير هذه المونة بتأمين الحليب الطازج يومياً لها، فهل تبقى لبنة الجرة تحكي حكاية الجدات أو أنها ستصبح يوماً ما من الأطعمة النادرة الّتي شكّلت في يومٍ من الأيام، جزءاً غنياً من تراث بعلبك-الهرمل.