“المير يحيى “منطقة أثريّة غامضة في تولين الجنوبيّة
كثيرة هي المناطق الأثريّة في جبل عامل لم يذكرها المؤرّخون، ولم تجرِ فيها حفريّات أثريّة علميّة متخصّصة. وإذا كان كثيرون يعرفون قلاع جبل عامل وحصونه المتداولة، لكن ثمّة مواقع على هيئة أطلال يعرفها أبناء القرى بالخُرب ظلّت مجهولة حتّى اليوم، مع العلم أنّنا نكاد لا نلمس حجرًا في جبل عامل إلّا ونشعر معه بعبق التاريخ وذكرى أقوامٍ وجيوشٍ مرّت من هنا وتركت بعض لمساتها وآثارها.
أينما تجوّلنا جنوبًا نسمع حكايات كثيرة عن أحدهم وقد وجد جرّةً أثريّةً بينما كان يحرث أرضه، وآخر اكتشف مغارةً كبيرة عندما كان يحفر بئرًا قرب بيته؛ أو صادف بعضهم ناووسًا أو قبرًا قديمًا. وكثرت الأقاويل عن فلان ابن فلان وقد عثر على قطع ذهبيّة وباعها لأحد الصاغة أو لتجّار الآثار. وما يؤلم في هذه القصص أنّ الرواة أو المستمعين لم يكن ليهتزّ لهم جفن وهم باتوا يعلمون بالاعتداء على الآثار أو سرقتها أو تخريب هذه المعالم الموغلة في القدم والتاريخ، ما يفقدها قيماتها العلميّة والأثريّة.
آثار “المير يحيى”
من هذه المواقع المهمّة ثمّة موقع يعرف بـ”المير يحيى” أو “المريحيّة”، وهو موقع أثريّ يقع على تلّ جميل إلى الشمال الغربيّ من بلدة تولين ويتبع لها عقاريًّا. هو مكان معروف بالنسبة لأهل تولين وبعض أبناء قرى الجوار، لكنه لم يلقَ اهتمام المؤرّخين وعلماء الآثار، وغير ملحوظ على الخارطة الآثريّة أو السياحيّة الرسميّة، وربّما يعود سبب ذلك إلى ضياع معالمه وقد أصبح أقرب إلى أطلال وخراب بعدما عبثت به يد السارقين وتُرِك للإهمال وعوامل الطقس والزمن.
ويتداول أهالي تولين أنّه كانت فيه عدّة غرف بمثابة بيوت متفرّقة أو ما يشبه قرية صغيرة، ويدلّ على ذلك عديد من الآبار فيه وحوله، لم يزل بعضها قائمًا فيما اندثر بعضها الآخر إمّا بمرور الزمن أو بعد تعرّضها لعبث المنقّبين أو السرقة.
بقايا كنيسة وقرية
ويروي رئيس بلديّة تولين الأسبق المهندس فاضل فاضل إلى “مناطق نت” أنّه في عهده “قرّرت البلديّة جعل منطقة المير يحيى منطقة ترفيه وتنزّه واستراحة لأهالي البلدة والجوار، وإقامة عدد من المقاعد الصخريّة فيها، وبناء جدار يصونها مع مدخل لها. لكن تسرّبت أخبار إلى المديريّة العامّة للآثار تفيد بأنّ البعض ينقلون الحجارة ويبنون بها بيوتًا أو “تصاوين” وأنّه جرت سرقة الآثار واللُقى من المنطقة، فأوقفت الأعمال فورًا بمساعدة القوى الأمنيّة خصوصًا بعدما بانت أهمّيّة هذه الآثار ومنها وجود حجر صخريّ مربّع الشكل أبعاده متر بمتر، وفي وسطه دائرة يتوسّطها صليب محفور بشكل نافر، ورجّحت أن تكون من الحقبة البيزنطيّة”.
ويضيف فاضل: “تُثبت هذه الصخرة بدون شك أنّ الموقع كانت فيه كنيسة مسيحيّة قديمة العهد. وقد أجرينا مزيدًا من المعاينة فوجدنا إضافةً إلى الآبار والمغاور، بعض بقايا أعمدة وحجارة مربّعة ومقصّبة بشكل هندسيّ وبابعاد مختلفة، ومنها عتبات مداخل وتيجان أعمدة وأركان جدران، وتدلّ كثرتها على حجم المباني التي كانت قائمة في المكان”.
قصّة “المير يحيى”
ويتداول أهالي تولين قصّة “المير يحيى” كلّ على طريقته، خصوصًا أنّ الحكاية تواترت من جيل إلى جيل، وقد لحقتها أقاويل وإضافات أو انتقصت بعض فصولها. وتروي الحاجة “أم فارس” فاضل حكاية المير يحيى إلى “مناطق نت” فتقول: “إنّ أميرًا كان يسكن في هذه المنطقة المعروفة بالمير يحيى، وكان اسمه يحيى. وأحبّ ابن الأمير فتاة كانت أمّها تسمّى عنقاء تسكن في حيّ قريب في تولين ما زال قائماً حتّى اليوم ويعرف بحيّ عنقا. ولمّا جاء وفد يطلب يد ابنتها اشترطت عنقاء كي توافق على هذا الزواج من ابن الأمير يحيى أن يقتلوا أباه ويُحضروا رأسه إليها، فلمّا فعلوا ذلك قالت لهم: إن لم يكن فيكم خير لأميركم فكيف ستعاملون ابنتي؟ ورفضت تزويجها إلى ابن المير يحيى”.
تعدّيات حديثة
وبعيدًا من هذه القصّة التي قد تكون مصاغة من المخيّلة الشعبيّة، لا بدّ من أنّ لهذا المكان تاريخًا يجب إماطة اللثام عنه، وأن تجري فيه حفريّات تنقيب أثريّة وعلميّة بإشراف المديريّة العامّة للآثار، من خلال بعثة متخصّصة. وحتّى ذلك الحين يجب المحافظة على ما تبقّى من آثار وأطلال، خصوصًا بعدما اكتشفنا في أثناء إعداد هذا التحقيق أنّ هناك أعمال نبش جديدة لا تتعدّى بضعة أشهر بغرض السرقة، على رغم أنّ الموقع صار في عهدة الدولة اللبنانيّة منذ العام 2016، ويتبيّن أنّ البعض يستغلّون الوضع الأمنيّ الحاليّ وخلوّ المنطقة من الناس للقيام بالحفر سرًّا.
هناك أعمال نبش جديدة لا تتعدّى بضعة أشهر بغرض السرقة، على رغم أنّ الموقع صار في عهدة الدولة اللبنانيّة منذ العام 2016، ويتبيّن أنّ البعض يستغلّون الوضع الأمنيّ الحاليّ وخلوّ المنطقة من الناس للقيام بالحفر سرًّا.
آبار وأجران وبركة
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلمة “مير” يمكن أن تكون تحويرًا لفظيًّا مع مرور الزمن لكلمة “مار” و”يحيى” معروف أنّه “يوحنّا” فيكون الموقع باسم “مار يوحنّا” أو كنيسة مار يوحنّا، وهو احتمال وارد لكثرة الآثار المسيحيّة في المناطق الجنوبيّة، وربما كانت المنطقة ملجأً للمسيحيّين المضطهدين من قبل الرومان في مطلع العصر البيزنطيّ، وهذه تخمينات أو تحليلات قد يؤكّدها أو ينفيها البحث الأثريّ والتاريخيّ المعمّق.
ونشير إلى وجود بركة مياه كبيرة قريبة من موقع “المير يحيى” يُنزل إليها بدرجين صخريّين جميلين، وجرى ترميم البركة منذ مدّة قريبة من قبل البلديّة. ويؤكّد عدد من الأهالي أنّه تمّ العثور في مناطق مختلفة من تولين على مغاور وآبار ومعاصر وأجران ولقى أثريّة متنوّعة.
جبل عامل، أرض التاريخ والحضارات، غنيّ بالآثار والمعالم التاريخيّة المهمّة والتي يجب المحافظة عليها والاهتمام بها لئلّا تضيع مع مرور الزمن كما ضاعت كثير من هذه المعالم والمواقع الأثريّة بسبب الإهمال والتعدّيات وأعمال النهب المنظّمة، وتضيع معها قصّة هذه الأرض وأهلها ومن مرّ عليها وما جرى فوقها من أحداث ووقائع.