النازحون بين جشع التجار وفشل خطة الطوارئ
سبّب اشتداد العدوان الإسرائيليّ على جنوب لبنان والبقاع والضاحية حركة نزوح هائلة إلى المناطق الآمنة في لبنان، فاستغّل تجّار الحروب من أصحاب الأملاك والمؤجّرين الوضع كي يضعوا شروطًا تعجيزيّة لاستغلال النازحين مقابل شيء من الأمان. إيجارات خياليّة، ودفع مسبق مقابل شقق غير مفروشة، وإن كانت مفروشة يتضاعف المبلغ أكثر فأكثر بحسب مزاجيّة المؤجّر.
وصل العدد الإجماليّة للنازحين إلى 191516 نازحًا (44124 عائلة) في مراكز الإيواء فقط حيث سجلت النسبة الأعلى للنازحين في محافظة جبل لبنان وبيروت، ولكن المقدّر أنّ عدد النازحين هو أعلى بكثير وفق ما أعلنته لجنة الطوارئ الحكوميّة في تقريرها الـ 25 حول الاعتداءات الإسرائيليّة على لبنان والوضع الراهن.
في بداية العدوان على الجنوب نزحت نور (اسم مستعار) من إحدى القرى الجنوبيّة الحدوديّة إلى منزل أقربائها في ضاحية بيروت الجنوبية. بعد اغتيال الأمين العام لـ “حزب الله” السيّد حسن نصرالله وتهديدات العدّو الإسرائيليّ للضاحية، نزحت نور مجدّدًا من الضاحية إلى مار مخايل فاستأجرت مع عائلتها غرفة مقابل 60 دولارًا في الليلة الواحدة. استمّر البحث عن منزل يؤوي العائلة المؤلّفة من خمسة أفراد لمدة تقارب الأسبوعين، حتّى وجدت العائلة منزلًا في منطقة جبل لبنان مقابل 1000 دولار بالشهر مع أجرة شهرين مسبقة. وأمّنت العائلة احتياجات المنزل من إمدادات الكهرباء والماء على عاتقها أيضًا.
وصل العدد الإجماليّة للنازحين إلى 191516 نازحًا (44124 عائلة) في مراكز الإيواء فقط حيث سجلت النسبة الأعلى للنازحين في محافظة جبل لبنان وبيروت
بحسب المهندسة والباحثة المدينيّة في “استديو أشغال عامّة” يارا عبد الخالق هناك شحّ في العرض في بعض المحافظات، وأحيانًا ضمن المحافظة نفسها، لأنّ هناك إحجام عن التأجير عند فئات محدّدة من المجتمع. وفق عيّنة الدراسة التي أجراها استديو أشغال عامّة- مرصد السكن- إذ تبيّن أنّ هناك تفاوتًا هائلًا في التسعير من دون وجود أيّ معيار مشترك، فأحيانًا يسجّل إيجار وحدة سكنية بالمواصفات والمنطقة ذاتها تفاوتًا يصل إلى الضعف. تقول عبد الخالق لـ “مناطق نت”: “مقابل التضامن الاجتماعيّ الذي شهدناه منذ بداية النزوح من تأمين مسكن مجّانيّ، في المقابل هناك بدل إيجارات مرتفع جدًّا، وطلبات بالدفع المسبق تراوح بين الشهرين والـ 14 شهرًا، بالإضافة إلى دفع بدل تأمين وعمولات مُبالغ فيها”.
مبادرات فرديّة وغياب للدولة
“الأمور فلتت”، هذا ما علّق به رئيس بلديّة بيروت عبدالله درويش لـ “مناطق نت” حول الإيجارات الخياليّة، قائلًا: “لا دور للبلديّات في هذا الشأن لأنّه ملك خاص. ولا يعتبر “استغلال” لأنّه عندما يرتفع الطلب على الشقق المعروضة يرتفع سعر الإيجار. فالمسألة محكومة بالعلاقة بين المستأجر والمؤجّر”.
ما قاله درويش أكّده المحامي شارلي بو نعمة، الذي أوضح أنّه: “بحسب القانون اللبنانيّ ولا سيّما قانون الموجبات والعقود لم يحدّد سقفًا معيّنًا لبدلات الإيجار، وبالتالي يحّق للمالك رفع البدل بكيفه. فالأمر هو اتّفاقية بين المستأجر والمؤجّر وفق مبدأ حريّة التعاقد”.
وبحسب بو نعمة “القضاء هو من يستطيع حلّ المسألة”. مضيفًا أنّ “قانون الموجبات والعقود يتحدّث عن حالة “الغبن” حين يستفيد المؤجّر من عدم خبرة المستأجر وضيقه أو استغلال “المغبون” من أجل زيادة البدل وهنا يأتي دور القضاء المدني”.
ويضيف بو نعمة: “على السلطة المعنيّة تعديل قانون الإيجارات بحيث يضمن حقوق المستأجرين ومنع الاستغلال الحاصل حماية لطرفيّ العقد. لأنّه في القانون لا حديث عن الظروف الاستثنائيّة ولا سقف محدّدًا للبدلات منعًا للاستغلال”. ولكن في ظلّ هذه الفوضى وغياب الدولة وفشل خطّة الطوارئ من سيسأل عن حق النازحين؟
وسائل التواصل صفحات إعلانات
تحولّت الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي إلى خليّة مستمرّة في البحث عن منازل تؤوي النازحين، كذلك نُظّمت مبادرات فرديّة من أجل مساعدتهم على تأمين شقق لهم. تيمور سليقا واحد من هؤلاء الناشطين على هذه المجموعات. بحسب تيمور: “هناك عديد من الناس ممّن تواصلنا معهم فتحوا أبوابهم للنازحين. ما نقوم به هو التواصل مع أصحاب الشقق ومفاوضتهم على الإيجار وعلى تخفيض المبلغ المطلوب”.
اتّبع أفراد المبادرة سياسة عدم نشر إعلانات الشقق المعروضة بأسعار مرتفعة والمطلوب فيها الدفع مسبقًا، ولجأوا إلى المراوغة من أجل تخفيض السعر المطلوب عبر الاتّصال بأصحاب الشقق المعروضة بأسعار مرتفعة مع دفعات سلف من عدّة أرقام ومساومتهم على السعر. يضيف تيمور: “في بعض الأحيان استطعنا أن نخفّض الإيجار المطلوب من 2000 دولار إلى 1200 دولار. استخدمنا كلّ الأساليب من أجل المساعدة، هناك من تفاعل معنا، وهناك من رفض ذلك بل رفض حتّى تقبّل الحديث معنا”.
نشر أحمد النازح من بلدة عين بعال الجنوبيّة، منشورًا على صفحته الفايسبوكيّة يبحث فيه عن منزل للإيجار في أيّ منطقة آمنة في لبنان. وبعد فترة، عثر على منزل في بشامون كان معروضًا للإيجار بـ 500 دولار شهريًّا. لكن عند التواصل مع المؤجّر، صُدم أحمد عندما اكتشف أنّ الإيجار ارتفع إلى 2500 دولار شهريًّا، مع إلزاميّة دفع ثلاثة أشهر مقدّمًا. عرضت المالكة على أحمد شقّة أخرى غير مفروشة مقابل 850 دولارًا شهريًّا. عندما طلب صور للشقّة رفضت قائلة له: “الشقة مش منيحة للسكن”! واحدة من الحالات التي تقف شاهدة على استغلال أصح أصحاب الملك لأبناء جلدتهم أثناء الحرب.
غياب السياسات للحدّ من المضاربة
الاستغلال الحاصل اليوم يعود إلى الفوضى التي تحكم الإيجارات بسبب غياب السياسات المتعلّقة بها. فحسب عبد الخالق: “إنّ غياب السياسات المتعلّقة بضبط سقوف الإيجارات والحدّ من المضاربة العقاريّة هو واقع يسبق الحرب القائمة، وتظهر اليوم الحاجة إلى تدخّل الدولة بموضوع الإيجارات بشكل مباشر أكثر من أيّ وقت مضى. فبدل إصدار تعاميم استثنائيّة تطال فئات محدودة من النازحين المودعين، على الدولة مراقبة أسعار الإيجارات وضبطها ووضع سقوف لها بما يتناسب مع الوضع الاقتصاديّ الحاليّ”.
نزحت فاطمة برفقة والديها وابنتها من الصرفند (الزهراني- صيدا) في الجنوب اللبنانيّ بعد تعرّض المنطقة التي تقيم فيها للقصف. كان طريق النزوح متعبًا جدًّا. وجدت العائلة منزلًا في منطقة الشوف مقابل إيجار 1800 دولار مع دفع ثلاثة أشهر سلفًا، فرضخوا للواقع “لأنّ الإيجارات كلّها في ارتفاع مستمّر”. قبل انطلاقهم إلى المكان المحدّد بساعة حاولوا الاتّصال بصاحب الملك لكنّه لم يجب على اتّصالاتهم.
عبد الخالق: غياب السياسات المتعلّقة بضبط سقوف الإيجارات والحدّ من المضاربة العقاريّة هو واقع يسبق الحرب القائمة، وتظهر اليوم الحاجة إلى تدخّل الدولة بموضوع الإيجارات بشكل مباشر أكثر من أيّ وقت مضى
وعود كاذبة ومضايقات
وجدت العائلة منزلًا آخر في منطقة صوفر مقابل 1200 دولار، وأخبرهم صاحب الملك أنّ المنزل مفروش بالكامل ولا ينقصه شيء، “كما أنّهم لم يطلبوا منّا دفع إيجار سلف”. وصلت العائلة إلى المنزل فاكتشفت أنّ البيت تنقصه أساسيّات كثيرة، لكنّهم وافقوا على استئجاره كي لا يبيتوا في الشارع. عندما تواصلوا مع المؤجّر من أجل الفرش، طلب منهم مقابل تأمين احتياجات المنزل الباقية مبلغًا ماليًّا إضافيًا، ناهيك عن أنّ فاتورة المياه التي جعلها على عاتقهم.
تعرّضت فاطمة لمضايقات من صاحب الملك إذ بات يضيّق عليها الخناق ويقيّد حريّتها ويتدخّل بتصرفاتها مع عيالها. تقول فاطمة: “لم نشعر بالراحة ولم نأخذ مساحتنا الشخصيّة وخصوصيّتنا في المنزل، إذ كان أصحاب الملك يدخلون إلى المنزل بين الحين والآخر بحجّة الاطمئنان على ملكهم، وكأنّهم يشاركوننا المنزل”. مضيفة: “اللي بيضهر من بيتو بقّل مقدارو. لن أبقى في المنزل بعد انتهاء فترة الإيجار وهي شهر، أفضّل العودة إلى منزلي في الجنوب على أن أعيش في ظلّ ظروف كهذه”.
بعدها انتهائي من مقابلة فاطمة بيوم، علمت منها أّنّ أصحاب الملك افتعلوا مشكلة معهم ليلًا، فاختارت العائلة العودة إلى الجنوب على الرغم من التهديد وغياب الأمان هناك، على أن يبقوا تحت رحمة المستأجر.
يتلّقى الخطّ الساخن لـ “مرصد السكن” التابع لـ “استديو أشغال عامّة” اتّصالات تتعلّق بإخلاءات تطال غير لبنانيّين لإسكان نازحين لبنانيّين أو إخلاءات تطال لبنانيّين حتّى لإسكان نازحين بإيجارات أعلى، بالإضافة إلى اتّصالات عن بعض حالات محاولات إخلاء جماعيّ لنازحين قاموا بإشغال مبان او منشآت خاصّة مهجورة. تقول عبدالخالق: “نتدخّل بهذه الحالات عبر تقديم الاستشارة القانونيّة والمفاوضة المباشرة لضمان بقاء المستأجرين في مأجورهم وحتّى إيجاد ضمانات لأصحاب الملك المهجور والوصول إلى صيغة مناسبة لبقاء النازحين في هذا الملك”.
ضرورة تحديث خطّة الطوارئ
لم تنجح خطّة الطوارئ التي وضعتها الدولة، وخير دليل على ذلك هم النازحون الذين ما زالوا على الطرقات والإيجارات التي ما زالت في ارتفاع وتنامي الاستغلال وطرد النازحين.
تقول عبدالخالق: “على الدولة تحديث خطّة الطوارئ وضمنا بما يتّصل بإيواء النازحين بعدما تبيّن أنّ خطّة الطوارئ التي وضعتها الدولة لم تنجح في معالجة ملف النزوح، فأمام ما نراه من تجاوز هو ما كان متوقّعًا، لأنّ الخطّة لم تلحظ موارد وأماكن إيواء تتناسب مع حجم النزوح”.
تتابع عبدالخالق: “يفترض أن يترافق ذلك مع إصدار مرسوم تعبئة عامّة على نحو منح الدولة هامشًا واسعًا لتوفير الموارد الوطنيّة اللازمة لحاجات الإيواء، كذلك يمكنها اتّخاذ إجراءات فوريّة في موضوع السكن والإيواء ومنه مراقبة قيمة الإيجارات وضبطها عبر تحديد سقوف لها، تجهيز أماكن الإيواء المعتمدة، توجيه النازحين نحو مراكز عامّة ومبان شاغرة، عدم التمييز بين اللبنانيّين وغير اللبنانيّين والامتناع عن أيّ إجراءات تعسّفية تجاه النازحين أو استخدام للقوّة. بالإضافة إلى فتح جميع الحدائق العامّة، لتكون مساحات يمكن للنازحين اللجوء إليها بشكلٍ موقّت”.
مراكز إضافية
يعلّق رئيس بلدية بيروت على فتح المساحات العامّة أمام النازحين بأنّها خطوة غير عمليّة، لأنّها تتطلّب كثيرًا من المستلزمات. مضيفًا: “تعمل البلديّة بالتعاون مع محافظ بيروت مروان عبّود على تحضير مركز إيواء كبير في الكرنتينا وهو يسع من 3000 إلى 4000 شخص من أجل استقبال النازحين اللبنانيّين. فهدفنا هو تأمين مركز إيواء للبنانيّ كي لا يبقى في الشارع”.
أمّا بالنسبة إلى النازحين من غير الجنسيّة اللبنانيّة يقول درويش: “هناك مراكز إيواء خارج بيروت يمكنهم اللجوء إليها، ونحاول البحث عن حلول لكنّ الأفضل أن يتّم نقلهم إلى محافظات أخرى”.
أمام هذا الواقع يبقى النازح الذي مهما اختلفت جنسيّته أمام مصير مجهول إلى الآن، فبين آلة القتل الإسرائيليّة وبين الاستغلال يبقى النازح وحيدًا والدولة مستغرقة في سباتها تاركة المسؤوليّة على المبادرات الفرديّة.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.