النبطية بين المسرح العائم والعصر الذهبي وأفول نجم المسرحيّات (1)
شكّل المسرح في النبطية منذ مطلع الستينيّات من القرن الماضي هدفًا لعديد من الأساتذة والمعلّمين ممّن سافروا و”تغرّبوا” إلى دول عديدة وتعرّفوا فيها على أهمّيّة المسرح في حياة الشعوب، ناهيك بما اكتسبوه من السينما التي تغلغلت إلى المدينة منذ عهد قديم، قبل الأربعينيّات وتألّقت في الخمسينيّات، فبادروا إلى إنتاج مسرحيّات مدرسيّة خفيفة أبطالها من تلامذتهم، ثمّ راحوا يفكّرون في نقلها إلى مسارح شعبيّة أكبر وأشمل.
كان الأديب والأستاذ حبيب جابر ومعه أستاذ مادة الرياضة حسّان كحيل أوّل من فكّرا في إنشاء فرقة مسرحيّة في النبطية في مطلع الستينيّات. ساعدهما في ذلك حماسة المربّية ومديرة مدرسة البنات آنذاك فريحة الحاج علي المنفتحة على الفنون التشكيليّة والمسرحيّة وقد تبنّت فنّانين مبتدئين وأخذت بأيديهم إلى برّ الأمان والشهرة.
النبطية إلى “المسرح العائم”
يروي الأستاذ حسن نصّار، الرئيس الأسبق لنادي الشقيف في النبطية حكاية بداية المسرح الجدّيّ في النبطية، فيقول لـ”مناطق نت”: “في العام 1961 طلب الأستاذ كاظم الحاج علي وكان مدير الإذاعة اللبنانيّة وهو شقيق السيّدة فريحة الحاج علي من شريف الأخويّ التوجّه إلى النبطية لإطلاق الثقافة الفنّيّة فيها، انطلاقًا من مدرسة فريحة الحاج علي، فأتى ووجد حبيب جابر وحسّان كحيل قد بدآ في تشكيل نواة فرقة، فجرى التنسيق بينهما وبين وديعة جرار كمدربة للدبكة في لبنان وكانت تشرف على المسرح العائم في صيدا”.
في سنة 1962 وأمام حشد كبير من السفراء والوزراء والنوّاب والسائحين ووفود من دول عربيّة وأجنبيّة، احتفلت صيدا ومحافظة الجنوب بمهرجانات الربيع بمشاركة فرق شعبيّة من مختلف مناطق الجنوب. وقد شاركت النبطية بعمل مسرحيّ فولكلوريّ من إعداد وبطولة حبيب جابر وهيفاء نصّار إلى جانب الأستاذ علي طقش وكاملة زيتون وشقيقتها الراحلة يمن (زوجة شريف الأخوي لاحقًا) وشقيقتهما الصغرى شادية، وكمال بدر الدّين وغيرهم، وكان نجاح العمل باهرًا.
تقول شادية زيتون (دغمان) لـ”مناطق نت”: “ما أذكره تمامًا أنّه في العام 1962 وكان عمري 10 سنوات تشكّلت فرقة في النبطية، من شباب وبنات ممّن يدرسون ويتعلّمون في النبطية، وشاركت في الفرقة يومها شقيقتاي يَمَن وليلى إضافة إلى كمال بدر الدين وزعل سلّوم وعاطف صيداوي ومصطفى بدر الدين وعلي طقش ورجاء الأمين وكان يدرّبنا كلّ من حبيب جابر وحسّان كحيل لهما الرحمة، وكان هناك المسرح العائم في صيدا تُشارك فيه فرق وأندية من مختلف مناطق الجنوب. كانت فرقة النبطية مميزة بما قدمته في تلك الليلة، كنت بريئة جدًّا، أعطوني دورًا كتبوه لأجلي، لا أذكر لماذا؟ وقدّمنا هذا العمل على مدى سنتين متتاليتين”.
في الجامعة العربية
وتضيف زيتون: “هذه الفرقة عادت وقدّمت عرضًا سنة 1967، وكان قد أصبح عمري 15 سنة وكنت خجولة جدًّا، وأقنعوني بأن أمثّل الدور الذي أعدّ لأجلي، وقدّمنا هذا العرض على مسرح الجامعة العربيّة في بيروت. بعدها تابعت دراستي في بلجيكا وتخرّجت هندسة داخليّة وسينوغرافيا المسرح. أكيد كان للنبطية تأثير كبير بالنسبة إليّ شخصيًّا، منها صارت خشبة المسرح تعني لي كثيرًا، منذ 1962 وحتّى الآن، وأظنّ من أجل ذلك درست السينوغرافيا وهي إلمام بالديكور والإضاءة والموسيقى والملابس والأكسسوار وكلّ عناصر المسرح”.
يقول نصّار: “كنت في الجامعة العربيّة أدرس محاسبة وإدارة، منتسبًا إلى الاتّحاد الجامعيّ، وعرضت عليهم أن نعرض مسرحيّة النبطيّة التي قدّمت في المسرح العائم، أتيت لعند السيّدة فريحة وعرضت عليها الفكرة فرحّبت وقالت سأهيّئ البنات ونستأجر الثياب من عند نحّاس، وهكذا حصل”. ويضيف: “بعدها بادر حبيب جابر وحسّان كحيل وزعل سلّوم وعاطف الصيداوي وكاملة زيتون إلى تأسيس نادي الشقيف في النبطية بالتنسيق مع عبد العزيز الزين وأحمد عبد الهادي الصبّاغ (وكان رئيس بلدية النبطية)، وانتخبوا سنة 1963 أوّل هيئة إداريّة برئاسة الصبّاغ وانطلق النادي”.
“عتمة الليل”
في الجامعة العربية قدّم طعان أسعد مسرحيّة “عتمة الليل” وكانت من بطولة حسن نصّار وطالبة من سوريّا عرضت لثلاثة أيام متتالية. يقول نصار: “أتيت لعند عادل صبّاح وكان قد أصبح رئيس النادي وعرضت عليه وعلى أعضاء آخرين نقل المسرحيّة إلى النبطية فوافقوا بالإجماع، فذهبت إلى طعان أسعد وطلبت المسرحية فوافق. أتيت بالنصّ وجلت على مدارس ليلى نصار (شقيقته) وفريحة الحاج علي ودار المعلمين والمعلمات وجمعت 75 راقصة وراقصًا للدبكة وبدأت أدرّبهم في دار المعلمين وكان معنا علي سلوم وحيدر بعلبكي وحسام صبّاح وعلي عبدالله بيطار وعلي ترحيني، واتّصلنا بالشاعرة سلمى فرحات لتعديل بعض النصوص”.
ساعد في تدريب الفرقة كلّ من وليد باريش من بيروت ومروان جنزرلي من طرابلس وكانا من عناصر فرقة كركلّا للرقص الشعبيّ. يقول نصّار: “كنت أنا ووليد ومروان وعلي سلوم وحيدر بعلبكي ورفيق علي أحمد أبطال فرقة الدبكة. لم يكن من مسرح لنادي الشقيف فقدّمنا المسرحيّة سنة 1972 في مدرسة الراهبات في النبطية وكانت ناجحة جدًّا. ساعدنا كاظم الحاج علي كثيرًا وسمح لنا بتسجيل الأغاني بصوتي في استديوهات الإذاعة اللبنانيّة، وبدأت العروض تنهال علينا فقدّمناها في بعلبك وفي صور وسجّل لنا تلفزيون لبنان أعمال الدبكة، ثم أقمنا مسرحًا في نادي الشقيف وعرضناها وجمعنا من خلالها تبرّعات من المغتربين”.
سفر لم يكتمل
مثّل في “عتمة الليل” إلى جانب حسن نصّار وغادة مقلد (صارت زوجته لاحقًا) حيدر بعلبكي علي سلّوم وحسام صبّاح وحبيب وأديب وهبي وعلي عبدالله بيطار، وفاتن عاصي ودولت بيطار وجورجيت مراد وسلوى زيباوي وراغدة بيطار ومالك سلّوم وحسيب بيطار وهيام عبدالله وعديد من الفنّانين المبتدئين.
بعد جهد كبير بذلته فريحة الحاج علي وعادل صبّاح في إقناع ذوي البنات في المسرحيّة بالسماح لهنّ بالسفر إلى أبيدجان لعرض مسرحيّة “عتمة الليل” وتحضير المعاملات اللازمة وجوازات السفر، “وقبل أقلّ من أسبوع من السفر حصل إشكال كبير في الكازينو المقرّر عرض المسرحيّة فيه تخلّله إطلاق للنار، فألغيت الاحتفالات فيه، ومنها المسرحيّة المقرّرة” يقول نصّار.
“عرس الضيعة”
سبق عرض مسرحيّة “عتمة الليل” لنادي الشقيف، أن عرض النادي مسرحيّة بعنوان “عرس الضيعة” ساعدت في كتابتها الشاعرة سلمى فرحات “وكذلك فريحة الحاج علي وكنّا نجتمع عندها في بيتها كلّ ليلة ونؤلّف مشهدًا جديدًا للمسرحية بمساعدة فريـال بعلبكي ونهلا الصبّاح ونجاة جميل. وقد أمّنت السيدة فريحة البنات من مدرستها لفرقة الدبكة إذ كان صعبًا في حينه مشاركة البنات في المسرح” يقول حيدر بعلبكي بطل المسرحية.
قدّمت مسرحية “عرس الضيعة سنة 1970 على مسرح دار المعلمين والمعلّمات في النبطية وكانت من بطولة حيدر بعلبكي وعلي سلّوم، سلام بدر الدين، ديانا عواضة، عبدالله كحيل، سلام صبّاح، دينا حاج علي، علي طقش وأحمد حنقير وغيرهم. ثم قدّمت المسرحيّة لاحقًا في الصرفند، في معرض زراعي كان يقام هناك.
“نواطير بلا كروم”
كان العمل المسرحيّ الثالث لنادي الشقيف “نواطير بلا كروم” سنة 1975 من كتابة طعان أسعد. يقول بعلبكي لـ”مناطق نت”: “جئنا بحسن بدر الدين من حاروف، وهو من فرقة كركلّا للتدريب على الرقص والدبكات. وسجّلنا الأغاني بأصوات المطربة سماهر وعازار حبيب ونايف علي. كنّا نذهب إلى الاستديو في بيروت كي نسجّل وكان يشرف على التسجيل الفنّان الراحل ملحم بركات”.
قدّمت المسرحية لمرّة واحدة على مسرح نادي الشقيف، وبعدها تدهورت الأوضاع الأمنيّة في النبطية التي بدأت تتعرّض للقصف الإسرائيليّ ما سبّب هجرة أبناء المدينة إلى مناطق بعيد عنها ومنها عاصمة إقليم التفاح جباع التي غصّت بالنازحين من النبطية إليها.
قدّمت المسرحية لمرّة واحدة على مسرح نادي الشقيف، وبعدها تدهورت الأوضاع الأمنيّة في النبطية التي بدأت تتعرّض للقصف الإسرائيليّ ما سبّب هجرة أبناء المدينة إلى مناطق بعيد عنها
لم يكن العمل المسرحيّ الأخير لنادي الشقيف والذي قدّمه في جباع بالتعاون مع اتّحاد الشباب الديموقراطيّ ونادي المرج جباع، عملًا فلكلوريًا كأعماله السابقة القريبة من الأجواء الرحبانيّة، بل كان سياسيًّا هادفًا يتواءم مع الأعمال التي قدّمها الاتّحاد سابقًا بنصوص ساهم في كتابتها كلّ من (الطبيب) فيصل جميل و(المخرج الدكتور) مشهور مصطفى و(المخرج الفنّان) حسام صبّاح.
“كفرجبروت”
حمل العمل اسم “كفرجبروت” من تأليف وإخراج فيصل فرحات. عرضت المسرحيّة لمدّة يومين السبت والأحد في 13 و14 آب من العام 1977 على ملعب المدرسة الرسميّة في جباع. وأدّى الأدوار كلّ من: حيدر بعلبكيّ، حسام صبّاح، جان فارس، عزّت شميساني، فيصل فرحات، بشير شميساني، محمّد صبّاح، محمّد حرشي، هيثم مقلّد، جانيت فارس، محمّد علي صالح، فوزي جزّيني، محمّد غملوش، علي زين، محمّد مكّي، لطيفة جزّيني وسلمى نحلة. ونفّذ أعمال الديكور حسين ياغي وشربل فارس ومحمّد ويوسف حلّاق. أمّا الموسيقى فأدّاها الياس سابا.
منذ ذاك الحين لم يُعِد نادي الشقيف محاولة تكرار زمنه الذهبيّ في أعماله المسرحيّة التي ذاع صيتها وضجّت فيها النبطيّة وقرى وبلدات الجنوب وانتقلت إلى مناطق لبنانيّة عديدة، على الرغم من تبّدل الأحوال الأمنيّة واتّساع مقرّه المؤلّف من مبنى كبير وملاعب مجاورة.
مسرحيات واسكتشات
في العام 1988 قدّم كامل جابر مسرحيّة “خطأ فني” تأليفاً وإخراجاً وأداءً بالتعاون مع الفرقة الفنّيّة لجميّعة بيت الطلبة في النبطية، في 4 عروض متتالية على مسرح دار المعلّمين والمعلّمات في النبطية، ثم قدّم في العام التالي 1989 مسرحيّة “نواطير القمر” في سبعة عروض على مسرح دار المعلّمين. وبرزت في هذه الفترة أعمال مسرحيّة ليوسف شحرور تميل في فحواها نحو تأييد جهة سياسيّة والدعاية لها.
في السنوات الأخيرة، كانت هناك محاولات مسرحيّة لعديد من جمعيّات النبطية، ومنها جمعيّة تقدّم المرأة في النبطية، وللمدارس الرسمية والخاصّة فيها، ولبعض الفرق المسرحيّة الطارئة، لكنّها لم تتعدَّ نطاق الاسكتشات المتواضعة. وتقدّم فرقة الفنون في كشاف التربية الوطنيّة في كفررمان على مدى الأعوام السابقة مجموعة من المسرحيّات المركّبة ذات طابع فلكلوري وتحمل بعض الدلالات السياسيّة والتاريخيّة والشخصيّات الخياليّة، لكنّها أقرب إلى اسكتشات مجتمعة.
وقدّمت “شبكة مجموعات شبابيّة” في النبطية مسرحيّة بعنوان “النصّ التاني” في 2010 تتناول هموم ومشاكل شبابيّة في رحلة البحث عن الذات وبناء الشخصيّة.
لقد استعاضت النبطية عن الإنتاج المسرحيّ باستقدام مسرحيّات “ناجحة” من العاصمة بيروت لرفيق علي أحمد (الجرس)، واحمد الزين (الشهيد ابن البلد)، ومنير كسرواني وحنان الحاج علي (ابنة النبطية) ويحي جابر وعديد من الأعمال الفنّيّة المعروفة.
الجزء الثاني: يوم تألّقت النبطية ورفدت المسرح اللبنانيّ والفنون بالمبدعين (2)