النبي حزقيل في بلاط الجنوبية.. مقام درزي في “ضيافة” الأوقاف الجعفرية!
يا زايرني أهلاً فيك.. بطلب من ربي يحميك
زُور وخلي الشيء نظيف.. ولولا وسخت بجازيك
بالإضافة إلى تلك العبارة التوجيهية، تنتشر داخل مقام النبي حزقيل الواقع على تلة صخرية بين بلدتيْ بلاط ودبيّن في قضاء مرجعيون وخارجه، العديد من الكتابات والشعارات والرموز الدينية المتنوعة والمتعددة، التي يعود بعضها إلى الدروز وبعضها الآخر إلى الشيعة. ونتيجة ذلك، فإن المقام يستحق أن يُقال عنه عابر للطوائف والمذاهب والمناطق، إذ يخترقها جغرافيًا ودينيًا. فهو النبي الذي يُؤمن به الدروز إيمانًا شديدًا، وفي الوقت نفسه مبني على أرض هي ملك لدائرة الأوقاف الجعفرية في بلدة بلاط.
روايتان متضاربتان تتنازعان السردية التاريخية لواقعة بناء مقام النبي حزقيل الذي لُف بالعلم الدرزي، وتنتشر داخل حرمه معلومات عنه عائدة للإمامين الإثني عشريين الباقر والصادق. المقام الذي لا يبعُد عن حاصبيا سوى 14 كلم، تتولى المسؤولية عن خدمته منذ العام 1966، دائرة الوقف الدرزي هناك.
عند مدخل الغرفة المفضيَة إلى الضريح كتابات ولوحات تعريفيّة بصاحب المقام، وإرشادات للزائرين لجهة المحافظة على آداب الزيارة وعلى حرمة المكان ونظافته. تتآلف داخل غرف المقام رموز للطائفتين الشيعية والدرزية، فمن جهة تنتشر اللوحات التي تحتوي آيات قرآنية ومرويات وأحاديث تعود إلى أئمة أهل البيت عن النبي حزقيل، ومن جهة أخرى يلفّ الضريح العلم الدرزي وتنتشر نجمة الموحدين في أكثر من جهة داخل المقام، إضافة إلى كتابات أخرى.
المقام قديمًا كان عبارة عن غرفة يتوسطها الضريح نُحت عليه “قبر النبي حزقيل”، وهو حزقيل بن أحاز بن عزبا بن أوصيا، إسمه حزق- إيل، ومعناه “الله يقوّي” وكان مشهورًا في بنى إسرائيل باسم “ابن العجوز” وقد أنجبته أمه في سنٍّ متأخّرة. كما تقول المرويات إنّه المقصود في سورة البقرة في الآية 243:”ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ”، وتُنقل رواية عن الإمام الصادق مفادها أن الله أحيا الموتى بدعاء حزقيل.
جدل وتضارب في الروايات
قد يكون مقام النبي حزقيل من الأماكن الدينية القليلة في لبنان التي تشهد هذا الجدل، حول هوية النبي ومقامه، حيث تتضارب الروايات بشأن ذلك. يقول الشيخ حسين بندر لـ “مناطق نت” عن مقام النبي حزقيل: “إنه مقام مقدس يُنسب إلى النبي حزقيل، نقيم فيه شعائر الدين من الصلاة والدعاء والزيارة لمحمد وآل محمد، ويأتون إليه لكسب الأجر والثواب، ويُستحب زيارة مقامات الأنبياء جميعًا”. ويضيف بندر “إنّ المقام وقف للطائفة الجعفريّة، وسُمح للدروز بممارسة شعائرهم داخله”. وبشأن حقيقة وجود رفاة النبي حزقيل من عدمها يُشير إلى أن ذلك من علم الغيب ولا يوجد دليل قاطع في هذا المجال.
الشيخ حسين بندر: المقام يتبع للأوقاف الجعفريّة، وسُمح للدروز بممارسة شعائرهم داخله”. وبشأن حقيقة وجود رفاة النبي حزقيل من عدمها يُشير إلى أن ذلك من علم الغيب ولا يوجد دليل قاطع في هذا المجال.
من جهة أخرى يقول المؤرّخ والكاتب الشيخ غالب سليقا لـ “مناطق نت” إنّ النبي حزقيل هو من الأنبياء المكرمين، صاحب السفر الثالث من أسفار التوراة الأربع. وصاحب النبوءات عن مجيء يأجوج ومأجوج والأدلة التي ترمز إلى قيام الساعة. في عهد ظهر فيه الكثير من الأنبياء والحكماء ومنهم دانيال الحكيم، وهو الأقدم بين كل الطوائف والملل والعهود ويُزار من قبلهم جميعًا. يعود إلى مطلع العهد الموسوي الذي استمر إلى 1700 عام. وهو من السبايا الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل، في جملة من سُبيَ من بني إسرائيل.
ويضيف سليقا:“بعد عودته من السبي إلى أرض كنعان (والمقصود بها بلاد الشام) تنبّى في بني إسرائيل لأكثر من عشرين عامًا يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر فأجاب بعضهم وصدّ عنه أكثرهم، وبقيوا على ذلك بعد عودتهم إلى بلادهم، وعندما ألح عليهم وبالغ في النصح ردوا كلمته وجاهروا بما خالفوه ثم لاحقوه وقتلوه”. ويقال أنه لربما قُتل هنا. وبحسب كلام المؤرخ سليقا فإنّ الرّفاة الموجودة في المقام هي الرفاة الحقيقية للنبي حزقيل على عكس ما صرّح به الشيخ بندر.
تاريخ بناء المقام
حول تاريخ بناء المقام وملكيته يقول الشيخ سليقا إنه يعود إلى ما قبل 300 عام، وكان عبارة عن غرفة صغيرة يتوسطها الضريح، نحت عليه جملة “قبر النبي حزقيل”، وعن تاريخ بدء تحويل القبر إلى مقام، يقول الشيخ سليقا إنه في العام 1830 تقريبًا قامت الدولة العثمانية بتلزيم بناء جميع المقامات الواقعة ضمن الإمبراطورية آنذاك.
ويضيف أن قبة المقام بناها شخص من آل حسيكي من بلدة بيصور، ويُروى أن ما كان يبنيه في النهار كان يُهدم في الليل. كانت بلدة بلاط صغيرة حينما قصد الرجل شيخ البلد في دبين سائلًا الموافقة لبناء المقام، فاستضافوه ليلة كاملة، وبشهادة الشيخ سليقا، قامت رياح عاتية تلك الليلة ورمت بالأحجار التي رُصت لبناء المقام. وهنا شعر أنّ في الأمر إشارة ربّانية، فعاد ليخبر شيخ البلدة بما حصل فأرشده إلى مشايخ البياضة.
الشيخ سليقا: قبة المقام بناها شخص من آل حسيكي من بلدة بيصور، تزوج ابنة الذين كان يسكن عندهم في بلاط، وتحوّل إلى المذهب الشيعي، ومن نسله الدكتور سليمان حسيكي، الذي يواظب على زيارة أقاربه في بلدة بيصور إلى اليوم.
وقد ساعده في كشف السّر شيخ وفيلسوف يُدعى “حمد بدوي”، مشيرًا إلى أنّ المال الّذي كان يأخذه الرجل لبناء المقام هو من الدولة العليّة وهو مال حرام لأنّ الدولة التركية حينها كانت تأخذ الأموال عنوة من الشعب، “فهل تبني بمال حرام في مكان مقدّس؟” قال له. وطلب منه إتمام إعمار المقام لوجه الله تعالى من دون راتب. وهكذا بنى المقام بجهده، وصار المقام ملك المذهب الشيعي، حيث تزوج الرجل ابنة الذين كان يسكن عندهم وتحوّل إلى المذهب الشيعي، ومن نسله الدكتور سليمان حسيكي، الذي يواظب على زيارة أقاربه في بلدة بيصور إلى اليوم.
آل الغول وحكايتهم مع المقام
يجاور مقام النبي حزقيل مدافن خاصة بأبناء بلدة بلاط الشيعية، ومن بينها ضريح الشيخ “علي الغول” (الذي بنى المقام حسب رواية أخرى) وولده الشيخ محمود. في هذا الإطار يقول عبد العزيز الغول وهو أحد أحفاد الشيخ الغول، أنّ ملكيّة أرض المقام تعود إلى آل الغول، جدّه لأبيه محمد جواد الغول. ويقول أن جده رأى في المنام النبي حزقيل وعرّفه عن نفسه وأخبره أنه من أنبياء بني إسرائيل، وطلب إليه أن يبني له مقامًا في قطعة الأرض التي تخصه، وحدّد له المكان.
ويذكر عبد العزيز الغول أنه لم يكن هناك أيّة دليل عن وجود ضريح أو قبر للنبي المذكور. ثم يضيف:”لم يكن لدى الشيخ الغول إمكانيات ماديّة لبناء المقام فحدّث عن رؤياه أمام الناس قاصدًا المساعدة، حتى أتته الرؤيا مرة ثانية، فقصد المشايخ الحاكمين في البلاد حينها وطلب منهم المساعدة فأتته الموافقة، وقدموا له أموالًا لبناء المقام”.
تكرّرت الوقائع في رواية عبد العزيز الغول وفي ما ذكره الشيخ سليقا مؤكّدين أن ما كان يُبنى في النهار يتهدّم في الليل، حتى عاد الشيخ الغول ورأى النّبي في المنام وذكّره بأن عليه بناء المقام من ماله الخاص، فقام الشيخ الغول ببيع قطعة أرض يملكها وبنى المقام بما توفر له.
كان المقام في البداية عبارة عن غرفتين، غرفة تحوي الضريح، وغرفة ثانية لراحة الزائرين، ويُقال أن شجرة الملول في باحة المقام زرعها جد الشيخ محمد جواد الغول، وصار المقام مقصدًا للزائرين.
مفتاح المقام في عهدة مشايخ البياضة
كان الدروز يقصدون المقام أكثر من الشيعة وخاصة أيام الجمعة والسبت والأحد، فيمرون ببيت الشيخ الغول لأخذ المفاتيح، وبعد وفاة الشيخ محمد جواد الغول تسلّم المقام نجله علي ثم انتقلت إلى الشيخ محمود علي الغول والد عبدالعزيز، ومع انتقال العائلة إلى بيروت للعمل صار أمر الحصول على المفتاح متعثرًا، فقصد مشايخ البياضة الشيخ محمود الغول وكان على فراش المرض، وطلبوا منه إعطاءهم المفتاح، وهكذا انتقل مفتاح المقام إلى الدروز.
حول ذلك يقول الشيخ سليقا إن المقام يُعدّ وقفًا إسلاميًا لكل الناس ويشير إلى أن كل من نطق بالشهادتين فهو مسلم، ولكن أهل بلدة بلاط حولوه للوقف الجعفري.
قصد مشايخ البياضة الشيخ محمود الغول وكان على فراش المرض، وطلبوا منه إعطاءهم المفتاح، وهكذا انتقل مفتاح المقام إلى الدروز.
وتقول الدكتوره رباب دبس في أطروحتها الماجستير “في النذر وطقوسه.. أولياء وقديسون عابرون للطوائف” أن الأوقاف الدرزية تسلّمت مسؤولية الإشراف على خدمة المقام في العام 1966. عملت إدارة المقام بشخص الشيخ سليمان الديب حينها على تحسين بناه التحتية وتم تجهيزه بقاعات ومقاعد حجرية ومطابخ واسعة للعائلات الذين يقيمون الذبيحة ويحضرون الطعام. تتوسط باحة المقام شجرتيْ ملول معمّرتان، يقال أنها تعود إلى زمن النبي. ويُعيّن على المقام حارسًا من قبل المشرف على أوقاف البياضة، توكل إليه مسؤولية الحفاظ على خدمته، كما يعيش لوحده هناك من دون عائلته.
يقوم “زكي عبد الحي” بخدمة المقام حاليًا وهو شيخٌ ستيني يرتدي الزي الدرزي المعروف، ويُشرف على خدمة المقام منذ ثلاثة عشر عامًا، يقوم بحراسة المقام وخدمته ليلًا نهارا ويستقبل الزوار ويرشدهم ويساعدهم.
الطقوس والشعائر
لزيارة المقام آداب وطقوس يقوم بها كلّ زائر. في بداية الزيارة يقرأون سورة الحمد في حضرة الضريح ثم يقبّلون المقام ويتبرّعون له بالمال.
يذكر الشيخ سليقا أنّ شهر أيلول هو شهر وفاء النذور، بعدما ينتهي المزارعون من جني الحصاد وذبح الخواريف وتأمين المؤونة للبيت من الدبس والزبيب والزيتون والقاورما، يتهافت الناس لإيفاء النذور التي نذروها طوال العام، فتأتي عائلة المنذور وأقاربه إما راكبين على الخيل وإمّا سيرًا على الأقدام ويأخذون معهم حاجياتهم من الأغطية والأضحيات التي يطعمون منها زوّار المقام حتى اليوم الثاني.
وبحسب الشيخ سليقا في عيد الأضحى (وهو من الأعياد المقدسة لدى الطائفة الدرزية وأقدس أيام السنة)، يضيؤون الشموع، ويذبحون الضحايا التي يطعمون منها كل الحاضرين في المقام، وأثناء الزيارة يقومون بأداء الواجبات الدينية كقراءة القرآن الكريم والأدعية، وعند غروب الشمس يركب المنذور على فرس ويدورون به حول المقام وهم يحدون:
جينا نزورك يا حزقيل بين بلاط وبين دبين (وهي لازمة أساسية في كل ردّة)
يا رب تحفظ روبين (اسم المنذور) والأحبة المندورين ع طول المدى والسنين. وتُصفق الصبايا خلفه وهن يرددن الأُحدية، ويضيف الصحافي فؤاد رمضان إبن بلدة بلاط متذكرًا أنّ أقاربه كانوا يرددون:
جينا نزورك يا حزقيل بين بلاط وبين دبين
لمن وصلنا ع دارك فحّت ريحة بخورك
حلقات دبكة وغناء
وكانت تُقام حلقات الدبكة والغناء والرقص وضرب الدف والدربكة، وهي عادات لم يكن الناس يتفكرون بها من جهة الحرمة الدينية للمقام. ويذكر المؤرخ سليقا أنه حتى المشايخ كانوا يمسكون بأيدي بعضهم البعض، وهم ثمانية رجال يقفون متقابلين مردّدين بعض الردات المشهورة في حينها. أمّا اليوم فقد أُلغيت هذه العادات ولم تعد موجودة بذات الزخم.
تقول إحدى الزائرات أنّها وعائلتها يأتون إلى المقام في المناسبات والأعياد، وتذكر أنه عند ولادة ابنها ميتًا بحسب تعبيرها نذرته للنبي حزقيل: “دخلك يا ربي هيدا التاني وإذا كان إلي نصيب فيه، بدي أخده عالنبي حزقيل يشفقلي عليه ..” وتقول أنّ طفلها اليوم على قيد الحياة.
على الرغم من كلّ الخلافات والتّضارب بين السرديّات يبقى المقام مساحةً للصفاء والروحانية تتسع للتفكّر والتنزّه ولنفوس لا تأبه للاختلافات المذهبيّة. وهو عمليًّا لا يخضع لملكية أحد، زوّاره كُثر ومن جميع المذاهب، يتهافتون عليه من خارج لبنان ومن جميع الدول العربية وحتى الأجنبية، ولا قيود تمنع أحد من ممارسة شعائره وعبادته في حضرة النبي حزقيل ما دام يراعي فيها الآداب العامة ويحفظ قدسية المكان.