النساء في الأغنية العربيّة ما بين التذلّل والتمرّد وأنانيّة الرجال

“لو حتّى تأمرني أطاوعك مش هقول إزّاي وليه”، قد تمرّ هذه الكلمات من أغنية “يا سيدي” للفنّانة وردة الجزائريّة مرور الكرام في التسعينيّات، بكلّ ما تحمله من تذلّلٍ وخضوع وتسليم للرجل. إذ تُمعن وردة في استرضاء المحبوب: “دا أنا كلّ أملي في الهوى أملك رضاك، وكلّ أملي في الحياة أكون معاك”.
لم تُحاكم تلك الأغنية في ذاك الزمن على هذا الأساس، وبحسب المعايير السائدة اليوم، ولكن في المقابل، كيف نقرأ أغنية “حبّك هادي” للفنّانة لطيفة في الفترة الزمنية نفسها تقريبًا؟ إذ قالت: “حبّك هادي، وأنا ملّيت الحبّ العادي، عايزة أكبر من كده قلب، عايزة أكتر من كده قرب، عايزة حبّ يهزّ فؤادي”، وفي أغنية “بحبّ في غرامك” تقول: “بحبّ في غرامك ألاقي كلامك محدّد قصادي، كلام مش بيحوّد يا أبيض يا إسود لكن مش رمادي” تواجه لطيفة بالأغنيتين الرجل، مطالبةً إيّاه بشكل الحبّ الذي تريده لا طالبةً الرضى، بعكس الأغنية المكتوبة للسيّد.
ليست الفكرة بوردة أو لطيفة نفسهما، بل بحضور النساء والعلاقات العاطفيّة في الأغنية العربيّة وتغيّر هذا الخطاب على امتداد آخر 30 سنة؛ إذًا كيف تغنّي النساء حول علاقاتها بالرجال؟ وكيف يغنّي الرجل العربيّ عن نفسه كمحورٍ لحياة النساء؟
الأغنية وعلاقة السيّد بالعبدة المُتذلّلة
تنوّع حضور النساء في الأغنية العربيّة بين التذلّل ومحاولة إرضاء الرجل من جهة والتمرّد والمواجهة من جهة أخرى.
ففي أغانٍ مثل “سيدي وصالك” تقول أنغام: “سيدي وصالك/ زاد عليّا حنيني/ زادني دلالك/عشق وأنت ناسيني”، التذلّل وحده كوصف لا يكفي هذه العبارات من الأغنية، بل يتعدّاها إلى الدونيّة نحو الرجل، حدّ وصفه بالسيّد، في ترسيخٍ لمعادلةٍ واضحة: السيّد المُتحكّم والعبدة المتذلّلة التي تنشد وصال سيّدها بينما هو لا يكترث لها. وتُتابع أنغام حفلة التذلّل ناشدةً الرأفة؛ “إمتى يا سيدي تحسّ بيّا، ترؤف بحالي”، وتعرض قلبها للبيع قائلةً: “قلبك لغيري ولّا أنت شاري؟”.
يرافق خطاب المرأة في الأغنية العربيّة رحلة العبوديّة المُرمسَنة، إذ تؤكّد وردة الجزائريّة ذلك في أغنيتها “يا سيدي أنا ملك إيديك”
يواصل الرجل تربّعه على عرش السيادة ويرافقه خطاب المرأة في الأغنية العربيّة رحلة العبوديّة المُرمسَنة هذه، إذ تؤكّد وردة الجزائريّة ذلك في أغنيتها “يا سيدي أنا ملك إيديك” معطيةً للرجل السيادة الكاملة لا بل حقّ الملكيّة لنفسها مُكرّسةً ديناميّة السيّد والعبدة مُجدّدًا. وتتابع: “تحرمني ليه من الحنان رجّعلي يوم رقّة زمان”، “دا انت الأمل إنت، وإنت الأمان إنت/ والقسوة دي مش لايقة عليك يا سيّدي!”، هو مَن يحرمها ويُعطيها ويتكرّم عليها بالحنان، وبيده سلطة القرار، سلطة السيّد. “دا انت بقيت بالنسبة ليّا كلّ شيء/ إنت القريب وانت الحبيب وانت الصديق”، لا بل إنّه وبكلّ بساطة، كلّ شيء بالنسبة للمرأة، محور الكون وكلّ اهتماماتها.
أغنية تحيل المرأة إحدى ممتلكات الرجل
استمرّ هذا الخطاب حتّى الألفينيّة الثانية، لا بلّ تطوّر ليأخذ التذلّل فيه أشكالًا أكثر تعقيدًا، فمَن لا تذكر أغنية “ع بالي حبيبي” لإليسّا؟ الأغنية التي شُغّلَت في مُعظم حفلات الزفاف في تلك الفترة. تقول إليسّا: “ليلة الإلبسلك الأبيض/ وصير ملكك والدني تشهد/ وجيب منك إنت/ طفلك إنت/ مثلك إنت”، مؤكّدةً ملكيّة الرجل للمرأة وجسدها وكينونتها بعد الزواج، غير أنّها تعدّت ذلك إلى نسب الطفل الذي سيولد، للرجل وحده، بالملكيّة والتشابه، نافيةً بكلامها أنّ هذا المولود مولودٌ من رحمها وجسدها وسيتشاركان تربيته وعمليّة تكوينه، بل إنّ معظم المهام المتعلّقة بالرعاية والاهتمام بالأطفال موكلةٌ اجتماعيًّا إلى الأمّ.
وتابعت إليسا: “عبالي تكمّلني/ واسمك تحمّلني/ بقلبك تخبّيني/ من الدني تحميني/ وتمحي من سنيني/ كلّ لحظة عشتها بلاك”، “وعبالي تجرحني/ لحتّى تصالحني”، مُستَغربٌ أن تحمل أغنية واحدة، كلّ هذه الأفكار الذكوريّة، من التملّك، مرورًا بصورة الرجل الحامي، وصولًا إلى التطبيع مع العلاقات السامّة. كما إنّ الرجل يُحمّل المرأة هنا اسمه وبذلك تكريمٌ لها ورفعٌ لمكانتها بعد الزواج، إذ إنّ كلّ لحظةٍ عاشتها من دونه، لا تعني شيئًا وتريد محوها، بعبارةٍ أخرى، تريد محو نفسها من أجله، وبناء أُخرى، تحمل اسمه، ويمتلكها، تُنجب له طفله حاملَ اسم وليّ العهد المرتقب.
فيروز تقلب الطاولة على الرجال
بالمقابل، تُبهرنا فيروز بقلب الطاولة لا مُتمرّدةً على مرض التذلّل المُستشري فقط، إنمّا بكونها غير خاضعة، وهذا واضحٌ بلامبالاتها المُفرطة والصادمة، مَن تتجرّأ على قول “بتمرُق عَلَيّْ إمرُق .. ما بتمرُق ما تمرُق/ مُش فارقة مْعَايْ”، لمحور الكون والأغنية؟ وتتابع فيروز تكسير تعجرف السيّد المُتعالي في أغنيتها “مش قصّة هاي” قائلةً: “حبّك أناني بالتأكيدْ/ ومفكّر إنّك إنتَ وحيدْ .. وعنيد/ على شو مَسنود .. على شي مش مَوجود/ عم تغلط وتزوّد عَلَيّْ”.
توجّه إليه أصابع الاتّهام بالخطأ، فهو ليس مُنزّهًا عن الخطأ، لا تسترضي غروره، بل تُسائله: من أين لك بكلّ هذا الغرور؟ وتكسر خرافة كونه وحده- الرجل- محور الكون والاهتمام، أمّا هذه العبارة “مُش إنتَ مَسَايْ .. ومُش قصّة هاي”، بكلّ بساطتها ولامبالاتها، تؤكّد أنّ الرجل ليس محور اهتمامات فيروز ولا يُشكّلها. علاوةً على ذلك، تُحدّد له هنا؛ “لكن بتروحْ .. بِتِرِمْ مش مسموحْ/ وأعذارك ما بتنفع مَعَايْ” ما هو مسموح أو ممنوع ولا تأخذ أعذاره بأيّ اعتبار.
تُبهرنا فيروز بقلب الطاولة لا مُتمرّدةً على مرض التذلّل المُستشري فقط، إنمّا بكونها غير خاضعة، وهذا واضحٌ بلامبالاتها المُفرطة والصادمة، مَن تتجرّأ على قول “بتمرُق عَلَيّْ إمرُق .. ما بتمرُق ما تمرُق
ترفع فيروز سقفها وتُصعّد خطابها في أغنية “ضاق خلقي يا صبي”، فمِن اللامبالاة إلى التعبير عن الامتعاض؛ “ضاق خلقي يا صبي/ من هالجوّ العصبي”، وتواجهه بسوء استيعابه منتقدةً تحكّمه بها؛ “يا صبي الـ ما بتفهم من نظرة ولا بحتّى حكي/ مانِعْني إفْعَل أو إئتي أيّا حركة/ بتحكي وبتصير ما بتسمع/ وإذا جاوبتك مرّة بتفقع/ مطوّقني بحبّك ومسيّج من حولي الدنيا وعَ جَنَبي”، فالتملّك الذي كانت تتغنّى به وتنشده المغنّيات من الرجل في النماذج السابقة، هنا تنتقده فيروز بصرامة. كذلك تستخفّ به بقولها “يا صبي… مين قلّك تستسهل تكذب دايماً ع مرا”.
الرجال تحت تهديد النساء
بدورها، تنتزع لطيفة حقّ النساء بالمساءلة في أغانٍ مثل “بحبّ في غرامك” و”حبّك هادي” فتقول: “كده كده ح تراضيني وتكسب ودادي لكن بالملاوعة، ح تخسر فؤادي”، مهدّدةً بالرحيل، وفارضةً الحدود التي تريدها بالعلاقة العاطفيّة؛ “بحبّ في غرامك ألاقي كلامك صريح حبّتين، عشان يا حبيبي مشكّش في كلمة لها معنيين، بحبّ في غرامك ألاقي كلامك شديد الوضوح”، ومُعبّرةً عن مللها من حبّه؛ “أنا ملّيت الحبّ العادي”.
تسلك نجوى كرم طريق التمرّد نفسه وتملي طلباتها على الرجل في أغنيتها “ما بسمحلك” وتتحدّى غروره مُهدّدةً بمحوه: “ما بسمحلك ما بسمحلك/ مهما يكون قلبي بيرتاحلك/ ما تجرّب تطلع بالعالي/ بشيلك من فكري ومن بالي”، كذلك تُحذّره من تعدّي حدوده معها؛ “لا تطلع بالعالي بتندم/ لاتسافر لبعيد/ رح ترجع تبكى وتتندّم/ وبصوتك تنهيد”، مواجهةً إيّاه بالرفض لا طالبةً عطفه بل رابطةذ إنهاء هذه العلاقة براحتها “مهما تقلّي فيك بحلم/ دق بوابي ما بفتحلك/ إذا ما بتفهم على موّالي/ تركني أريحلي وأريحلك”.
العجرفة وحدها لا تكفي الرجال، إذ يتفوّقون على ذواتهم أحيانًا في التبجّح بسلطة التحكّم بمصير النساء، وهذا ما ارتأى إليه محمّد اسكندر في أغنيته الشهيرة “جمهوريّة قلبي”
الرجل العربيّ عندما يُغني للنساء
على المقلب الآخر، توجّه المغنّون الرجال إلى النساء بأغنياتهم بالطريقة التي تحلو لهم، من دون مساءلة أو استغراب جماهيري، ومن هنا يتكهّنون بشعور النساء، بل يكون المغنّي موقنًا بشعورهنّ، مثلما يريده هو، وهذا ما يؤكّده عمرو دياب في أغنيته “هي عاملة إيه دلوقت؟” إذ يقول: “وهي عاملة إيه دلوقت؟/ ظالمها وقلبي جارحها أجيلها ولّا مش دلوقت؟”، “أكيد ساكتة ولا بتحكي ولا بتشكي ولا بتبكي/ عارفها تبقى مجروحة ومظلومة ولا تبيّن”، ويُكمل سلسلة تنبّؤاته لمشاعر المرأة كما يُريدها مُلتمسًا لها عُذر نسيانه، هو الذي لا يُنسى، والذي ما زال مُتردّدًا في العودة إليها؛ “أكيد مشاعرها مكسورة ولو نسيتني معذورة”، كما يعترف بجرحها ويُطمّنها، بماذا يُطمّنها؟ بأنّها أخذت فرصةً ذهبيّة ليجرحها؟ “أنا اللّي جرحت أحساسها قوللها اطّمني ارتاحي”، ويستطرد مُرتديًا دور الضحيّة والمجروح بينما هو الجارح “وليه تقولّلها لو هيّا أكيد بتحسّ بجراحي”. يُمكن لهذه الأغنية أن تُدرَّس في مدارس التلاعب العاطفيّ إن وُجد هذا النوع من المدارس يومًا.
عجرفةٌ وفوقها تبجّح
العجرفة وحدها لا تكفي الرجال، إذ يتفوّقون على ذواتهم أحيانًا في التبجّح بسلطة التحكّم بمصير النساء، وهذا ما ارتأى إليه محمّد اسكندر في أغنيته الشهيرة “جمهوريّة قلبي” مُعلنًا؛ “نحنا ما عنّا بنات/ تتوظّف بشهادتها/ عنّا البنت بتدلّل/ كلّ شي بيجي لخدمتها”. إنّه الرجل العربيّ، محور عالم النساء وشغلهنّ الشاغل؛ “شغلك قلبي وعاطفتي وحناني/ مش رح تفضي لَأيّ شي تاني/ بيكفّي إنّك رئيسة جمهوريّة قلبي”، يكفيها أن تتربّع على عرش قلبه! ويُتابع خطاب الفرض والسيطرة الواضحين؛ “شيلي الفكرة من بالك أحلالك/ ليش بتجيبي المشاكل لحالك”،.
كذلك افترض أنّ المرأة تحتاج إلى موافقة مُسبقة منه كي تعمل؛ “تَ نفرض بقبل تشتغلي/ شو منعمل بجمالك؟”، ويستخفّ ساخرًا؛”حقوق المرأة ع عيني و عَ راسي/ بس يا ريتك بتراعي إحساسي”، “وجودك حدّي بيقوّيني/ وهيدا شي أساسي”، أُراهن أنّه يمكننا وضع هذه العبارة تعريفًا للعجرفة الذكوريّة الوقحة في القواميس!
لاقت هذه الأغنية انتقاداتٍ واسعة في الأوساط الصحافيّة والحقوقيّة، لكنّها انتشرت كانتشار الطفيليّات في البيئات الرطبة: المجتمع الذكوري الذي يرعى ويتبنّى هذه الأفكار الرجعيّة، فوُضعت كنغمةٍ للهاتف، وشُغِّلَت في سيّارات الأجرة، والأماكن العامّة، والمقاهي، وحفلات الزفاف. بيد أنّ الأغاني الذكوريّة التي أتت قبلها وبعدها، مرّت غالبًا مرور الكرام.
الرجل محور الكون بالأغنية العربيّة
مَن يُمكن لك أن تكون لتملك جرأة القول: “يانا يا مفيش”؟ ربّما تُجيبون: “طبعًا، تامر حسني”، لكن لا، تامر حسني، وإلى جانبه أيّ رجلٍ عربيّ يعتقد أنّ الكون يدور حوله، أيّ معظم الرجال العرب. عُدّوا معي كم “أنا” توجد في هذه الأغنية؛ “يا أنا يا مفيش أصل ما عنديش في الحبّ هزار/ يا أنا يا بلاش وما تحسبهاش، ما فيهاش أعذار/ أنا اللي أقول فين وإمتى وأنا اللي أختار”.
أعتقد أنّ هذا الكمّ من “الأنا” المُتضخّمة بحاجةٍ مُلحّة إلى تدخّلٍ طبّيّ جراحيّ لاستئصالها وإلّا ستنشر سرطان الذكورة السامّة في كلّ مكان! “لو حدّ نداك إعمل مش سامع برضاك/ أنا قولت كلامي وده نظامي ومش باقي كلام”. هل نحنُ في ثكنةٍ عسكريّة تُطبَّق قوانينها على النساء فقط؟ “أنا مش مضمون، أنا ممكن أعمل مجنون/ لو شوفتك مع غيري يا ويلك مش هبقى تمام” تهديدٌ ووعيد؟ أهذه حقًّا أغنية أمّ استعراض عضلاتٍ كلاميّ وتهديد بالعنف المُبطّن بالغيرة؟ “أنا جيت خلاص، راحت خلاص أيّام زمان/ ولا في كلام ولا حتّى سلام غير بإستئذان/ لا تقولي عِشرة ولا قريبي، هتلاقي جنان”. احذرن عزيزاتي النساء العربيّات، لا يمكنكنّ التنفّس من غير استئذان صاحب الأنا المتضخّمة!
إنّ طرح هذا الموضوع ليس من باب تأويل الأغاني، إنّما من كون الأغاني جزءًا من الثقافة العامّة التي تؤثّر في المجتمعات وتنقل صورةً عن حالها في بعض الأحيان. إذ تكرّس الأغاني أمورًا مثل التذلّل والخضوع للرجل وتُخلي الساحة للرجال، لإبداء رأيهم بالنساء بل وإملاؤه عليهنّ، وبخاصةً في الحديث عن ديناميّات قوى غير متكافئة حتّى مع فئات تمتلك امتيازات اجتماعيّة وطبقيّة كالفنّانات والفنّانين، لذا نخرج بهذا النموذج الذي استعرضناه: نساء ينشدن رضى الرجال في تكريسٍ لصورة السيّد والعبدة، ورجالٌ يُخاطبون النساء من على عروشهم المتعالية فارضين سلطتهم، ونساءٌ أُخريات، يرفضن ويكسرن أصنام السلطة مُنكّراتٍ لهذا العرش المُصطنع.



