“النسويّة التقاطعيّة” جدال وانقسام ومقاطعة!

“نسويّات الممانعة”، “نسويّات المِحور”، وغيرها من المصطلحات التي خرجت من قبل نسويّات في الوسط النسويّ لتتّهم نسويّات أخريات بأنّهنّ “يبايعن تنظيمًا دينيًّا مسلّحًا، ويتغزّلن برموزه الذكوريّة..” وهنا الحديث عن “حزب الله” اللبنانيّ و”حماس” في فلسطين.
وثّق مقال الكاتبة غنى العنداري، تحت عنوان “نسويّات الممانعة: عجب العُجاب”، نُشر في موقع “درج”، أنّ تشابه مواقف نساء مع مواقف بعض الجماعات التي ترفع شعار المقاومة لا يشفع لهنّ الدفاع وتلميع صورة هذه الجماعات -كما أشارت العنداري-، وصولًا حتّى اتّهامهنّ بالخيانة: “هذا الموقف يتعدّى الازدواجيّة ليصبح خيانة لنساء يضطهدهن هذه الجماعات ومن يموّلها ويسلّحها، وتنكّر لقضايا النساء”، مضيفةً: “لا يمكن أن نكون ساعة نسويّات، وخادمات للمنظومة الأبويّة في الساعة التي تليها”.
أفرزت الحرب الإسرائيليّة على لبنان منذ تاريخ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وتوسّعها في لبنان في أيلول (سبتمبر) 2024، وصولًا إلى الهدنة وما بعد الهدنة، انقسامًا حادًّا في الوسط النسويّ، إذ اعتبر قسم منهنّ أنّ عمل المقاومة هو مماهاة مع مبادئ النسويّة المناهضة لكلّ أشكال الاستعمار، مع التحفّظ على أنّ موقفهنّ الداعم لسياسة الحزب المقاوِمة للعدوّ، لا تتنافى مع نقدهنّ لكثير من سياساته التي لم تكُن لتتوافق أحيانًا كثيرة مع بعض القوانين التي تحمي النساء. ورأين أنّ موقفهنّ التقاطعيّ تفرضه طبيعة الظروف الحاليّة، في المقابل رأت الفئة المقابلة من النسويّات أنّ هذه المُماهاة باطلة ولا تصحّ، ولا تتقاطع مع مفاهيم النسويّة وما تمثّله هذه الأحزاب من أداة قامعة للنساء.
أفرزت الحرب الإسرائيليّة على لبنان انقسامًا حادًّا في الوسط النسويّ، إذ اعتبر قسم منهنّ أنّ عمل المقاومة هو مماهاة مع مبادئ النسويّة المناهضة لكلّ أشكال الاستعمار
حرب تصنيفات
تواجه النسويّات اليوم تصنيفات آتية من الجذر، بعد تماهي عدد منهنَّ مع “مشروعيّة المقاومة”، وبالتالي مناصرة رموزها بغض النظر عن خلفيّاتهم العقائديّة التي هي محطّ جدال. وقد أفرزت الحرب اختلافات كبيرة في وجهات النظر.
وترى الصحافيّة والناشطة النسويّة مريم ياغي، أنّ الاختلاف والتنوّع في وجهات النظر مؤشّران إيجابيّان، وعاملًان يدعوان للانفتاح والتفكّر والمناقشة، وفرصة بالإمكان استثمارها في إعادة النظر بكثير من المعايير وفي طريقة تعاطينا مع القضايا؛ وتُشير إلى أنّ ما هو غير طبيعيّ، استخدام مصطلحات التخوين اتّجاه الرأي المُخالف، ووضع معايير ثابتة توصم من يخالفها، وتُسقط صفة النسويّة عنه.
وتتابع في حديث لـ “مناطق نت”: “يبقى الاختلاف في مكانه الآمن متى لا يتعارض مع الجوهر الأساس للمدرسة النسويّة، وطالما نحن لم نتجاوز الهدف السامي والأساسيّ من النسويّة، وهو مناهضة أيّ شكل من أشكال الظلم والاضطهاد، ومناهضة الاستعمار ورفض الوصاية التي يمكن أن تُفرض من قبل أيّ منظومة لديها مصادر القوّة والسيطرة كي تفرض علينا معايير ومبادئ معيّنة، وهذا لا ينطبق على الأبويّة فقط”.
وبالتالي ترفض ياغي كلّ أشكال التُهم والتصنيفات التي تريد أن تفرض عليها وكيف يمكن أن تُترجم نسويّتها، مؤكدةً انتماءها إلى المدرسة النسويّة ولا تقبل أن يُسقط أحد اللقب عنها، أو ينتقِص من انتمائها لمبادئ المدرسة النسويّة، لكونها ترفض الانصياع وراء التسميات والمعايير التي ترى فيها شيطنة لفئة تبنّت خطًّ المقاومة والنضال.
من ناحيتها تؤكّد الناشطة النسويّة ورئيسة جمعيّة “نون التضامن النسويّة” فرح أبي مرشد أنّها لا تستحسن الانخراط في أيّ نوع من التصنيفات أو الاتّهامات، وترى أنّها ممارسات ليست بجديدة، ولكنّها تظلّ مؤسفة ومؤلمة. وهي مُضرّة بالنضال النسويّ وعلاقة الحركات والناشطات النسويّات بالمجتمع، وتشوّه المفاهيم الأساسيّة، وتُبعد المهتمّين بالقضيّة عن جوهرها. كذلك فإنها تضرّ بالعلاقات بين مكوّنات الحراك النسويّ وعلاقات النسويّات بعضهن ببعض.
وتُشير لـ “مناطق نت” إلى “أنّ هذه النقاشات غالبًا ما تجري في مساحات غير مُنتِجة للحوار والتفاهم”. وعن نفسها تقول إنّها تحرص على مراجعة دورها بصدق في ما إذا “كنت قد ساهمت في إثارة هذه النقاشات في أماكن غير مناسبة”.
نسويّة تقاطعيّة
في مقال “سلاح ومقاومة وورود جدليّة نصرالله والنسويّة” (26 شباط/ فبراير 2025) نُشر في موقع “شريكة ولكن” تقول الكاتبة نادية أحمد، عن تشييع السيد حسن نصرالله: “وسط أجواء الحزن التي خيّمت على التشييع لم يكن بوسعي إلّا أن أستشعر هذا الفقد..”. ثمّ تتساءل ساخرة: “ألا يُفترض بي كنسويّة أن أفرح لزوال رجل دين، بما يمثّله من سلطة أبويّة؟”.
ينطلق المقال ممّا أسمته صاحبته خدعة أنّ النسويّة لا تدعم خيار المقاومة. وتفنّد ذلك في عدّة محاور. مؤكّدةً أن المجموعات المسلّحة هي نتاج طبيعيّ وردّ فعل على وحشيّة وغطرسة العدوان (حزب الله وحماس مثالًا) بما يمثّلاه برأيها “جزءًا لا يتجزّأ من النسيج”.
وتتساءل: “هل نستمرّ في مخاطبة النساء اللواتي يدعمن اتّجاهات المقاومة من موقع التفوّق؟ وهل أجندة النسويّة تقتصر على جزء من الحقوق دون آخر؟” وتؤكّد: “دعم حقّ المقاومة المسلّحة لا يعني دعم الممارسات الأبويّة..”.
وتوضح ياغي، أنّ “النسويّة أوسع بكثير من أن تكون أطرها محدودة بمناهضة الرجل. بل تمتدّ مبادئها إلى مناهضة كلّ أشكال فرض السلطة والوصاية”. وتتساءل: “فكيف إذا أتت هذه الوصاية من قبل المُستعمرّ الذي يفرض معاييره ويتحكّم بالموارد ويُصادر فكرة أنّه هو الذي يعطي الحرّيّات وهو الذي يمنح التحرّر؟”.
وتُعبّر ياغي عن رفضها للوصاية التي تفرض عليها “إسقاط الإنسانيّة عن رجالات مجتمعي لعدم مماهاتهم مع الأفكار السياسيّة المتبنّاة. لا أقبل أن تتمّ شيطنتهم، ولا فئة من هذا المجتمع، لمجرّد أنّ هذه الفئة تتبنّى معتقدًا معيّنًا، قد يكون معتقدًا دينيًّا أو سياسيًّا، تماشيًا مع المعايير الدوليّة، التي تتعامل معهم كإرهابيّين. من هنا أنا موجودة لأقول “لا” لكلّ شكلٍ من أشكال الاستعمار، ولا يمكن لأحد أن يستعمر عقلي كنسويّة متحرّرة من القيود”.
جزء من مشهد
على صفحتها في “فيسبوك”، نشرت أبي مرشد: “… مؤسف أنّ بعض حليفاتنا النسويّات بوقت بلادنا منهارة وأعداد من شعبنا ما رجعت ع بيوتها… قرروا يستعملوا مواردهنّ والمنصّات اللّي إلهن فيها صوت ليتّهمونا ويتّهموا نشاطاتنا”. “تعبّر فرح أبي مرشد عن أنّ “كلّ ما أراه وأعايشه اليوم لا يشبه النسويّة التي أفهمها وأفضّلها وأعرف نفسي من خلالها”.
وهي ترى أنّ “الوضع النسويّ الراهن يُشكّل جزءًا من مشهد أوسع في بلد يعاني من التخبّط والانقسامات الحادّة، ويشوبه كثير من الخوف والقلق والضياع”.
وترى أبي مرشد إلى النقد النسويّ الآتي من الضفّة الأخرى، “خطابًا استعلائيًّا يُمارِس سلطته من خلال شلليّة لطالما أضرّت بالقضيّة النسويّة وسمّمت أجواء النشاط والحراك النسويّ، ومن خلال منصّات تستغلّ أصوات النسويّات لتحقيق أجندات سياسيّة، ولا تضمن عدالة في تمثيل الصوت النسويّ بكلّ تنوّعه وتغذّي الانقسامات”.
وتضيف: “أرى أيضًا استخفافًا بالأخطار الاستعماريّة المحدقة ببلادنا- وأؤكّد أنّ هذا ليس اتّهامًا بالعمالة- بل هو نقد لخطاب وتوجّه لا يراعي حساسيّة المرحلة ومسؤوليّتها ودقّتها، أو يتجاهل المخطّطات الاستعماريّة الإلغائيّة”.
حوار نسويّ
ولكن هل يمكن أن نتحدّث عن جسور تلاقٍ، تجمع بين الآراء المتناقضة، وتُيسّر سبُل التحاور والتفاهم بين المتخاصمات، وهنّ بنات جلدةٍ واحدة؟
في تقدير ياغي، أنّ “الاختلاف ليس مشكلة، بل هو غنى، ووجهات النظر الواحدة غير مطلوبة، ومن الصحّيّ أن نتناقش في اختلاف وجهات النظر، ولكن من الخاطئ أن نُسقط عن الأخريات نسويّتهنّ، وأن نضع معايير محدودة للنسويّة، ومن تخرج منها تسقط عنها صفة النسويّة أو نضع لهنّ رمزًا معيّنًا”. ومن هنا تؤكّد ضرورة “أن نقتنع بأنّ هناك اختلافًا، وبإمكاننا سماع وجهات النظر المختلفة لينقشع أمامنا أفق جديد للنظرة، في هذه القضيّة”.
وفيما تردّد أبي مرشد السؤال على نفسها: “هل أعتقد أنّ هناك حلولًا؟ تجيب: بالطبع هناك حلول. ولكن هل أعتقد أنّ هناك رغبة ونيّة حقيقيّتين؟ للأسف، لا. وهذا أمر مؤلم ومؤسف وموجع”. إنّها ليست قضيّة “المقاومة”،- والكلام لمرشد- وقد نختلف في هذا التوجّه، وهو اختلاف مشروع، ولكنّه اختلاف جوهريّ مرتبط بممارسة النسويّة التي لا تتّفق مع الادّعاء النسويّ”.