الهجرة غير الشرعية من البقاع.. قوارب موت في تركيا وترحيل من كندا
يشهد لبنان حالياً انهياراً شاملاً لجميع جوانب تركيبته الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والإنسانية. منذ ما يقرب من عامين، انفجر السد الذي منع الانهيار المذكور، مما أدى إلى تضخم واحتجاجات واضطراب اجتماعي واقتصادي. كانت اللحظة الفاصلة لهذا الانهيار هي انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب. بعد ذلك كل ما تبقى من لبنان “شبه المستقر” قبل احتجاجات 17 تشرين الأول هو الحنين ووهم التغيير.
تاريخياً، تشكّلت الصورة النمطية عن البقاع بأنه الجزء المتخلف من لبنان والمنطقة بشكل عام. وعلى الرغم من أنه شكّل على الدوام المصدر الأساسي للمنتجات الزراعية الرئيسية، إلا أنه شكى بانتظام من الإهمال الاقتصادي وغياب الدعم الحكومي ومعدل الأمية المرتفع بشكل خطير، والظروف المعيشية المتواضعة.
حلم الهجرة يراود الجميع
لطالما كانت الهجرة إلى الغرب حلم يراود المؤهلين أو رواد الأعمال في لبنان. لكن الأزمة الأخيرة دفعت بالكثير من الناس إلى اليأس، وجعلتهم يحاولون الهجرة بطريقة غير شرعية إلى أوروبا أو أميركا الشمالية. بعض هذه المحاولات فشكل بشكل مأساوي، وبعضه الآخر أدى إلى عواقب قانونية وخيمة. لكن للأسف لم تحظَ تلك المحاولات باهتمام الاعلام وبقيت طي الكتمان حيث عدد الحالات الفعلية يتجاوز بكثير تلك التي تم تسليط الضوء عليها، وبالتحديد في طرابلس كما ذكرت وكالتي أسوشيتد برس ورويترز.
جزء كبير من هذه الهجرات، سواء حدث بشكل قانوني أو مشكوك فيه، كان من مناطق نائية وتحديداً في البقاع. لكن تلك الهجرة لم تكن مدفوعة بعامل الانهيار الاقتصادي أو الاضطراب السياسي فحسب، بل بعوامل اجتماعية وعائلية عدة تدفع الناس إلى فعل ذلك، وهذا شيء فريد من نوعه في المنطقة، حيث تطغى التقاليد والالتزامات العائلية على الجميع بغض النظر عن العمر، الجنس أو الحالة الاجتماعية.
الهجرة من لبنان هي مسار تاريخي، ويمكن العثور على المهاجرين في كل ركن من أركان البلاد. البقاع ليس استثناءً من ذلك، وكثير من سكان البقاع عملوا في مهن لامعة في الخارج كأطباء ومهندسين وعلماء وسياسيين. لكن في الآونة الأخيرة، اختار عدد منهم السير في طريق الهجرة غير الشرعية لأسباب مختلفة.
منذ بداية الحرب الأهلية السورية، التي تزامنت مع زيادة الطلب على العمالة وهروب عدد كبير من السوريين إلى أوروبا، اغتنم العديد من اللبنانيين هذه الفرصة وحاولوا دخول أوروبا تحت صفة لاجئين، حيث نجحت في بعض الأحيان، لكن في أحيان أخرى أودت تلك المحاولات بأصحابها إلى الموت أو السجن وبعض الحالات إلى الترحيل. منذ بدء الأزمة حاول عدد كبير من الشباب اللبنانيين معظمهم من البقاع القيام بهذه الرحلة.
رحلة حسين مع قوارب الموت
حسين (اسم مستعار) تحدث لـ “مناطق نت” عن محاولته الفاشلة لمغادرة لبنان بحثاً عن حياة أفضل، على الرغم من معرفته بالخطر الكبير التي تشكله تلك المحاولة على حياته واحتمال دخوله السجن. عندما توفي والده الذي كان مزارعاً، وجد حسين نفسه يزرع الحقل ويعتاش من بيع المحصول. لكن بسبب الديون التي كان والده غارقاً بها، اضطر حسين إلى بيع الأرض لسداد الدين.
انتهى الأمر بحسين إلى أن اقترب منه شخص ادعى أنه “ميسِّر” لدخول ألمانيا عبر أوروبا وتركيا. لذلك قرر أن يخوض الرحلة التي وعده “الميسِّر” بأن تكون سهلة، وهذا لم يتطابق مع أرض الواقع. يروي حسين “عندما وصلنا إلى نقطة الانطلاق في تركيا، كان في انتظارنا قاربًا مطاطيًا صغيرًا بالكاد يتسع لعشرة أشخاص”. يتابع “بدا الطقس كئيبًا حيث طلب المهرب الدفع قبل أن نركب القارب”. وعندما انطلقوا واجهتهم عواصف خطيرة أجبرتهم على السير في طريق مختلف. يتابع حسين “انقلب القارب فجأة، ووجدنا أنفسنا نسبح في مياه متجمدة ليلاً. مات معظمنا، وأنقذ خفر السواحل التركي البقية”.
بعد تلقيه بعض العلاج الطبي، تم ترحيله إلى لبنان وفرض عليه حظر سفر لمدة خمس سنوات. يصرّ حسين على أنه سيحاول مرة أخرى. ليس لديه أمل في أن يتمكن هو وأمه من كسب عيشهما بمفردهما هنا، خاصة عندما لا توجد فرص عمل حقيقية. في رأيه، أي شيء يستحق مغادرة لبنان من أجل حياة أفضل في الخارج.
انهيار رولا وافتضاح أمرها
قررت رولا (اسم مستعار أيضًا) بعد أن فقدت وظيفتها بسبب التضخم في أوائل العام الماضي أن تجرب حظها. بعد أن علمت أن العديد من الدول الغربية تمنح اللجوء للاجئين السوريين. لجأت رولا إلى الحصول على وثائق سورية مزورة، وبعد ذلك تقدمت بطلب للحصول على اللجوء في كندا. تمت الموافقة على طلبها، ولكن في اللحظة التي دخلت فيها الأراضي الكندية، أجرى ضابط الهجرة مقابلة معها حيث قالت لـ “مناطق نت” “لقد هددني بوضعي في السجن إذا لم أقل الحقيقة، عندها أصابني انهيار وأخبرته بكل شيء”. تم إدراج رلا على القائمة السوداء وأعيدت إلى لبنان، حيث واجهت المزيد من المشاكل القانونية بسبب تزوير الوثائق. لكنها مرة أخرى لم تظهر أي ندم، وتخطط للمحاولة مرة أخرى في أسرع وقت ممكن.
لا يبدو أن هناك بصيص أمل في نهاية نفق الانهيار الذي يعيشه لبنان ومجتمعه. يستمر الاقتصاد في الانحدار وتحطيم الأرقام القياسية في التضخم والذي يترافق مع تقارير يومية تحذر من كارثة وشيكة أكبر.
قصص مثل قصتي حسين ورولا هي صورة مخيفة لما يخطط له شباب لبنان من أهداف. ترك البلاد والحلم بحياة يعيشونها في الخارج بعيدًا عن الجحيم الذي يعيشونه هنا يوميًا. الخطورة تكمن في أن الفئة العمرية الشابة يتملكها اليأس، ولا تجد سوى الهجرة سبيلاً للخروج من هذا اليأس.
كيف نمنع شبابنا من القفز إلى قارب يقودهم إلى أي مكان إلا إلى وطنهم؟ كيف نمنعهم من أن يكونوا رهائن من قبل نظام قاتل وغير كفء يجعلهم يخاطرون بحياتهم سعياً وراء حياة كريمة لا يجدون الحد الأدنى منها في وطنهم فييمموا وجوههم صوب البحر والسماء.