الهرمل بلا معابر مع سوريا، وحيدة مقطعة الأوصال
الهرمل يعني العاصي، وأيضًا النقطة الأبعد في لبنان، هذا ما يرسَخ في أذهان اللبنانيّين لدى سماعهم بتلك المنطقة النائية، وهذا ما زادته الحرب رسوخًا إذ باعدت الهرمل عن الوطن وفاقمت من عزلتها. هذا البعد عن الوطن لم يكن كذلك مع طائرات الموت الإسرائيليّة التي كانت أقرب من أيّ وقت منها، فزنّرتها بالغارات وقطّعت أوصالها ومعابرها التي كانت بمثابة شرايين حياة ورئة تتنفس منها، والخوف من الآتي حيث وحش الثلج على تخوم الشتاء، يتربّص بالهرمل، ممّا يجعلها شبه معزولة تمامًا من ناحية الإمدادات بالمواد الغذائيّة ووقود التدفئة.
يضمّ قضاء الهرمل إضافة إلى المدينة 32 قرية صغيرة تمتدّ على مساحة 731 كيلومترًا، يقطنها حوالي 90 ألف نسمة، ويربطها ببقيّة المناطق طريق الهرمل– بعلبك، وطريق الهرمل- الضنّيّة (تنقْطَع شتاءً بسبب الثلوج).
أمّا مع سوريا، فيرتبط قضاء الهرمل بمعبر “مطربا الرسميّ” الذي أُنشئ في العام 2022 بهدف زيادة الحركة التجاريّة والسياحيّة بين لبنان وسوريّا، إضافة إلى 17 معبرًا ترابيًّا “غير شرعي”، مثل معبر حوش السيّد علي، معبر القصر، معبر جرماش، معبر بيت جعفر ومعبر بيت ناصر الدين، والتي تُسْتَخْدَم في عمليّات التهريب، وقد تَمَّ قصفها كلّها، فيما طرقاتها الداخليَّة تحت مراقبة المسيّرات الإسرائيليّة بشكل دائم.
الهرمل من نافذة مركز الإيواء
مع توسُّع رقعة الحرب في الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي، بات قضاء الهرمل شبه خالٍ من سكّانه إذ شهد موجة نزوح كبيرة، إثر الغارات الكثيفة التي تعرّض لها وأدّت إلى سقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى، بالإضافة إلى أضرار جسيمة في الممتلكات.
لم يبتعد أهالي الهرمل في نزوحهم كثيرًا عن منطقتهم، فهم لم يعتادوا ذلك، إذ نزحوا إلى أماكن قريبة يعتبرونها آمنة، وتحديدًا بلدات القاع، رأس بعلبك، الفاكهة- الجديدة وعرسال، لكي يتسنّى لهم تفقّد بيوتهم كلّما هدأت الأحوال.
و. أمهز ابنة الـ33 عامًا، تركت مدينة الهرمل رفقة شقيقتها الصغرى ونزحتا إلى أحد مراكز الإيواء في ثانويّة الفاكهة الرسميَّة، تروي لـ “مناطق نت” رحلة المرارة والأسى عندما غادرت البيت والأهل: “سكنَت في قلبي غصّة لن أنساها طوال عمري، لكنَّنا مجبرون على ذلك، القصف طال المنازل المجاورة لنا، لذلك طلب إلينا والدي مغادرة البيت بسرعة، فيما بقي هو هناك، رأينا الدمّار والموت والجثث، المشهد فظيع، لا يمكن وصفه، كيف يتحوّل فجأة كلّ شيء إلى رماد”.
حول الإقامة في المدرسة والرعاية والخدمات التي يتلقّونها تقول أمهز: “بصراحة الدولة لم تُقَّدِم أيِّ شيء وكُلّ ما في هذا المركز تقدّمه الجمعيّات، أسمع مثل غيري عن وعود الدولّة، لكن ما بنقول فول ليصير بالمكيول”. وعن المعاملة تقول “هي أخويّة إنسانيّة، يحتضنوننا هنا في المدرسة بشكل كامل، سواء الإدارة أو أهل البلدة أو الناشطون، الشكر الكبير لهم على كلّ شيء”.
لم يبتعد أهالي الهرمل في نزوحهم كثيرًا عن منطقتهم، فهم لم يعتادوا ذلك، إذ نزحوا إلى أماكن قريبة يعتبرونها آمنة، وتحديدًا بلدات القاع، رأس بعلبك، الفاكهة- الجديدة وعرسال، لكي يتسنّى لهم تفقّد بيوتهم كلّما هدأت الأحوال.
تتابع أمهز:” الهرمل في نظري هي الدنيا، كلّ الدنيا، طفولتي، دراستي، عائلتي، أصدقائي، ذكرياتي، لا حياة لي من دونها، منذ مجيئنا إلى هنا أزور الهرمل بين الحين والآخر حينما يسود الهدوء. طوال النهار أنظر إليها من النافذة “قبالة المدينة” وأقول لشقيقتي الصغيرة “حتمًا سنعود”، حتّى لو دمَّروا كلّ شيء سنعود ونبني. حتمًا سنعود ولو سيرًا على الأقدام”.
أيعقل أن يعطش ابن الهرمل؟
في حديث لـ “مناطق نت” يوجّه الممثّل عبدو شاهين صرخةَ ألم: “ابن منطقة البقاع الشماليّ بشكل عام كان مشهورًا بالمحبّة والطيبة، الرجولة، إكرام الضيف، ارتباطه بالأرض كارتباط الطفل بأمّه، منذ دخلت علينا مشاريع “ما بتشبهنا”، أحدثت تغييرًا هائلًا في عاداتنا وقيمنا، لم تعد الأرض هي مصدر رزقنا، مصادره باتت التهريب، الأحزاب، زراعة الحشيشة، هذا ما فرض علينا سلوكيّات جديدة، زادت همومًا فوق أكتافنا، أوّلها الأمن والأمان. سابقًا لم تُقْفَل أبوابنا بوجه أحد، لم تكن زياراتنا بمواعيد مسبقة، فقط ينادي الزائر على باب البيت “يا الله” فيتمّ استقباله بكلّ طيبة وترحاب وإكرام له”.
يَتَحَّسَر شاهين على الماضي الجميل، حتّى في أيّام الحرب الأهلية البشعة. يتابع: “مَرَّت كلّ سنوات الحرب الأهليّة لم يَحْصُل في منطقتنا “ضربة كفّ” طائفيّة أو مذهبيّة. أقولها دائمًا بصوت عالي وين ما رحت، بالعكس تمامًا أتَذَّكر في طفولتي يوم كانت زراعة القمح ولونه الأصفر الجميل يغطّي سهولها، كان أهل الهرمل وأبناؤه يعرفون أبناء القاع وراس بعلبك وعرسال والفاكهة يتفاعلون ويتعاملون معهم اجتماعيًّا وشخصيًّا وتجاريًّا، يتبادلون زيارات الأفراح والتعزية”.
وتابع: “من قال إنَّ ابن دير الأحمر وشليفا لا يشبهني؟ هذه الحرب أثبتت أنّنا جميعًا كلبنانيّين نتَشابَه في كلّ شيء، ماذا أنتجت لنا مشاريع القوقعة والتعصّب الأعمى والانزواء الطائفي؟”.
أمَّا عن حرمان المنطقة المزمن وغياب الخطط الإنمائيّة الفعليّة يقول شاهين: “أسأل نوّاب ووزراء وفعاليّات المنطقة الذين تناوبوا على الكراسي، أين هي التنمية الفعليّة في منطقتنا؟ أين الروزنامة الزراعيّة وخطط تمكين المزارع؟ أين سدّ العاصي والثروة السمكيّة؟ هل يعقل أن يعطش ابن الهرمل على حوض العاصي؟ أين شبكة المواصلات الفعليّة؟ نحن اليوم خائفون أن تقطع طرق الهرمل بفعل السياسات العشوائيّة الارتجاليّة”.
يختم شاهين: “دوري في مسلسل الهيبة لم يَهْدُف إلى تنميط صورة ابن الهرمل أو بعلبك، فلا يوجد مجتمع يتشابه بالكامل، غنى الهرمل كان بتنوّعها، فيها المزارع والعامل، فيها المُثَقَف المُتَنَور وفيها القَبليّ المُتَعَصّب، لكن النخوة والشهامة والرجولة والكرم وإغاثة الملهوف كانت صفات عامّة مشتركة عند كلّ الناس في منطقتنا، مسلمين ومسيحيّين، سنّة وشيعة، أملي أن نعود إلى الأرض جميعًا”.
الربابة وليالي الهرمل
رافع شمص (52 عامًا)، عامل في مرفأ بيروت، غادر إثر الحرب مدينة الهرمل رفقة زوجته وأطفالهما الأربعة، واليوم يقيمون في إحدى غرف معهد عرسال الفنّي رفقة آلة الرّبابة التي لا تفارقه.
يقول شمص في حديث لـ “مناطق نت”: “كأنّ قدرنا أن نتشرّد في السنوات الأخيرة، عملت لسنوات طوال في المرفأ قبل انفجاره، ذاك الانفجار قلب حياتي رأسًا على عقب، بدأ عملي بالتراجع تدريجًا حتّى وصل إلى مرحلة السخرة، والآن جاءتنا هذه الحرب الملعونة، الحمد لله على كُلّ شيء، همّنا حاليًّا أن تنتهي الحرب ونعود إلى بيتنا”.
يتابع شمص: “منذ أسبوع زرت البيت للاطمئنان، أحضرت الربابة معي كوني عازف ربابة عتيق. الربابة آلة شعبيّة ترمز بالإضافة إلى العتابا والموّال إلى التمسّك بالأرض والجذور، أعزف عليها نغمات الأجداد وألحانهم وبخاصّة لحن الشروقي الهرملاني. بتنا نجتمع في السهرات لأعزف لهم، وأحد الشباب هنا يجيد العتابا والغناء شو بدنا نعمل بدنا نْمَرِّق هالوقت ليكون الله فرجها”.
أكثر ما يشغل بال شمص ويثير قلقه هو صعوبة التنقّل بين الشوارع، خصوصًا مع تواتر الأخبار عن نيَّة العدو قصفها وقطعها، وهي بالأساس مهترئة. ويتخوّف من أن”يكونه العدو الصهيوني يريد لنا العودة إلى زمن التنقّل على الدَواب، ما يحكى عن مخطّط لتدمير الطرقات مريع ومرعب، لا سيّما في الهرمل بعد ضرب كلّ المعابر المؤدّية إلى سوريا، فاستهداف طرقاتها اللبنانيّة، يجعلها تعيش في عزلة كاملة عن المحيط، ما يجعل حياة مَنْ بَقيَ فيها مُهدَّدًا بخطر المجاعة والموت”.
ويختم شمص “انشالله تخلص هالحرب ونرجع على بيوتنا بأمان”.