الهرمل تغصّ باللاجئين السوريّين وتنذر بأزمات مستعصية

لم تكد الهرمل تلتقط أنفاسها جرّاء العدوان الإسرائيليّ الذي تسبّب في نزوح أهلها وتشرّدهم، حتّى وجدت نفسها في قلب زوبعة جديدة، لا تقلّ ضراوة عن لهيب الصواريخ التي استهدفتها. فبعد سقوط نظام الأسد في سوريّا في الثامن من كانون الأوّل (ديسّمبر) الماضي، عادت الأرض لكي تهتزّ عند المعابر الحدوديّة، التي فتحت أبواب اللجوء على مصراعيها، ليجد أهل الهرمل أنفسهم أمام موجة بشريّة زحفت كالسيل الجارف، تغمر شوارع المدينة وتتمدّد في أحيائها.
تقدّر مصادر أمنيّة لـ “مناطق نت” أنّ عديد اللاجئين الذين وصلوا إلى الهرمل لامس عتبة الـ 70 ألف نازح أيّ ما يعادل 14 ألف أسرة، قدموا عبر معابر شرعيّة وغير شرعيّة، لكن لم تكن حركة المعابر الرسميّة كجوسيه والقصير ومطربا، سوى نقطة في بحر تدفّق اللاجئين من خلال المعابر غير الشرعيّة، التي امتدّت على طول الحدود اللبنانيّة السوريّة ووصل عددها إلى أكثر من 17 معبرًا تسيطر عليها عشائر، وهي بعيدة من الرقابة، إذ قطعت جموع اللاجئين هذه المعابر إمّا سيرًا على الأقدام سالكين دروبًا وعرة، وإمّا عبر الدرّاجات الناريّة، فيما البعض الآخر أقلّتهم سيارات أجرة وسياراتهم الخاصّة إلى وسط المدينة.
عبور طويل باتّجاه مجهول
اعتادت الهرمل، أن تكون معبراً للاجئين والهاربين والمهرّبين. وجدت نفسها اليوم وسط معركة جديدة، معركة من نوع آخر لا يلوح في أفقها إلّا عبور طويل باتّجاه مجهول، بعدما تدفّقت إلى شوارعها قوافل الفارّين من جحيم الحروب. ولم يكن هذا التدفّق اختيارًا طوعيًّا من الهرمل، بل وقع ثقيل ألقي على عاتقها، أرغمها على تحمّل عبءٍ يفوق طاقتها.

إنّها ضريبة الجغرافيا التي حوّلت الهرمل بين ليلة وضحاها إلى وجهة رئيسة للاجئين السوريّين، إذ تقع المدينة على بُعد خطوات قليلة من الحدود السوريّة، ما جعلها نقطة تماسّ أولى مع الداخل اللبنانيّ، ونقطة عبور استراتيجيّة لاحتوائها على عدد من المعابر الرسميّة التي تربطها بالمناطق السوريّة المجاورة، مثل معبر القصير ومعبر جوسيه، اللذين لعبا دورًا رئيسًا في جعل الهرمل واحدة من أولى المحطّات التي لجأ إليها النازحون.
قرى متداخلة وأواصر قربى
علاوة على ذلك، شكّل ارتباط أهل الهرمل الوثيق بأبناء القرى الحدوديّة المتداخلة مع سوريّا عاملًا إضافيًا للنزوح. “فعديد من تلك العائلات كانت قد استقرّت في تلك القرى منذ عقود، وعادت إلى الأراضي اللبنانيّة، بعد سقوط النظام في سوريّا حيث أقاربهم في الهرمل. هذا المزيج من الاختلاط السوريّ واللبنانيّ لفترات طويلة، جعل من المدينة وجهة أساسيّة لاستقبال كلّ هذه الأعداد، ممّا ضاعف من حجم التحدّيات أمام أهل الهرمل الذين لم يكونوا مهيّئين لهذا التدفّق الكبير”، بحسب ما أفاد نائب رئيس بلديّة الهرمل عصام بليبل لـ “مناطق نت”.
من مناطق سوريّة مختلفة
لم يقتصر اللجوء إلى الهرمل من منطقة سوريّة واحدة، بل شمل مناطق عديدة وبعيدة، إذ وصل اللاجئون إليها من حمص وريفها، لا سيّما من قرى العبّاسية، الغور الغربيّة، الدلبوز، وأمّ العمد، بالإضافة إلى مناطق نبل، الزهراء، كفريّا والفوعة، التي تقطنها غالبيّة من السوريّين الشيعة مع قلّة لبنانيّة. كذلك قدموا من حماه ومن القصَيْر وريفها، بما في ذلك بلدات حاويك، بلوزة، جرماش والحوراني. وأيضًا شمل النزوح مناطق السمّاقيّات الغربيّة والشرقيّة، السقمانيّة، الفاضليّة، زيتا، المصريّة، النهريّة، الصالحيّة، والديابيّة وهي مناطق ريفيّة قريبة من الحدود اللبنانيّة، إلى جانب قلّة قليلة من العقربيّة ومطربة السوريّة، وحوش السيّد علي السوريّة، ومعظمهم من اللبنانيّين الشيعة، وفق ما ذكرت المصادر الأمنيّة لـ “مناطق نت”.
توزّع اللاجئون على مختلف مناطق مدينة الهرمل، واستقرّ بعضهم في المناطق الحدوديّة مثل القصر، حوش السيّد علي وسهلات الماء، بينما انتشر آخرون في القرى المحاذية للمدينة كالشواغير، البويضة، المنصورة والشربين. وشهدت مناطق وادي فيسان وزغرين، كثافة سكّانيّة متزايدة للاجئين، وصولًا إلى وسط المدينة، حيث لجأ عديد منهم إلى أحياء قريبة من الأسواق والمرافق الحيويّة لتأمين احتياجاتهم الأساسيّة، تبعًا لما أوردته المصادر الأمنيّة.
تحدّيات كبيرة بلا سابق إنذار
مع وصول هذه الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريّين إلى الهرمل، وجدت البلديّة نفسها أمام تحدٍّ يفوق إمكاناتها وقدراتها بكثير، إذ لم تكن هناك أيّ خطّة طوارئ مسبقة، أو استراتيجيّة واضحة لاستيعاب هذا الكمّ الهائل من اللاجئين، خصوصًا أنّ المدينة لم تكن تمتلك بنية تحتيّة مجهّزة، ولا مراكز إيواء كافية، ولا حتّى موارد لوجستيّة تمكّنها من التعامل مع موجة اللجوء، وفق بليبل، ما أدّى إلى لجوء النازحين إلى الحسينيّات والجوامع وبعض المراكز العامّة والمجمّعات التجاريّة، وهي بطبيعة الحال غير مخصّصة للسكن، بعد أن تمّ تحويلها إلى ملاجئ موقّتة تفتقر إلى الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم.
لكنّ حجم الأزمة المتفاقم فرض نفسه على الجميع، فتحرّكت جمعيّات أهليّة وبعض الجهات الحزبيّة متحمّلة جزءًا كبيرًا من مسؤوليّة الإغاثة، وذلك بالتنسيق مع بلديّة الهرمل التي واكبت الأزمة منذ البداية لكنّها كانت عاجزة نسبيًّا عن تقديم الدعم الماليّ والإغاثيّ للمتضرّرين، نتيجة لشحّ المخصّصات الماليّة في البلديّة، التي وجدت نفسها بين مطرقة انعدام التمويل الحكوميِّ وسندان نقص الكادر البشريّ، ممَّا يفاقم المشاكل الإداريَّة والخدماتيَّة في المنطقة.

تداعيات اقتصاديّة وسكنيّة
هذا الواقع المأزوم أرخى بثقله على الهرمل وترك آثارًا اقتصاديّةً مباشرة على المجتمع المحلّيّ، حيث زاد الضغط على الموارد المتاحة، ورفع مستويات الطلب على الخدمات الأساسيّة، وفي مقدّمها السكن، الذي تحوّل إلى واحدة من أبرز التداعيات التي ضغطت على الهرمل ومنطقتها، إذ أدّى الطلب الكبير على البيوت، إلى ارتفاع غير مسبوق في بدلات الإيجار، والتي وصلت في بعض الحالات إلى الضعف أو حتّى ثلاثة أضعاف ممّا كانت عليه قبل أزمة اللجوء، وهذا ما جعل العثور على مسكن ببدل مناسب أمرًا بالغ الصعوبة، سواء للنازحين أو لأهالي المنطقة أنفسهم، على الرغم من بعض المبادرات الفرديّة التي تطوّعت لتقديم منازلها بالمجّان مآوي للاجئين.
ويشكو أحد أبناء الهرمل (رفض الكشف عن اسمه) من استغلال بعض المالكين للوضع عبر رفع بدلات الإيجار بشكل عشوائيّ، دون أيّ ضوابط أو رقابة، قائلا لـ “مناطق نت”: “في السابق، كانت الإيجارات في الهرمل تراوح بين 100 دولار و150 دولارًا شهريًّا للشقق المتوسّطة الحجم، أمّا اليوم فقد ارتفعت الأسعار إلى 250 دولارًا أو 300 دولار، وأحيانًا أكثر، تبعًا للموقع والتجهيزات”. ويتابع “هذا الارتفاع لم يكن مرتبطًا فقط بارتفاع الطلب، بل أيضًا بجشع بعض المالكين ممّن وجدوا في اللاجئين فرصة لتحقيق أرباح كبيرة”.
ومع غياب أيّ قانون يلزم المالكين بالتسعير العادل، باتت الأسعار تُحدّد وفق مزاجيّة أصحاب البيوت، ما جعل الأسر ذات الدخل المحدود، سواء من أبناء القرى المحيطة بالهرمل أو اللاجئين إليها، عاجزة عن تأمين مأوى مناسب، فيما بقيت الوعود بحلول رسميّة مجرّد تصريحات لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
بليبل: أُولى التحدّيات تتمثّل في زيادة استهلاك المياه بشكل فاق قدرة الشبكة على التوزيع، إذ تعاني الهرمل أساسًا من مشكلات في توافر المياه. ومع تزايد عدد اللاجئين، ارتفع الطلب عليها إلى مستويات غير مسبوقة
أزمة مياه إضافيّة
لم يكن الارتفاع في بدلات الإيجار وحده الذي خلّفه اللجوء الكبير إلى الهرمل، بل أدّى التزايد السكّانيّ المفاجئ إلى ضغط هائل على الموارد والخدمات الأساسيّة، ممّا جعل المدينة تواجه تحدّيات غير مسبوقة.
وفي هذا الإطار يشير بليبل إلى أنّ “أُولى هذه التحدّيات تتمثّل في زيادة استهلاك المياه بشكل فاق قدرة الشبكة على التوزيع، إذ تعاني الهرمل أساسًا من مشكلات في توافر المياه. ومع تزايد عدد اللاجئين، ارتفع الطلب عليها إلى مستويات غير مسبوقة”. يتابع بليبل “هذا الأمر أدّى إلى تراجع ساعات ضخّ المياه وازدياد الاعتماد على الصهاريج الخاصّة، ما رفع أسعار المياه وجعلها عبئًا إضافيًّا على السكّان واللاجئين معًا”.
عجز بجمع النفايات
إضافة لذلك، أدّى الازدحام في الهرمل، إلى مفاقمة أزمة النفايات أيضًا، وفي هذا الإطار يقول بليبل: “ارتفع معدّل كمّيّة النفايات بشكلٍ فاق القدرة الاستيعابيّة للبنية التحتيّة المتهالكة أصلًا، فقد باتت مكبّات النفايات تمتلئ بسرعةٍ أكبر، بينما تعجز فرق جمع النفايات عن مواكبة الكمّيّات المتراكمة في الأحياء السكنيّة والمخيّمات المستحدثة”. ويتابع: “في ظل افتقارها إلى المحروقات للآليّات، والعدد الكافي من العمّال، تجد البلديّة نفسها عاجزةً عن جمع النفايات المتراكمة، ممّا أدّى إلى تفاقم الأزمة البيئيّة في المنطقة”.
سيلحظ المتجوّل في الهرمل هذه الأيّام أنّ صورتها تبدّلت بعد أن ارتدت ثوب فيض اللجوء، وفي ظلّ التحدّيات الكبيرة التي تواجهها، لعبت جمعيات أهليّة وبعض الجهات الحزبيّة دورًا محوريًّا في سدّ الفجوات الناجمة من غياب الحلول الرسميّة. فقد بذلت هذه الجهات قصارى جهدها لتقديم المساعدات الإغاثيّة، وتوفير الحدّ الأدنى من الخدمات الأساسيّة، سواء على صعيد الإيواء أو الرعاية الصحّيّة أو توزيع الموادّ الغذائيّة. إلّا أنّ هذه المبادرات، على رغم أهمّيّتها، تبقى عاجزة عن تعويض غياب خطّة شاملة، تؤدّي إلى مفاقمة معاناة المدينة، منذرة بمزيد من التدهور على مختلف المستويات، ومنها الخدمات العامّة.
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.