الوشم من البداوة إلى الاستعراض وما بعد الحداثة
مثل حال البدويّ في السابق مع التجوال بين بيوت القرى في الأرياف اللبنانيّة، لخلع الاسنان المخلخلة، كانت هناك مهام أخرى يشتهر بفعلها البدو كنقش الوشوم على وجوه النساء، وأذرع الرجال. في كلتا الحالتين، العدّة بسيطة، لكنها متّصلة مباشرة بالجسد وتحوّلاته.
مطّاط مذاب وبعض الرماد، وزيت زيتون، وإبَر ثخينة مثبّتة بعود من خشب. أدوات تعيد ترسيم الهويّات، أو تكشف المعتقدات، ذلك أنّ بعض الوشوم تحمل جوانب طقوسيّة، أو رموزًا دينيّة، أو أبعادًا تجميليّة، أو تعاويذ طبّية. بمعنى آخر، لتلك الخطوط الزرقاء الظاهرة على سطح الجسد، قنوات اتّصال بالدماغ والمعتقدات التي تتشكّل في دواخله.
“حسّونة” سميرة توفيق
قبل رحيلها بسنوات، سألتُ الحاجّة ميري عن سرّ تلك النقاط الثلاث المنظّمة بخطّ عموديّ أسفل شفتّها؟ فأخبرتني أنّها من العناصر الجماليّة التي كانت دارجة في زمنهم، فكانت الصبايا في قرى الجنوب، ينتظرن مرور البدويّ، أو البصّارة البدويّة، كي يوشموا لهنّ لقاء أجر زهيد، أو حفنة من بقوليّات. بعد تلك المرحلة، سرت موجة من وشم النقاط على إحدى الوجنات، لصنع شامة كتلك المزّينة خدّ المطربة سميرة توفيق (سميرة غسطين كريمونة)، وهي من علامات الجمال ضمن الثقافة الشعبيّة.
الوشم القاتل والدينيّ
كان الشبّان يبحثون عن طرقهم الخاصّة في إبراز هويّاتهم ومعتقداتهم، ليس لأسباب إيمانيّة بقدر تثبيت انتماءاتهم إلى هذه الفئة أو تلك، ولذلك شاع رسم سيف “ذو الفقار”، المنسوب إلى الإمام عليّ (بن أبي طالب)، كما شاع وشم الصليب، وكلمات على نحو “الله أكبر”. وكان الأمر ليمرّ مرور الكرام بانفعالات المراهقة لولا اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة في العام 1975، حيث كان القتل على الهويّة، وإذا أحسن أحدهم التخلّص من بطاقة هويته كان وشمه يشي به وبانتمائه الدينيّ، ليكون القتل مصيره.
وبمثل كثير من هذه الحالات تخطّت بعض الوشام أدوارها السطحيّة الانفعالية، لتكون وسائل إنهاء حياة إنسان. لكن مع الفرز المناطقيّ، شعر بعض الشبّان بالأمان النسبيّ، فراحوا يوشمون وجوه الشخصيّات التي يعتبرونها مثالهم الأعلى، فدرجت وشام كمال جنبلاط (بعد اغتياله)، وموسى الصدر (بعد اختطافه)، وبشير الجميّل (بعد اغتياله)، إضافة إلى تشي غيفارا وجمال عبد الناصر وأنطون سعادة، بينما بات وشم مار شربل من أكثر الوشوم شيوعًا اليوم في أوساط الشباب المسيحيّ.
في حالات أخرى، كانت الميليشيات توشم رموزها على وجوه أسراها، ثم تطلقهم بعد مدّة، مدموغين بتلك العلامات الموازية للعار بحسب قوانين الحرب.
كان الشبّان يبحثون عن طرقهم الخاصّة في إبراز هويّاتهم ومعتقداتهم، ليس لأسباب إيمانيّة بقدر تثبيت انتماءاتهم إلى هذه الفئة أو تلك، ولذلك شاع رسم سيف “ذو الفقار”، المنسوب إلى الإمام عليّ
سرديّات العجوز
في أواخر الثمانينيّات من القرن الماضي، كان هناك عجوز فلسطينيّ يفرش رسوماته الزرقاء عند نزلة مطعم “ميري لند” في الروشة؛ أقمشة مربّعة متنوّعة المضامين، بين الجماجم والنمور والخناجر والصقور والافاعي، والقلوب التي تخترقها السهام. أنت تختار، فيحدّد لك “أبو حسين” كلفة الوشم، ثمّ يقوم بحلاقة الشعر عن الزند أو الكتف، يمسحها بالزيت ليطبع الرسّم، ثم يشرع في غمس الإبر الثلاث المثبتة بقلم رصاص، بغطاء قارورة يحتوي على حبر صينيّ. “يدقّ”، ويحكي حكاياته عن زوجته الجميلة التي تصغره بسنوات كثيرة.
بعدها يتشعّب في سرده متقصّدًا إلهاء الزبائن عن أوجاعهم ونقاط الدم التي تفور ممزوجة بالحبر. فتيانًا كنّا نقصد العجوز من الشياح، لنعود “كبارًا” متباهين ببطولة تحمّل وخز الإبر، وجرأة معاندتنا لأهالينا الذين يبغضون هذا النوع من الأفعال التي ستدمغ الجسم إلى الأبد.
السجن وأبو عنتر
مثل ارتباط حرفة شكّ الخرز بنزلاء السجون، كانت الوشوم كذلك من العلامات التي تسجّل لهؤلاء الذين يقضون فترات طويلة من الملل، يقضونها في ما يقضونها برسم الأشكال البدائيّة، أو كتابة أسماء الحبيبات، أو خطّ كلمات مستلّة من قاموس الاغاني، مثل: “حياتي عذاب”، و”حبّك نار”. وتكتمل الأسطورة مع رفيق غوّار الطوشي (دريد لحام)، أبو عنتر (ناجي جبر)، المتقمّص دور “الزكرت” القبضاي، نزيل السجون الدائم، والذي يوشم على عضده كلمة “باطل”.
زحف الحداثة
شيئًا فشيئًا، راحت الوشوم تأخذ الجوانب التزيينيّة فتتمدّد نحو أماكن لم تكن شائعة للوشم في بلادنا، مثل الصدر والظهر والرقبة وخلف الاذن وأصابع اليدين وبطّة القدم، والفخذ وفي أماكن “حسّاسة”. تزامن الأمر مع انتشار الآلات الاحترافيّة القائمة على محرّك صغير، يحرّك الإبر مئات المرّات في الدقيقة الواحدة، وبذلك صار صنّاع الوشم بغالبيّتهم من الرسّامين، خرّيجي المعاهد الجامعيّة، أو ممّن خضعوا لدورات “غرافيكيّة”.
مع هذه الفورة التي شاعت، تلاشى الاسم التقليديّ “الوشم”، ليستبدل بالكلمة الأجنبيّة “تاتو” (Tattoo) كمصطلح جديد، يحمل أجمل اللوحات المبنيّة على قواعد الظلّ والنور رفقة الألوان، في قوالب سورياليّة مدهشة، على أن تتطلّب تلك “اللوحات” ساعات طويلة، يتجاوز بعضها عشرين ساعة، على أن تنفَّذ على مدار يومين متعاقبين، بكِلفٍ تتخطّى ألف دولار أمريكي، ويبرز نجوم في هذا الوسط، مثل حسين مستراح ونانسي قمح ونانسي أمهز وحسين حجازي وآخرون، يشاركون في مسابقات محلّيّة وعالميّة، ويُعرفون من خلال الوشوم التي تميّز واحدهم عن الآخر، تمامًا مثل حال الرسّامين الكبار.
مسرح الاستعراض
هكذا أصبح الجسد طريقة تنفيس وتعبير عن المكنون أو الغضب أو التمرّد، فوصل الحال بكثيرين إلى ملء معظم مساحات جلدهم بالوشوم، ليقارب الأمر حالة إدمانيّة، بحيث تتراكم الوشوم تباعًا، وكأنّ الجلد فراغ يجب طليه بالأزرق، وقد تصنَّف مجازًا حالة طقوسيّة حداثويّة. لكن الحالة تبقى ناقصة اذا لم تجد مسرحًا لاستعراضها واستقبال ردود الأفعال عنها، لذلك تُعتَبَر الشواطئ والمسابح، خير أماكن لإظهار الوشوم، وغالبًا ما تكون مصحوبة بالعضلات البارزة، حيث تلازم الاهتمام بظاهر الجسد كواجهة لفت نظر وجذب، وقد يأخذ الأمر البعد الطبقي الاقتصادي، حيث إن “اللوحات” المنفذة على الجسم، تعكس الإمكانات المادّيّة لصاحبها.
يستند بعض رجال الدين إلى أحاديث نبويّة للقول بإن الوشم من المحرّمات، فكان ولا يزال الأمر محلّ نقاش، ولهذا السبب أو أسباب أخرى، يلجأ كثر من أصحاب الوشوم إلى إزالتها بواسطة اللّايزر، حيث انتشرت في الآونة الأخيرة كثير من المراكز التي تقدّم هذه الخدمة على أن يتمّ الأمر بجلسات متعدّدة.
التاريخ بالأزرق
لقد تشعّبت مسارات الوشم عبر التاريخ، انطلاقًا من تلك المومياء التي عثر عليها في وادي أوتز في جبال الألب، وتعود لرجل من العصر النحاسيّ، احتوى جلده على سبع وخمسين وشم، متمثّلة بنقاط في منطقة العمود الفقريّ وخلف الركبة وعلى الكاحل، ومن المرجّح أن تكون لغاية استشفائيّة. في مصر ظهر الوشم بشكل جليّ على مومياء أمونيت، كذلك مومياء بازيريك في هضبة أوكوك في قلب سيبيريا الجنوبيّة الغربيّة.
مع ذلك لم يتوقّف البدو عن “دقّ” الوشوم، خصوصًا في الأماكن التي يحلّون بها، في سوريا والعراق والعريش في مصر.
يصلح الوشم لأن يكون دراسة اجتماعيّة فنّيّة اقتصاديّة واستشفائيّة، جماليّة ونفسيّة، ففي تلك الإبر الدقيقة، يطلّ التاريخ برأسه، مثلما أطلّ عبر الكتابة المسماريّة والنقوش الحجريّة.