اليد العاملة الفلسطينيّة في لبنان تاريخ من الخبرات والمهارات.. والقيود القانونيّة
منذ السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الجاري، وعيون العالم تترقّب ما ستؤول إليه الأمور في قلب فلسطين المحتلّة، وتحديدًا في قطاع غزّة المحاصر منذ نحو 16 عامًا، بعد عمليّة “طوفان الأقصى” التي شكّلت صدمة للاحتلال الإسرائيليّ. في هذه الحرب، وكما في كلّ عدوان سابق، خسر الفلسطينيّون أحبابًا كثراً، حيث مشاهد الدمار وصراخ الأطفال وعويل النساء يدمي القلوب. أهالي غزة بلا كهرباء ولا ماء ولا خدمات أساسية وضرورية ولا غذاء، في ظل حصار مطبق يمنع بموجبه الاحتلال الاسرائيلي دخول أي مساعدة لأهالي غزة الذين يعانون التشرّد وتوقف دورة الحياة بالكامل في مناطقهم.
على المقلب الآخر، وفي مخيمات الشتات في لبنان، يعيش الفلسطينيون لحظات ترقب وحذر يتابعون بقلق ما يجري في أرضهم المحتلة، عيونهم مسمّرة على شاشات التلفزة وآذانهم صاغية لتلقف كل جديد. جزء من هؤلاء توقفت أعمالهم قسراً نتيجة التوتر السائد على الحدود في الجنوب وقربها من المخيمات، وجزء آخر أوقف أعماله ليتابع ما يجري في غزة والضفة والاطمئنان على الأهل والأقارب.
الأوضاع المأسوية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، من تهجير وتشرّد وحرمان من أبسط مقومات الحياة يقودنا إلى السؤال عن: ماذا يعمل الفلسطينيون في لبنان، وكيف يتدبرون أمورهم، وفي أي قطاعات انخرطوا، وما هو حجم العمالة الفلسطينية في سوق العمل اللبنانيّة، تاريخيًّا وحتّى اليوم، وماذا قدّمت لسوق العمل اللبنانيّة من خبرات ومهارات؟ وأيضاً أبرز الأمور التي شكّلت عائقًا أمامهم.
قصص وروايات
يروي أستاذ اللغة العربيّة (الذي آثر عدم ذكر إسمه)، وهو مشرف تربويّ في مدارس “الأنروا” في منطقة صور (جنوب لبنان)، حيث يقيم، كيف منحته مهنة التدريس في مدارس الوكالة الأمان الوظيفيّ، خصوصًا أنّ مهمّتها إغاثة وتشغيل اللّاجئين.
ويقول لـ”مناطق نت”: “الراتب جيّد يكفي لتلبية الاحتياجات الأساسيّة، ولديّ عقد تأمين صحّيّ يتكفّل العلاج في الدرجة الثانية في المستشفيات، بينما المهنة في المدارس الخاصّة باتت في الوضع الحالي لا تؤمّن الحدّ الأدنى للمعلّمين. أمّا التدريس في القطاع الرسميّ العامّ فهو يتعرّض لانتكاسات كبيرة معروفة”.
المشرف هذا، في مطلع العقد الخامس من عمره، متزوّج ولديه ولدٌ وبنتٌ، حائز دكتوراه في العلوم السياسيّة وإجازة في اللغة العربيّة ودبلوم تربية. يعمل في مهنة التدريس منذ نحو 18 سنة، يقول: “أعيش في لبنان منذ ولادتي، بعد قدوم أجدادي من عكّا إلى لبنان سنة 1948”.
ماذا يعمل الفلسطينيون في لبنان، وكيف يتدبرون أمورهم، وفي أي قطاعات انخرطوا، وما هو حجم العمالة الفلسطينية في سوق العمل اللبنانيّة، تاريخيًّا وحتّى اليوم
ومثله كثر ممّن عاشوا وترعرعوا وعملوا في مناطق مختلفة من لبنان. أسامة الحاج واحد منهم، يعمل في مهنة النجارة منذ ثمانينيّات القرن الماضي، بدأها كهواية حينما كان طفلًا، وكان يمارسها بعد عودته من مدرسته. ومن كثرة حبّه لها، تعلّمها بسرعة، على حدّ قوله. وهو اليوم يمتلك مشغله الخاص، حيث يقوم بقصّ ألواح الخشب وتشكيلها، ومن ثمّ صنع الأبواب والشبابيك والأثاث، وغيرها الكثير من الأدوات التي يحتاجها الناس.
يستذكر الحاج، المولود سنة 1963 في مخيّم تلّ الزعتر (قبل تدميره إبّان الحرب الأهليّة اللبنانيّة في آب/ أغسطس 1976)، أيّام دراسته، حين أصيب بمرض “الشقيقة” ولم يتمكّن من دخول الجامعة آنذاك، ليضطرّ بعدها إلى دراسة تخصّص المحاسبة في أحد المعاهد.
يقول لـ”مناطق نت”: “يومها، حصلت على وظيفة محاسب، لكن غادرتها بعد ثلاثة أشهر، بسبب راتبي المتدنّي جدًّا مقارنة مع زملائي في العمل، فقط لأنّني فلسطينيّ. هذا ما قاله صاحب العمل حينما سألته عن السبب”.
هكذا، افتتح الحاج مشغله الخاص في برّ الياس في البقاع، ويتابع:”تمكّنتُ من خلاله تأمين مستلزمات واحتياجات عائلتي طوال السنين الماضية، وتعليم بناتي الثلاث في الجامعات الخاصّة، فيما آثر ابني الوحيد أن يتعلّم المهنة نفسها. لقد تأثّرت مصلحتي راهنًا كما جميع اللبنانيّين وغيرهم، بفعل الأزمة الاقتصاديّة”.
ويضيف حول تجربة التهجير “التي تكرّرت مرّات كثيرة في أثناء الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وتنقّلت مع أهلي بين برج حمّود وضبيّه وحارة حريك ورأس بيروت ومخيّم الرشيديّة (صور)، حتّى استقّرينا بعد ذلك في البقاع”. بعد نكبة فلسطين، في العام 1948، قدِم أهله وأجداده من شمال فلسطين، من قرية “علما” التي تقع في الجهة المقابلة لبلدة مارون الراس الجنوبيّة، على حدّ وصفه.
أصل الحكاية
هي قصّة قديمة جدًّا، من عمر اللجوء، تعود إلى زمن نكبة 1948، حين هُجّر الفلسطينيّون وطردوا إلى خارج وطنهم، في تهجير قسريّ جماعيّ ممنهج، إذ تشير التقديرات إلى أنّ نحو 110 آلاف فلسطينيّ قدموا إلى لبنان آنذاك، معظمهم من القسم الشماليّ من فلسطين، من قرى الجليل والمدن الساحليّة كيافا وحيفا وعكّا.
في حينه، انقسم الفلسطينيّون، بين الأثرياء، مسلمين ومسيحيّين، الذين استقرّوا في المدن والبلدات، والفقراء الذين اختاروا السكن في مخيّمات اللجوء الرسميّة الخمسة عشرة، أو في تجمّعات ريفيّة.
وقد تمّ تدمير ثلاثة مخيّمات في إبّان الحرب الأهليّة اللبنانيّة، قبلها أو بعدها (1975-1990) أبرزها المخيّم الذي كان يطلق عليه اسم تلّ الزعتر (بيروت)، ليصبح عددهم في ما بعد اثني عشر مخيمًا مكتظًا بالسكّان، وبنى تحتيّة متهالكة، يعود زمان أكثرها إلى أيّام نزوح الأجداد إلى لبنان، موزّعة على الشكل الآتي: خمسة في الجنوب، ثلاثة في الشمال، ثلاثة في بيروت وواحد في البقاع.
في العام 1948 هُجّر الفلسطينيّون وطردوا إلى خارج وطنهم، في تهجير قسريّ جماعيّ ممنهج، إذ تشير التقديرات إلى أنّ نحو 110 آلاف فلسطينيّ قدموا إلى لبنان آنذاك، معظمهم من القسم الشماليّ من فلسطين، من قرى الجليل والمدن الساحليّة كيافا وحيفا وعكّا
منذ بداية التهجير، عمل بعض الفلسطينيّين الميسورين مادّيًّا في التجارة، وكانوا شركاء مساهمين، ممّن يملكون أسهمًا في المؤسّسات الكبرى في لبنان. وعلى سبيل المثال، كان أحد المساهمين في إنشاء “بنك عودة” من المقتدرين الفلسطينيّين الذين قدموا إلى لبنان، بحسب ما يروي مسؤول اللجان العمّاليّة الفلسطينيّة في لبنان عبد الكريم الأحمد لـ “مناطق نت”.
كذلك، “نشطت هذه الفئة في عمارة الأبنية وتجارتها، خصوصًا في منطقة صيدا (جنوب لبنان)، لكنّ هذه التجارة توقّفت بسبب صدور قرار منع عمل وتملّك الفلسطينيّين في وقت لاحق”.
في تلك الفترة، بدأ الفلسطينيّون الإنخراط أكثر في سوق العمل اللبنانيّة، امتهنوا أعمالًا كثيرة، وحضروا بقوة في عالم التدريس والتمريض، وفي بعض الحِرَف والصناعات المحلّيّة دون أخرى، ولا يمكن إغفال الدور الكبير الذي لعبته العمالة الفلسطينيّة في قطاعيّ البناء والزراعة، وهي لا تزال نشيطة حتّى يومنا هذا.
تمييز قانوني لأسباب واهية
لكن، وبرغم ظروف تهجيرهم الاستثنائيّة، عاملت الدولة اللبنانيّة الفلسطينيّين معاملة “الأجنبيّ”، مع امتيازات بسيطة بحجّة الخوف من “توطينهم”، فواجه غالبيّتهم التمييز القانونيّ، لجهة قطاعات العمل التي يسمح لهم المشاركة فيها، ما سبّب عيش كثرة منهم في قلّة مادّيّة وعوز، وهم لا يمكنهم مزاولة 73 مهنة في لبنان، من بينها، جميع المهن الحرّة، كالطبّ والهندسة والمحاماة والصيدلة وغيرها الكثير، والتي توسّعت عبر السنوات لتشمل هذا العدد الكبير.
يقول الأحمد، وهو ابن بلدة قباعة الفلسطينيّة (قضاء صفد) ويقيم في مدينة صيدا: “برغم محاولات منعهم عنها، فإنّ جزءًا كبيرًا من الشباب والشابّات الفلسطينيّين، امتهنوا التعليم في المدارس، وحتى الجامعات وفي التمريض، والطبّ والهندسة أيضًا، من خلال ممارستها داخليًّا، أو تحت اسم عيادة لبنانيّة، على سبيل المثال”.
يشار إلى أنّه في كلّ مرة كان يصدر فيها قرار أو استثناء، يكون مبنيًّا على حاجة لبنان لهذه الفئة من العمّال ليس أكثر، كما حصل مؤخّرًا مع الإذن الذي مُنح للممرّضين الفلسطينيّين من أجل تلبية حاجات المستشفيات، في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الراهنة.
مسألة أخرى، تناولها الأحمد، تتعلّق “بضرورة استحصال الفلسطينيّ على إجازة عمل، على الرغم من وجوده الطويل في لبنان، وهذه الإجازة يرفضها الفلسطينيّون، حتّى ولو كانت غير مدفوعة الثمن، كونهم يعيشون في لبنان تحت مسمّى لاجئ مقيم، نحن لاجئون، لكن لا نميّز أنفسنا عن شرائح المجتمع كافّة”.
كانت فلسطين قِبلة التجّار اللبنانيّين
يروي الأحمد، كيف “كانت فلسطين قِبلة التجّار اللبنانيّين قبل العام 1948، لا سيّما بالنسبة إلى التجّار القادمين من جنوب لبنان إلى قرى شمال فلسطين كصفد، حيث كانوا يبيعون الأقمشة والموادّ الغذائيّة أو يقايضون بضائعهم. وكثر منهم عمل في ميناء حيفا، حتّى أنّ ميناء حيفا وميناء صيدا كانا “توأمين” حيث كانت تتمّ المصاهرة بين أبناء الطرفين في زمن سابق للتهجير”، في إشارة منه إلى وجوب عدم اشتراط وجود المعاملة بالمثل، كونه أمر غير قابل للتطبيق راهنًا.
واجه غالبيّة العمال الفلسطينيين التمييز القانونيّ، لجهة قطاعات العمل التي يسمح لهم المشاركة فيها، ما سبّب عيش كثرة منهم في قلّة مادّيّة وعوز، وهم لا يمكنهم مزاولة 73 مهنة في لبنان، من بينها، جميع المهن الحرّة
وبالرغم من كلّ القيود المفروضة، ساهم اللّاجئون الفلسطينيّون في سوق العمل والإقتصاد اللبنانيّ في آن، إذ لا يخلو منزل فلسطينيّ أو عائلة من عضو واحد على الأقل منخرط في سوق العمل، بتصريح أو من دون ذلك (عمل غير قانونيّ)، وفق ما يؤكّده الأحمد، ويضيف: “لم ننسَ، ولن ننسى بلدنا الأم فلسطين، لكن نحن نعيش في لبنان ولنا مشاركة فلسطينيّة في الاقتصاد اللبنانيّ، وعلى المسؤولين اللبنانيّين أنّ يعترفوا بهذا الأمر”.
الأزمة الاقتصادية أيضًا وأيضًا
على مدى السنوات الأربع الماضية، أكثر السنوات تأزّمًا وصعوبةً في لبنان، على مستويات مختلفة وأبرزها الاقتصاديّة، عاش الفلسطينيّون، كما غالبيّة اللبنانيّين والسوريّين، ظروفًا معيشيّة واقتصاديّة هي الأسوأ على الإطلاق في تاريخ لبنان الحديث، جرّاء الأزمات المتلاحقة التي مرّت بها البلاد، من انهيار للعملة الوطنيّة، وارتفاع أسعار السلع والخدمات كافّة، وفقدان الأدوية، وصعوبة الوصول إلى خدمات الطبابة، ما أضاف همًّا إلى همومهم المعيشيّة وزاد في صعوبات الحياة.
أمّا العمّال منهم، فكانوا الأكثر تضرّرًا، بسبب فقدان فرص العمل، وخسارة وظائفهم، واضطرار بعضهم لقبول العمل بأجور زهيدة منخفضة، وساعات عمل طويلة، وظروف عمل غير صحّيّة، وغير قانونيّة.
هذا ما تؤكّده إحصاءات “الأونروا” التي تشير إلى أنّ “الأزمة الاقتصاديّة في لبنان زادت نسبة الفقر الشديد والعيش تحت خطّ الفقر إلى 90 في المئة من مجموع اللّاجئين الفلسطينيّين، الذين يُقدّر عددهم في لبنان بنحو مائتي ألف لاجئ، وفق تقديرات الأمم المتحدة”.