اليد العاملة النسائيّة السوريّة.. عمود القطاع الزراعيّ بقاعًا خارج أحكام القانون
يقوم الاقتصاد المحلّيّ في البقاع بشكل عام، وفي بعلبك- الهرمل بشكل خاص، على عمود أساسيّ أوّل هو القطاع الزراعيّ. ويعتمد هذا القطاع على اليد العاملة السوريّة بشكل شبه كامل. وتلعب المرأة الدور الأبرز في ذلك، لكن اللافت، أنّ القاصرات من النساء العاملات، وحتى من الذكور القاصرين، يشكّلون الحيّز الأكبر من مشغّلي ومحرّكي هذا القطاع.
تعمل السوريّة “أمّ أسامة”، في الزراعة منذ الخامسة عشر من عمرها، بل شبّت على مهنة “المُزارِعة”، في بيتها وبيئتها السابقين، قبل الزواج وبعده، في سوريّا. وهي اليوم في لبنان، تحكي قصّتها وتفيض عن معاناتها وتكاد لا تنتهي. هي من مدينة حماه السوريّة، تعلمت الزراعة وأتقنتها منذ صغرها وتعوّدت على العمل فيها. شاءت الأقدار أن تحملها إلى لبنان مع بداية الحرب في سوريّا، فاختارت عائلتها الاستقرار في بلدة سرعين (بعلبك) القريبة من سهلها الزراعي منذ العام 2013، “ومنذ ذلك الوقت وأنا أعمل في الزراعة في لبنان مع أولادي” تقول أمّ أسامة.
قهر بظروف صعبة
حاليًّا، تجاوزت المزارعة أمّ أسامة الخمسين من عمرها (مواليد 1972)، وهي أمّ لثلاثة ذكور و5 إناث قدموا معها جميعهم من سوريّا. تزوّج منهم شابّان وثلاث من البنات، وبقيت اثنتان تعملان معها في الزراعة، في المهنة التي لم يزل يعمل بها أولادها المتزوجون، إنّما بشكل متفرّق. أمّا نشاط الوالدة والابنتين فيترّكز حاليًّا في أكبر سهول البقاع، “سهل سرعين” ويشتهر بزراعة البطاطا والبطّيخ.
في حديث لـ”مناطق نت” أكّدت أنّها كانت تتقاضى سبعة آلاف ليرة لبنانيّة عن يوم العمل الواحد قبل الأزمة الاقتصاديّة، أيّ ما يعادل خمسة دولارات أميركيّة “أمّا اليوم فإنّني أتقاضى مبلغ مئة ألف ليرة لبنانيّة مقابل كلّ خمس ساعات عمل، أيّ ما يتجاوز الدولار الواحد بقليل”. وتضيف: “ربّما يكون الأجر المتداول لليوم الزراعيّ في لبنان أكثر ممّا أتقاضاه، لكن عليّ أن أقبل بما يفرضه صاحب العمل هنا، أفضل بكثير من البقاء في البيت من دون عمل”.
الجدير ذكره أن ما قالته أم أسامة عن الأجر اليومي الذي تتقاضاه، لا ينطبق على أجور العمالة السورية النسائية التي تعمل في “السهل” (إشارة إلى سهل البقاع)، إذ تتراوح الأجور للعاملة بين 350 و500 ألف ليرة لبنانية.
مشكلة أمّ أسامة، التي آثرت عدم البوح باسمها الكامل “كي لا ينزعج أولادي الشباب”، ليس في خبرتها الزراعيّة وأقدميّتها ومكان العمل، إنّما بالسياسة الزراعيّة المتّبعة في مختلف المناطق اللبنانيّة، ليس في البقاع فحسب، إنّما في جميع السهول والحقول الزراعيّة الممتدّة بقاعًا وجنوبًا، التي جعلت أصحاب العمل وللفيض الكبير في اليد العاملة السوريّة، وخصوصًا من النساء، بما يتجاوز الحاجة المطلوبة، يتحكّمون بأجرة العاملات ويتسلّطون على قاعدة: “من لم يعجبها، فلتبحث في مكان آخر”.
تنتقد أمّ أسامة عدم مراعاة أصحاب العمل للظروف التي يمرّ بها العامل “إذ عندهم عمل 5 ساعات متواصلة في ظروف مناخيّة صعبة قد تصل الحرارة فيها صيفًا إلى درجة أربعين أو أكثر بكثير، مثل أيّ يوم عمل آخر، والأمر كذلك في أيّام البرد، وسط إصرار وصراخ من المشرفين أو أصحاب العمل، على الكدّ من دون راحة، حتى ولو لشربة ماء، لكي يؤمّنوا مبتغاهم، من دون مبالاة تجاه ما يكابده العامل من إرهاق وتعب”.
وتتابع: “لا تكفي مئة ألف ليرة لشراء ربطتي خبز، مقابل 5 ساعات من الكدّ المتواصل، بل وأكثر، إذ إنّ أيّ وقت يزيد على خمس ساعات في نهار العمل لا يُحتسب أبدًا، ومن أين يأكل المزارع؟ أعمل مع ابنتيّ بذات الأجر، ويكاد لا يكفي المبلغ الذي نجنيه ثلاثتنا لسدّ الرمق في ظلّ هذه الظروف الاقتصادية الصعبة والقاهرة”.
فوضى قانونيّة مقابل فيض العمّال
يبقى العمل في القطاع الزراعيّ في لبنان تحت خيمة الفوضى السائدة، خارج تنظيم قانون العمل اللبنانيّ، ما يجعله رهينة أرباب العمل من أصحاب المشاريع الزراعيّة الكبرى، أو من أصحاب الحقول مهما بلغ شأنها، وكأنّهم يستقوون على عمّالهم وهم في غالبيّتهم من السوريّين، بل من النساء السوريّات، من دون حسيب أو رقيب، بانتظار أن تكون للقطاع الزراعيّ في لبنان أحكامٌ وقوانين تلزم العمّال وأصحاب العمل، بل وتنصف العمّال والعاملات وتعطي كلّ ذي حق حقّه.
يبقى العمل في القطاع الزراعيّ في لبنان تحت خيمة الفوضى السائدة، خارج تنظيم قانون العمل اللبنانيّ، ما يجعله رهينة أرباب العمل من أصحاب المشاريع الزراعيّة الكبرى، أو من أصحاب الحقول مهما بلغ شأنها، وكأنّهم يستقوون على عمّالهم.
لم تكن العمالة السوريّة في القطاع الزراعي وليدة الحرب التي دارت في سوريّا منذ العام 2011، أو نتيجتها، بل هي حرفة قديمة، إذ إنّ طبيعة الريف في شرق سوريا أفضت إلى كمّ كبير من المزارعين والفلّاحين المهرة ومن ذوي الخبرة.
ومع شحّ المياه في الريف السوريّ، وتراجع المردود المادّي في القطاع الزراعيّ، ووفرة اليد العاملة بكمّ كبير، جعل من هؤلاء الريفيّين يبحثون عن أماكن بديلة وقطاعات زراعيّة تستوعب خبرتهم وتردّ عليهم ما يكفي قوت أيامهم. ومع تنامي قطاع الزراعة في لبنان نوعا ما، وتوافر المياه بشكل كافٍ أضحت المسحات الزراعيّة والسهول في لبنان الملاذ الأوّل لهؤلاء الفلّاحين.
في المقابل وجد أصحاب المشاريع والحقول الزراعيّة في لبنان أنّ اليد العاملة السوريّة أكثر إنتاجيّة وأرخص أجرًا من غيرها، فضلاً عمّا تتمتّع به من خبرات زراعيّة، ما شكّل الصورة الزراعيّة الغزيرة التي نراها اليوم في جميع سهول البقاع وحقوله.
ظلم وتعسّف في الحقول
تشوب عمالة النساء في القطاع الزراعيّ جملة من ممارسات الظلم والتعسّف والمعاناة، بحيث يغيب التنظيم والضمانات كليًّا عن هذا القطاع، إذ لا تشمله أحكام قانون العمل اللبنانيّ، المنظِّم للعلاقات بين العمّال والعاملات وأرباب العمل، والالتزام بالحقوق والواجبات التي تقرّها أحكام القانون، الأمر الذي أدّى إلى الإجحاف بحقّ العاملين المزارعين، وفي طليعتهم المرأة العاملة، فأضحت في موقع ضعيف ومهمّش ومستغِلّ.
واضحة الدوافع التي تجعل اليد العاملة الزراعيّة في سهول البقاع جلّها من النساء، ويعود ذلك إلى أنّ أجور النساء المزارعات أدنى من أجور الرجال والذكور، وكأنّ الأمر بات عُرفًا، والأسباب كثيرة، تأتي في طليعتها مجالات العمل المتنوّعة المتوافرة للرجال أكثر منها للنساء، ما جعل محدوديّة الإنتاج عند النساء العاملات في قطاع الزراعة أكثر منه في أيّ قطاعات أخرى.
تضاف إلى ذلك البيئة المسحوقة جدًّا، التي تعيشها المرأة السوريّة وبناتها هنا في لبنان، ولكي تكون منتجة ترضخ تارة من تلقاء نفسها إلى الشروط المجحفة الموضوعة من قبل أرباب العمل وأصحاب المصالح وتسلّطهم، تجاه النساء العاملات، والقبول بالأجر القليل، في موازاة حاجتها للعمل، بغضّ النظر عن الأجر القليل أو الصعوبات التي قد تعترضها، وتارةً أخرى تبدأ من داخل أسرتها التي تدفع بها إلى العمل في سنّ مبكرة، وتكون مجبرة على ذلك وملزمة من قبل والدها أو والديها، ثم من قبل زوجها، ما يجعلها تتعوّد على العمل في أيّ ظروف صعبة وأجور قليلة أو هامشيّة.
لو أتيح لأمّ أسامة ترك العمل “لما تردّدتُ، لكنّنا نحتاج إلى هذا العمل كي نعيش، حتّى لو كان فيه نوع من الإجحاف والقهر. أتمنّى لو يبادر أصحاب العمل إلى رفع الأجرة قليلًا حتى نشعر بقليل من الإنصاف والعدل وأنّنا نعمل بمستحقّ تعبنا” تختم.