اليوم العالميّ لحقوق الإنسان تهديد ووعيد بين الضحك والإيمان

“السخرية من الله ليس تجديفًا” (البابا فرنسيس).

بالتزامن مع جولة الحبر الأعظم البابا لاوون الرابع عشر في تركيّا ولبنان وفي خضمّ أحداث ومناسبات متلاحقة، عادت قضيّة الكوميديّ ماريو مبارك إلى الواجهة، لتفرض نفسها مجدّدًا في النقاش العام حول الحرّيّات.

منذ أسابيع، أثار مقطع من “ستاند أبّ” كوميدي قدّمه ماريو مبارك، موجة غضب واسعة وصلت إلى التهديد بالقتل، وذلك بسبب نكتة تتعلّق بقيامة السيّد المسيح، وأدّت إلى انقسام في أوساط الرأي العام بين مؤيّد ومعارض. على أثر ذلك استدعي مبارك إلى التحقيق، بموجب دعوة قضائيّة بتهمة الإساءة إلى المقدّسات الدينيّة. ولدى وصول ماريو إلى مطار بيروت قادمًا من كندا، أفادت معلومات أنّ الأمن العام اللبناني قام بمصادرة جهازه الخلويّ وجواز سفره وأوراقه الثبوتيّة.

من جهته برّر مبارك موقفه إزاء هذا الهجوم، مؤكّدًا أنّه تمّ تداول المقطع خارج سياقه الأساس، معترفًا أنّ المسيحيّة هي الديانة التي نشأ عليها، وتعلّم في مدارسها، وهي الأساس الخام التي بنى عليها شخصيّته وحياته، وبالتالي هذا ما دفعه إلى وضع طرافته ضمن هذا السياق، دون القصد بالتجديف في السيد المسيح.

 حول حرّيّة الرأي والتعبير

تتمتّع حقوق الإنسان بقيم معياريّة عليا، تتجاوز حدود الدولة وإرادتها، فمعاهدات الحقوق موجّهة إلى الفرد لحفظ كرامته تحت مبدأ “الإنسان غاية في ذاته”، وهو الشعار الذي اشتهر به الفيلسوف إيمانويل كانط. بالتالي، تعتبر الحقوق عالميّة، تقوم على القيم المتأصّلة في الطبيعة الإنسانيّة وتتخطى النطاق المحلّيّ الخاص.

في الـ 10 من كانون الأوّل (ديسّمبر) نحتفل باليوم العالميّ لحقوق الإنسان لنؤكّد ضرورة الوقوف برهة أمام التساؤلات التي يطرحها موقع “الإنسان” وصيروته داخل الإطار الحقوقيّ والقانونيّ في لبنان، وسط تحوّلات متغايرة ومتبدّلة تشهدها البلاد في الآونة الأخيرة.

تُبنى المجتمعات العادلة على التزام سياسيّ دوليّ بتطبيق معاهدات حقوق الإنسان، وفق تحفّظات البلاد وسياساتها. وبالتالي فإنّ المساس بأيّ حقّ من هذه الحقوق، يشكّل مخالفة صريحة للمعايير الدوليّة، وربّما يضعف من نطاقها وفعاليّتها.

حريّة التعبير

من هذا المنطلق تبرز حرّيّة التعبير كأحد أهم المرتكزات التي يفترض أن تصان، فقد نصّت المادّة الـ 19 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان على أنّ “لكلّ شخص حقًّا في حرّيّة الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقّ حرّيّته في اعتناق الآراء من دون تدخّل، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقّيها ونقلها إلى الآخرين بأيّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”.

تقع حرّيّة التعبير ضمن الحقوق المدنيّة والسياسيّة التي تطلب من الدولة الامتناع عن التدخّل (لا تقييد للرأي، لا اعتقال تعسفيّ…). وفي هذا السياق تحديدًا، يبرز السؤال الأبرز عند التطرّق إلى قضيّة الكوميديّ ماريو مبارك، إلى أيّ مدى ما زالت حرّيّة التعبير محميّة حين تتحوّل الأعمال الفنّيّة أو الساخرة إلى موضوع مساءلة يطال صاحبها؟

من خصائص حقوق الإنسان أنّها عالميّة لكنّها قابلة للتقييد، فبعض الحقوق ليست مطلقة كحرّيّة التعبير

بعد النكتة التي اعتبرها بعض اللبنانيّين نكتة مجحفة بحقّ الدين المسيحيّ، تعرّض مبارك إلى حملة واسعة على مواقع التواصل الاجتماعيّ استندت إلى المادّتين 473 و 317 من قانون العقوبات اللبنانيّ التي تتعلّق بالإساءة إلى الأديان السماويّة وإثارة النعرات الطائفيّة والإهانة العامّة. وصلت الحملة إلى عنف رقميّ ظهر بفيديوهات تحتوي على سنّ السكاكين والتهديد بالقتل المباشر، ما جعل مدير المركز الكاثوليكيّ في لبنان عبدو أبو كسم يطالب باتّخاذ إجراءات عقابيّة قانونيّة بحقّ مبارك على خلفيّة هذا المقطع.

بحسب حقوقيّين، فإنّ مفردات القانون غير محدّدة بدقّة، فهي واسعة تترك للجهات التطبيقيّة مجالًا رحبًا لتفسيرات متعدّدة خصوصًا تجاه عقوبات بحقّ كلّ من يثير النعرات المذهبيّة أو الحثّ على النزاع بين الطوائف، دون تعريف دقيق لمفهوم “إثارة النعرات” وبالتالي لا يحدّد حدود الجرم. هذا الأسلوب الفضفاض يستغلّ أحيانًا كوسيلة عقابيّة ظالمة بحقّ الفنّانين والكوميديّين والصحافيّين، حيث يمكن تصنيف أيّ سخرية أو نقد على أنّه “جدف” دون تحديد واضح.

بين التعليق النقديّ والقانون

من خصائص حقوق الإنسان أنّها عالميّة لكنّها قابلة للتقييد، فبعض الحقوق ليست مطلقة كحرّيّة التعبير. ووفقًا لمعايير حقوق الإنسان العالميّة، المقياس الوحيد المقبول لتقييد هذا الحقّ، هو منع خطاب الكراهيّة والتحريض على أساس العنف أو التمييز.

لذا، في سياق قضيّة ماريو وغيره من الكوميديّين والفنّانين ممّن سبق ووُجّهت إليهم أصابع الاتّهام بالجرم نفسه، يطرح النشطاء أسئلة مهمّة حول حدود حرّيّة التعبير في الكوميديا والفنّ الساخر، لأنّ الكوميديا تطلب حرّيّة كاملة في التعبير لتتمكّن من أداء دورها الطبيعيّ، بخاصّة في نقد المجتمعات وإبراز المبالغات والمفارقات بطريقة فكاهيّة، فهي قول ما لا يُقال بأسلوب مرح، ما يجعل الفنّانين الكوميديّين والممثّلين، وحتّى صناع المحتوى وغيرهم، يخشون من أن تتحوّل كلّ نكتة أو تعليق نقديّ إلى مادّة قانونيّة تحت بند الإهانة أو “الجدف” على رغم أنّها لا تتضمّن خطاب كراهيّة.

الضحك وسط الكآبة

إنّ القوانين الطبيعيّة منذ القرون الوسطى، مستمدة من العقل الانساني الذي يعكس الارادة الالهية والقانون الالهي، من هنا تنشأ للإنسان كرامته وحقوقه الجوهرية. كما أن القانون لم يُسنّ أبدًا لحماية الأديان، فالله غني عن أي حماية بشرية. يمكننا أن نحب الله ونؤمن به دون أن نخاف، فعندما نكون في حضن محبة الله، نشعر بالحرية لنمزح ونضحك، فمحبته لا تكبتنا بل تحررنا حتى نصل اليه.

في مسرحية ” فيلم أميركي طويل” لزياد الرحباني التي عرضت عام 1981 يدور هذا الحوار:

-دخلك هيدي عندكن اللي بيلزقك ع الأيمن بدرلو الايسر؟
-ايه نعم
-طيب و اذا عاد لزقك ع الايسر شو بتعمل؟ قايلين شي؟
-لا ما قايلين بس اجمالا بترجع ادرلو الايمن
-حلو يعني بيقظيها كفوف كل النهار
-ايه بس بيطلع ع الجنة
-و الله؟ وضروري يطلع مورم ع الجنة؟

“إنّ الضحك مع الله ليس تجديفًا” هذا ما قاله البابا خلال لقائه بأكثر من 100 فنان كوميدي من جميع أنحاء العالم في الفاتيكان، مشجعًا إياهم على استخدام موهبتهم القوية في الفكاهة لنشر الضحك وسط الكثير من الأخبار الكئيبة.

وسأله أن يمنحه “حسًا فكاهيًا جيدًا”، قبل يتوقف الحبر الأعظم “عند سفر التكوين الذي يخبرنا أن الله وعد إبراهيم بنسل له، بيد أن زوجته سارة ضحكت في نفسها عندما سمعت أنها ستُنجب طفلاً بعد سنة. وهذا ما حصل فسمّت ابنها إسحاق”، أي “إنه يضحك”. وأكد البابا في هذا السياق “أن الضحك مع الله ليس تجديفاً، إنه يأتي من باب المزاح، تمامًا كما نلعب مع الأشخاص الذين نحبهم”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى