انتهت الحرب واستيقظت أخيرًا

زعتر أرجوك كفّ عن المواء، وأنت أيضًا يا بيسكت، أرجوكما دعاني أنام قليلًا بعد.

منذ نهاية الحرب وأنا أشعر صباح كلّ يوم برغبة عارمة تقبض على عينيي للاستمرار في النوم. لا يهمّ أقول لنفسي، لا بأس بغفوة عميقة أخرى. لكنّ إحساسي برمق أعينهما الحائرة والجائعة، كان يشعرني بذنب رهيب وتعذيب ضمير.. كيف أطعم كائنين وأنا لا أستطيع حتّى إطعام نفسي؟

في الصباح الباكر أريد أن أفعل أشياء كثيرة، لديّ قطط عليّ اطعامها في تمام الساعة الثامنة صباحًا، يمكنني أن أتأخّر نصف ساعة بالكثير. ركوة القهوة تبيت في المجلى منذ ثلاثة أيّام، ينبغي أن أقوم بجليها أوّلًا قبل أن يتسنّى لي إعداد القهوة. آه نعم، عليّ أيضًا أن أشعر ببعض من الهدوء الذي يجتاح العالم صباحًا لكنّ الحرب علّمتني أن أخشى الهدوء.

أعمل في مجال كتابة الإعلانات، وهذا أمرٌ سيّء آخر ينبغي أن أستيقظ لمواجهته، لا أريد كلّ هذا، لكن لم أقرّر بعد أنّني لا أريد كلّ هذا. أحتاج لأن أكتب باللغة العربيّة أشياءً لا تكتب باللغة العربيّة، هذا هو عملي. أضحك على اللغة كي أخترع معنى لأشياء لا معنى لها. في الحقيقة أشعر بأنّني أضحك على نفسي، وكلمة ضحك هنا أستعملها كي ألتفّ على المنطق اللّغويّ الذي لا يعرف الفرق بين “أضحك على” و”أسخر من” لكنّكم ببساطة تعرفون ما أقصد.

ألم في الخاصرة

زرعت الحرب في خاصرتي ألمًا غريبًا لم أجد له أيّ تفسير منطقيّ سوى أنّني أشعر به في خاصرتي. كنت أصفه بأنّه شيء يشبه الحبّ في القلب والبرد في اليدين٬ شيء لا يمكنني رؤيته لكنّني أشعر به بشدّة. فهمت لاحقًا ما لم أفهمه في صغري٬ كيف يحدث أن تقتلنا الحروب من دون أن تقتلنا وتزرع فينا أضرارًا جانبيّة نمّيناها لحاجتنا الماسّة إلى النجاة من موت لا يقتل الجميع، بل يتركهم لاحقًا نيامًا يحاربون أنفسهم.

الألم هو اللغة الوحيدة التي يعرف الجهاز العصبيّ الاستعانة بها، هو نداء استغاثة مشفّرة. في الحروب يتأقلم الجهاز العصبيّ على شروط عيش قاسية يصعب عليه العودة عنها بعد انتهاء كلّ شيء. تعلّمت أنّ التحليل النفسيّ يفشل أمام تلك الشروط، إذ إنّ التفكير يصبح محصورًا بمحاولات النجاة والاستغاثة المشفّرة.

النوم هو الاستجابة الأمثل للحروب، أو بتعبيرٍ أدقّ، النوم المفرط هو استجابة مُثلى للموت. موتٌ صغيرٌ هو هذا النوم يخدم عدم رغبتي المضنية في التفكير ويُلزم نفسي الخضوع إليه، لكن ربّما يكون مخلوق النوم هذا بريئًا من جميع ذنوب حياتي.

يبحث النائم في نومه عن إجابة لجميع تساؤلاته، وربّما يكون قد وجد الإجابة بالفعل وغرق فيها كأنّها خلاصه وخُلاصته. من لا يبحث عن حقيقة يستيقظ، من يبحث عنها ينام. الانتظار هو الإجابة الحقيقيّة للوجود، في المنام لا يوجد زمن، بل يوجد بحرٌ من الإجابات تسبح خارج الوقت. الملل من انتظار الموت، تلك هي الإجابة حقًّا أليس كذلك؟

النوم كالموت

المنام هو إبقاء على احتياطيٍّ من الخيال حتّى ولو على حساب تحرير كوابيس الحرب. لا أعرف إن كانت عبارة “صباح الخير” ملائمة حقًّا لواقعٍ سيّء ومثير للشكّ والريبة طوال الوقت. النوم كالموت، شديد الوضوح. إنّه ثورة على جميع قوانين الحياة٬ إنّه سلطان بلا قوانين ولا رحمة. النوم هو فعل ضدّ القانون، هو رفض صامت شديد اللهجة أكثر من كونه استسلامًا. عندما تعجز اللغة عن تهجئة الرفض يأتي النوم كي يسحبك بعيدًا من الوقت، لعلّها تموت المشكلة من غير أن تضطرّ إلى مواجهتها. هو حلّ جذريّ يشبه الانتحار: عندما تموت تختفي مشاكلك. الإجابة هي في الانتظار، في عزلة الزوال. ثمّة حتمية لا ريب فيها في الزوال، رحلت وانتهى الأمر، أغلقت الباب على العالم إلى حين أن يقتصّ الموت من الجلّادين والغرقى معًا.

أعرف أنّه ينبغي على الحياة أن تبدأ في لحظة ما، حتّى لو بدأت متأخرة، حينها سأعيشها وحدي، بعد أن يغرق الجميع بهموم الواقع، وبعد أن يحتسي آخر شخص آخر كوب قهوة متأخّرًا سأكون قد جلست على كرسيّه من بعده، سوف أتناول الفطور في وقت الغداء، والغداء في وقت العشاء. أسأل الله ألّا يطرق بابي جابي الكهرباء المقطوعة والأرواح المكسورة باكرًا. “تعال في الظهيرة” ربما أطبع تلك العبارة وأعلّقها على باب الشقة.

لكن متى تبدأ الحياة تحديدًا؟ أعندما تُشرق الشمس، أم عندما أقرّر أنا ذلك؟ ليت الشمس تشرق عندما أقرّر متى يبدأ النهار، لكنّني لست إلهًا. الآلهة لا تملك شكوكًا، وأنا كلّ حقائقي هي شكوك. لو أنّني بارعٌ في الإيمان بالأشياء لما قرّرت أن أصبح كاتبًا أو أن أتبنّى قططًا. القطط تغذّي شعوري المستمرّ بالذنب تجاه نفسي، والذنب يغذّي اعترافي به من خلال الكتابة. أرتدي ثيابًا سوداء طوال الوقت كي أخفي جميع تلك الأحاسيس، لكنّ شعر القطط يظهر بوضوح على الثياب السوداء مثل الخطايا، تلك هي طريقتي الخاصّة في طلب النجدة وقول الأشياء.

أنام ثمّ أستيقظ لأكتب، ومن ثمّ أعيد الكرّة من جديد، يا له من تمرين لا يفضي إلى شيء.

أكتب كشخصٍ يسير في منام، لا مكان لكتابته ولا زمن، أكتب كلّ ما أشعر به وكأنّني في دوّامة داخل أخرى، وكلّ شيء فيها ينفجر في وجهي مثل نور الصباح. يؤلمني هذا الصباح الباكر. يخيفني هذا الهدوء، عندما يسكت كلّ شيء لبرهة من الوقت، حينها يتّسع الفراغ وتنعدم المخيلة.

أحدّق بالشاشة كأنّها مرآة تحدّق بي، أكتب ما يظهر فوقها قبل أن يُكتب. كلّ شيء قيل بالفعل، الجرأة الحقيقيّة تكمن في إعادة كتابة الأشياء وإعمارها تمامًا كالبيوت المهدّمة. الكتابة هي حربٌ مستمرّة مع الذات، والنوم هو مرآة تلك الحرب والشاهد الوحيد عليها.

أرتاح في الكتابة على هاتفي معظم الوقت أكثر من النقر على أزار الحاسوب العملاقة، إذ لا أحبّ أن أكون حرًّا إلى ذلك الحدّ. الشاشة الضيّقة والصغيرة تسمح لي بالانفجار كما يحلو لي كزنزانة فرديّة ضيّقة.

في ما مضى ابتلعنا حرب تمّوز (يوليو) جميعًا كما يحدث أن تبتلع أرضٌ خالية صواريخ لم تصب أهدافها. حينها تعلّمت ماذا يعني أن تترك بيتك وتهرب. الهروب كان جريمة الحرب الأولى قبل أن نعتاد عليه ويصبح قدرًا ذاتيًّا نرحل إليه بلا إدراك لمعناه المبطّن. لاحقًا انتهت الحرب في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وبدأت في داخلي، أذكر كيف اجتاحني شعورٌ شديد بالفرار. أردت أن أهرب من البيت مرارًا، لكنّني لم أعرف كيف أفعل ذلك، لذا كنت أُحكم إقفال الأبواب خلفي في كلّ غرفة أدخل إليها. كنت أهرب إلى داخل البيت وأغلق الباب على نفسي من الداخل، هكذا كنت أواجه الأمور، أحكم الإغلاق على زنازين اخترعتها بمخيّلتي. والآن كلّ ما أعرفه عن الحرّيّة تعلّمته من الأبواب المقفلة.

في شارع الرادوف رأيت كيف خرجت أحشاء المقبرة إلى الأرض، كطفل ولد لتوّه ملطّخٌ بدماء أمّه.

قمت بزيارة الضاحية بعد الحرب، لأنّ مراقبة الحياة لا تكلّف شيئًا. عبرت بمحاذاة مقبرة الرادوف، وإذ بي رأيت سيّدة تجلس داخل المقبرة، شعرت حينذاك بلهفة أن أقول لها: صباح الخير.

دخلت إلى المقبرة. “صباح الخير، هل لديك أحبّة هنا؟” سألتها. أخبرتني أنّها تجلس بين ثلاثة أو أربعة أفرادٍ من عائلتها وقد باتوا غرباء بعد أن بُعثرت قبورهم وأسماؤهم. “جئت إلى المقبرة لأنّني لم أعد أملك شيئًا لأخسره بعد الآن”، قالت. تبدو الخسارة سببًا كافيًا لكي يتجوّل شخص ما بين الأموات عوضًا عن الأحياء، أفهم ذلك لأنّني مثلهم لا أعرف متى أو كيف أستيقظ أيضًا.

أشعر بأنّني أطيل النوم لأنّه باتت هناك مسافة كبيرة بيني وبين اللّغة ولأنّ الكائن النائم لا يقول شيئًا إلّا من خلال عجزه، يغرق في لغة المنام كلّما ازداد العالم قسوة. ينام النائم لكي لا يقول شيئًا، لأنّه أحيانًا لا يمكننا أن نقول كلّ شيء إلّا من خلال صمت النوم، وثمّة في ذلك طلب نجدة مُضمر. عندما أعجز عن توظيف اللغة للتعبير عن أشدّ مشاعري قوّة ووضوحًا فذلك يعني أنّني أعجز من أن أفكّر حتّى بمصيري. لا أريد أن أنشئ محادثة مع أيّ أحد، يكفيني أن أسأل قطّيي إذا ما كانا جائعين على الرغم من معرفتي شديد المعرفة بأنّني تأخّرت كثيرًا عن موعد إطعامهما وأنّني تجاهلت جميع تصرّفاتهما للتعبير عن جوعهما مثل المواء المستمرّ أو محاولتهما إيقاظي من خلال القفز فوق رأسي. أغار منهما لأنّهما يستطيعان فعل كلّ شيء لطلب النجدة بعكسي تمامًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى