بآلام المخاض تذكّرتُ نساء غزّة وأمّهات موجوعات بصمت

عندما انتابتني آلام المخاض ليلًا، وكنت وحدي مع ابنتي ذات السنتين ونصف السنة، تذكرتُ وحدةَ النسوة ممّن فقدنَ أزواجهنّ وأهليهنّ. تلك الوحدة لم تدم طويلًا فما أن مددتُ يدي إلى هاتفي، حتّى أتى أهلي وزوجي وكانوا إلى جانبي. لا أدري لماذا في تلك اللحظة بالذات، تذكّرت الوحدة التي تعاني منها نساء غزّة، اللواتي يعاقرن آلام الولادة وحدهنّ، ولا يملكن رفاهيّة التوجّع وحتّى البُكاء، وفي ظروف بائسة يلدن أجنّتهنّ نائحات في صمت مُمدّد..
كانت الولادة طارئة، أخذوني إلى غرفة العمليّات، كانت الطبيبة النسائيّة والممرّضات وطبيب التخدير، كلهم مجتمعين، وعندما غُرزت إبرة التخدير في أسفل ظهري شُللت وانتابتني رعدةٌ مؤذية، وضاق نفسي فوضعوا لي “أوكسيجين”، وكانت التطمينات تتهافت عليّ ومن حولي، وفي أثناء ذلك فصلوا بين أعلاي وأسفلي بستارة كي لا أشهد المشرط وهو يشقّ بطني، فأتوجّع نيابة عن الإحساس.
في تلك الأثناء لم تغب غزّة عنّي بمآسيها وأوجاعها، كانت مُمدّدة إلى جانبي على السرير، تشهد ولادتي وأشهد آلامها، إذ كثير من المطوّلات والمقاطع المصوّرة ونشرات الأخبار والتقارير الصحفيّة، ولم يوقف أحد المجزرة!

وحشة مستشفيات غزة
قالت رئيسة مكتب صندوق الأمم المتّحدة للسكّان في غزة، بعد زيارة مستشفى الأمل: “لم تعد المستشفيات أماكن للأمل، ولا للمأوى أو للرعاية.. لقد وصلت غزّة إلى نقطة الانهيار..”.
تذكّرت وحشة المستشفيات في غزّة وفي حروب العالم، وكيف تواجه النسوة المُقبِلات على الولادة مغصهنّ وآلامهنّ ودمهنّ السائل وحدهنّ، ولا يحظين بفرصة أن يرعاهنّ أحد، فالكلّ منشغل بتطبيب الكلّ، والطاقم الطبّيّ وإن وُجد فهو ناقص عديده، فلكل ممرّض منه عشرات بل مئات وأكثر من الجرحى وفاقدي الحياة.. فكيف أحوالهنّ؟ “مع الظروف الصعبة التي تواجه الحوامل في غزّة مع احتمال الولادة من دون تخدير أو تدخّل جراحيّ أو احتياطات صحّيّة..”.
كنت ممدّدة ولا أشعر بشيء وانتهى الأمر وبات طفلي بين يديّ جميلًا معافى، “وفي أحد مراكز النزوح بمدينة رفح جنوب القطاع، تقف السيّدات في طابور ينتظرن أدوارهنّ لدخول دورات المياه”.
كثيرة هي المشاهد التي تحوّلت إلى جُرع تخدير لم يعد يتعامل معها العالم كحادث مقلق أو كمأساة تحدث. في أحد المقاطع المصوّرة، سيّدة غزّاويّة تبكي وحيدها، يحاورها شابٌ يوثّق المقطع بكلّ أحزانه “كان حنونًا عليّ” تقول المرأة المضرّجة بالدموع والبؤس، ويقول لها الشاب محاولًا مواساتها “نحن كلّنا أولادك..”؛ ولكن لا شيء يشفع لنا احتمال بكائها وحدتها ووحيدها الذي ادّخرته إلى يوم عجزها.. فأعجزها موته..
كنت ممدّدة ولا أشعر بشيء وانتهى الأمر وبات طفلي بين يديّ جميلًا معافى، “وفي أحد مراكز النزوح بمدينة رفح جنوب القطاع، تقف السيّدات في طابور ينتظرن أدوارهنّ لدخول دورات المياه”.
“يا سيّد مهدي يا حبيبي”
يلتقي الصحافي محمّد فرحات، بسيّدة جنوبيّة تخبره أنّها آتية من البقاع إلى الجنوب للبحث عن جثمان ولدها الشهيد: “أنا جايي شوف ابني، ابني ما بدا أثر من جسمه، نال الشهادة”. وبحسرة تعلوها عبارات الكرامة والتصبّر “إذا بنلاقي شي منّه كثّر خير الله وإذا لأ كمان…”. وعندما يسألها عن اسم ابنها تجيب: “سيّد مهدي الموسويّ من النبي شيث”.
وفي مشهد لاحق، تجثو تلك السيّدة أمام ركام منزل مهدّم، وأمامها بدلة وفي يدها هويّة ابنها، تخاطبه: “يا سيّد مهدي يا حبيبي.. والله العظيم عليك.. قد ما لِهب قلبي نار كون نايمة إجي واقفة”. بقيَ صوت السيّدة يغرفُ الحزن من قلبي وقلوب كثيرين، صوت المرأة وهي تنادي ابنها: “يا سيّد مهدي..” وعلى الرغم من ظاهر الثبات والقوّة، إلّا أنّ صوتها المليء بالدموع حتّى جفاف نبع مآقيها، يكفيه ما فيه من تعب القلق والأرق والتصبّر، وليالي التحسّر، على الابن الغائب البعيد.
ردوا سالي لأمها!
تختبر الأمّهات آلامًا كثيرة، منها ألم الانفصال عن طفلها، وهذا الألم يحدث لدواع وظروف عديدة، منها ما هو طبيعي ّوضروريّ، كالذهاب إلى زيارة تحول دون مرافقة الأم، أو الذهاب إلى المدرسة وغيرها من أسباب منطقيّة، ومنها ما يكون خارج إرادة الأم، بل اغتصاب لحقّها في الحضانة، تحت مرأى القانون والحُكم الشرعيّ أحيانًا، ووفوق إرادة القانون بكلّ اشكاله أحيانًا أخرى.

في موقف يتحوّل فيه الأب والأم إلى عدوّين، تكون الإرادة فيه للأقوى والأقدر، ويكون الضحيّة دومًا الطفل، وهنا نتذكّر بكائيّات كثير من أمّهات ومنهنّ الكاتبة والصحافيّة بادية فحص، ومنهنّ أيضًا عذاري عبّود، التي يطالعنا منشور لها على صفحتها في فيسبوك من وقت لآخر وهي تتحسّر وتبكي اشتياقًا إلى ابنتها التي أُبعدت عنها.
تحت وسم “ردّوا سالي لأمّها”، نقرأ وجع أُمّ حرمت من طفلتها، بعدما استفرد الأب بحقّ حضانتها، في مخالفة واضحة لكلّ الأعراف والخلق والقانون، من دون محاسبة، تقول عذاري: “حاولت رجّعك بكلّ الطرق بسّ ما قدرت، الظالم كان فوق القانون والأخلاق والشرع”. وتقول كذلك: “إذا كبرتي ونسيتي، اعرفي إنّك كنتِ تحبّي خيّك كتير وانت اخترتيله اسمه ولقبه”؟
الخوف أكبر من الحبّ
ألّا تشفع لك أوجاعك حضانة طفلك فهو أقسى من الوجع بحدّ ذاته، وهل بحجّة الدين والحقّ الشرعيّ تُضارّ والدةٌ بولدها، وتُحرم أُمٌّ من أمومتها؟ “… من بعد 24 ساعة طلق ضمّيتك لحضني ونسيت كلّ الوجع، صرلي من الصبح قلبي عم يوجعني بعتت رسالة لطليقي.. بعثت رسالة لأخوه وخاله.. وما حدا منهم ردّ”.
أن يُصبح الخوف أكبر من الحُبّ هو المأساة بعينها: “رحت ع مدرسة بنتي.. لمّا شافتني صارت تبكي وترجف وتطلب منّي إنّي إرجع مرّة ثانية وقت يكون أبوها موجود.. مفهّمها إنّو ممنوع عليها تشوفني من دونه”.
مثل عذاري كثيرات في بلادنا التي لم تتطوّر فيها القوانين لتراعي الحقّ الإنسانيّ، ومثلها كثيرات حُرمن من أبسط حقوقهنّ..
يا نساء العالم انتفضن، على الحرب وعلى القهر وعلى كلّ صوتٍ ينتقص من أمومتكنّ ومن أنوثتكنّ ومن حقّكنّ في أن تكنّ حُرّات.
في السودان تُغتصب النساء جزافًا، وفي كثير من بُقع العالم النائي عن السمع والصورة تموت النساء ويُحرمن من أبسط احتياجاتهنّ في الحصول على الرعاية الصحّيّة، وفي غزّة تصرخ سيّدة في وجه من يقوم بتصوير مآسايهم “لمين عم تصوّر؟”؛ وأُردّد معها حقًّا لمن؟ من سيفعل شيئًا؟ من سيُنقذ غزّة ويطبطب (يربت) على قلوب الأمّهات والنساء المكلومات في لبنان وسوريّا؟ ولألفِ سببٍ وسبب من سيُواسي القلوب المكسورة ويعيد الحقّ إلى أصحابه ولو بعد حين؟!