بائعو الصحف الورقية في بعلبك: حكايات حيّة عن موت مهنة

من الصعب أن تجد بعلبكيّاً “أصلياً” لا يعرف “مكتبة الأحمر”، وأن لا يكون قد زارها ولو مرة واحدة من أجل هدف معيّن. وإذا كنا ذكرنا مسألة الأصالة، فلإن الوافدين الجدد، ممن نزحوا إلى بعلبك منذ عقد أو في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، لا علم لدى معظمهم بتاريخ المكتبة، وبعصرها الذهبي، وليسوا من هواة قراءة الصحف الورقية. هذه الملاحظة ليس من شأنها أن تسيء إلى أحد، بل هو رأي موضوعي تماماً يعكس واقعاً قائماً منذ زمن غير قصير.

وكي نكون منصفين، وأقرب إلى الواقع قدر المستطاع في كلامنا هذا، فلا بد من الإشارة إلى أن عدم الإهتمام بالصحف الورقية وبالكتب ينسحب على الجميع من دون استثناء، ليس على صعيد المدينة فحسب، بل على صعيد الوطن كلّه. لم يبقَ سوى قلة قليلة من الخليقة تولي الصحيفة والكتاب تلك المكانة التي كانت لهما في الماضي، ثم ضاعت مع مرور الوقت، وتغّيرت الإهتمامات بفعل عوامل وظروف معروفة من الجميع، ولا تخفى على أحد.

منير علي الأحمر أمام مكتبته

المكتبة تغيّرت بدورها، وصارت تحوي بضاعة أخرى مختلفة عن السابق، قوامها الكتب واللوازم المدرسية على أنواعها، إضافة إلى “ستاند” ترتاح عليه بعض الصحف، وقد تستمر راحتها طوال اليوم. هذا الحكم ينطبق على مكانها الأصلي، الذي يديره الآن منير علي الأحمر، إبن مؤسس المكتبة، ولا يبعد هذا المكان سوى أمتار معدودة عن المنطقة الأثرية الرومانية. هذا الموقع كان دائماً مناسباً ومميّزاً، نظراً لاعتباره جزءاً من المنطقة الأجمل في المدينة، فهذه لم تطاولها المتغيّرات المعمارية، التي عصفت ببعلبك، وأطاحت بالكثير من وجهها التراثي إلى غير رجعة.

أما الفرع الآخر للمكتبة، الأحدث زمنياً من الأساسي، فيقع في الشارع المتفرّع من ساحة السراي بإتجاه الشمال، وهو يضمّ بدوره لوازم مدرسية، وصحفاً وكتباً محددة من النوع الرائج، أو دوريّات منتقاة يعرف أصحاب المكتبة أنها لن تكسد لديهم، وتُعاد بعد كسادها إلى مصدرها.

ثمة أشخاص محددون يقصدون هذا الفرع الأحدث زمنياً. أما الفرق بين الفرعين، القديم والجديد، فشاسع لناحية العلاقة بالتاريخ والذكريات. فالمكتبة التي أسسها وفتح أبوابها أبو عدنان علي الأحمر، ذات يوم من أربعينيات القرن الماضي، خلال فترة ما بعد الإستقلال، كانت شهدت أموراً وحوادث كثيرة، علماً أن هذه الحوادث إتخذت طابعاً محلّياً، إختلطت فيه السياسة بالثقافة وبالأوضاع الإجتماعية.

ما زالت بعض الصور راسخة في ذهني، خلال مراهقتي، قبيل الحرب الأهلية اللبنانية، حين كنت أرى قرّاء الصحف والمجلات، المهتمين بأمور الثقافة وشؤونها، مجتمعين في المكتبة خلال فترات الصباح، وهم يتصفّحون الجرائد، ويتجادلون في اوضاع البلد والسياسة.

مكتبة الأحمر والفنان رفيق شرف

كانت تلك الزاوية الهادئة مكاناً أثيراً ومرغوباً من أجل لقاء من دون موعد مسبق، وخصوصاً خلال ذلك الزمن الذي تُطلق عليه الآن صفة “ذهبي”، وهي الصفة التي لا يغيب عنها طيف النوستالجيا العميقة إلى الماضي الجميل، وهو الشعور الذي ولّده الإنهيار القائم وتعقيدات الأيام الحاضرة وموبقاتها.

ولعل من أبرز الذكريات، التي لم أشهدها شخصياً لكنها رُويت على مسامعي مراراً، أن الفنان المعروف رفيق شرف كان علّق أعمالاً له، بداية خمسينات القرن الماضي، على جدران المكتبة، وكان حينذاك في بداية شغفه بالرسم، قبل أن يدرس أصوله ومبادئه أكاديمياً. زار المكتبة، في أحد الأيام، لطفي حيدر، الكاتب والشاعر البعلبكي المعروف، الملم بأمور الثقافة والفن، فأعجب باللوحات الصغيرة المعلّقة، ورأى لدى رفيق شرف إستعداداً للتطوّر، وموهبة واضحة في حاجة إلى الصقل، ما دفعه إلى تشجّيعه على سلوك هذا الدرب، وقدّم له يد المساعده في غير موقع.

الفنان المعروف رفيق شرف كان علّق أعمالاً له، بداية خمسينات القرن الماضي، على جدران المكتبة، وكان حينذاك في بداية شغفه بالرسم، قبل أن يدرس أصوله ومبادئه أكاديمياً

أمّا ما يتعلّق بي شخصيّا، فكم من مرّة أرسلني والدي إلى المكتبة لإحضار كتاب أو صحيفة، أو لموافاته هناك من أجل اصطحابي إلى سوق المدينة لشراء حاجيات متنوّعة، ومن ثم إيصالها إلى المنزل سيراً على الأقدام، إذ لم تكن السيارات، يومذاك، سوى كماليات غير متوافرة للكثيرين، ولم يكن الاستغناء عنها يتسبب في عوائق شديدة.

أبو كرم – سطوف

شغل أبو كرم خالد العصيدي زاوية رئيسية في سوق بعلبك، عند قدم بناء ذي طابع تراثي من الدرجة الثانية أو الثالثة، تكدّس فوقه في الزمن الحاضر إضافات خرسانيّة عارية بلا نوافذ، عند التقاطع المؤدّي من جهة الغرب إلى هياكل بعلبك، مروراً بمكتبة الأحمر، ومن جهة الشرق إلى منتزه رأس العين. أما الطريق السوي فيقود إلى ساحة القنايا، التي تمتلىء حاضراً، بسيارات “الأجرة” ذات الهياكل المتهالكة، مع سائقيها المتذمّرين دوماً، وأضيفت إليهم في الوقت الحاضر “حافلات” الـ “توك توك” الكثيرة، التي تتسبب بفوضى يصعب السيطرة عليها.

أبو كرم (سطوف)

كان القادمون إلى المدينة، وبعد تجاوزهم مدخلها، الذي صار تحديد مكانه الآن صعباً، يصبح في إمكانهم ملاحظة أبي كرم، وهو الجالس، أو الواقف على الرصيف، وقد فرش الزاوية صحفاً ومجلاّت ونشرات من مختلف الأشكال والأنواع.

لم يناده أحد بإسمه الحقيقي، بل بلقبه الذي يعرفه الجميع: “سطوف”، وهو اللقب الذي يلفظه بعض البعلبكيين بشكل مختلف، إذ يصبح لديهم “صطوف”، وهذا المنحى اللفظي ينسحب على تسميات أخرى، فسوريا تصبح صوريا، وكلمة سلاح تصبح بدورها صلاح. كنا نرى سطوف في زاويته المعهودة، منذ صغرنا، جالساً على كرسي صغير، على بعد خطوات من المكتبة المذكورة، التي تعود إليها المنشورات المعروضة على الرصيف. هذه الزاوية صار البعض يعرّفها من خلال لقبه، بعدما أصبحت “زاوية سطوف”، التي لا ينازعه عليها أحد، وتُترك شاغرة من أجله في ساعات الصباح، ليفرش عليها سجّادته الملوّنة والمكوّنة من المنشورات التي جرى ذكرها، وقد تُضاف إليها روزنامات، وقفص يتنقل في داخله عصفور رشيق.

لم يتغيّر أبو كرم كثيراً، أو هكذا يُخيّل إلينا. قامته القصيرة بقيت كما هي، لكن شعره تساقط مع مرور السنين، بعدما إمتد البياض إليه. لكن الميزة الكبرى لسطوف فتمثلت في صوته الأجش، الذي ربما لم يكن كذلك في الأصل، لكنه إتخذ تلك الميزة لكثرة مناداته بأسماء الصحف للفت إنتباه المارة. أما العامل الآخر فيعود، في نظرنا، لعلاقته الوطيدة بموضوع التدخين، إذ قلّما فارقت السيجارة أصابعه.

سطوف مع أبنائه في بيروت سبعينيات القرن الماضي

الرجل الذي كان شبه أمّي، وربما أميّاً بالكامل، كان يجيد التمييز بين الصحف والمجلاّت، وعلى معرفة بعناوينها اليومية الكبرى، وبعض مضامينها المتعلّقة بحدث ما خارج عن العادة. هذا الأمر يُعتبر مفصلياً بالنسبة إليه، إذ يمكنّه من إبلاغ الزبائن مسبقاً بأهمية المضمون، الذي سيستتبعه شراء الصحيفة. إلى ذلك كان سطوف نبيهاً، ويمتلك ذاكرة ممتازة، بحيث كان يعرف الصحيفة التي يقرأها كل زبون دائم من زبائنه، فيجهّزها له بمجرّد رؤيته، حتى لو لم يكن الزبون راغباً في شرائها.

من الصعب ذكر السن التي بدأ سطوف خلالها مهنته، التي رافقته مدى الحياة. على أن صورة حُفظت في أرشيف أحدهم تدل على أنه باشر المهنة وهو في سن المراهقة، وربما قبلها. وهكذا، فقد كانت سيرة سطوف ملتصقة بالمطبوعات طوال حياة زاخرة بالكدح الذي لا راحة فيه، لكنها لم تؤمّن وحدها مصدر رزق له، إذ كان يشتري مسبقاً بطاقات لحفلات مهرجانات بعلبك الدوليّة الشهيرة، وذلك على أمل بيعها في السوق السوداء، ولو بهامش بسيط من الربح، وذلك لمن فاته العثور على بطاقة للحفلات ذات الإقبال الجماهيري الكثيف.

قيل أنه حقق ربحاً جيّداً عامي 1966 و 1968، حين قدمت أم كلثوم إلى بعلبك، وربما استطاع تكرار ذاك النجاح في حفلات أخرى، لكن الحظ لم يكن حليفه دوماً، إذ تعرّض لخسارات فادحة، نتيجة سوء تقدير حيناً، أو حين تصادف موعد الحفلات مع هزّات أمنية، أو ظروف غير مؤاتية أحياناً أخرى، مما دفع الجمهور لعدم القدوم إلى بعلبك، تجنّباً لمفاجآت غير متوقعة.

سطوف عند زاويته نهاية العام 1994

غاب سطّوف عام 2007. إنتقل إلى جوار ربه إثر مرضه، من دون أن نلحظ ذلك، أو أقلّه لم ألحظ ذلك شخصيّاً، لابتعادي عن المدينة في تلك الفترة. لكن صورة سطوف لم تفارق ذاكرتي. كما بقيت في ذاكرة الذين عرفوه من أبناء المدينة.

أبو خلف وإبنه أحمد

إذا كان سطوف ثابتاً في مكانه، ولا يتحرّك منه إلاّ ليناول أحدهم صحيفة أو مجلّة، فإن ناصر إسماعيل حليحل، المعروف بأبي خلف، كان في حركة دائمة، إذ كان يتنقّل في البلدة كي يبيع الصحف، سيراً على الأقدام، أو على دراجته النارية المزوّدة سلّةً يضع فيها بضاعته الورقية. لم ألحظ أبا خلف، أو لا أتذكّره، وكان من الممكن أن يمرّ قربي من دون أن أتنبّه لوجوده نظراً لحركته الدائمة، لكنني أذكر وجهه جيّداً. هذا الوجه غاب صيف العام 1997 ، بعدما صدمته سيّارة في محلّة دورس، المحاذية لبعلبك، ليدفع بذلك ثمناً باهظاً مقابل سعيه ومثابرته من أجل تأمين لقمة العيش.

ناصر حليحل أبو خلف

خلف أبا خلف إبنه أحمد الذي نعرفه وتجمعه معنا صداقة من نوع خاص. لا نعلم إن كان أحمد يجيد فعلاً القراءة والكتابة، لكنه، كما سطوف، يفرّق بين الصحف والمجلاّت وتواريخ أوراق اليانصيب، وأرقامها في النشرة الصادرة بعد كل سحب. كان أحمد يجول في المدينة على دراجته النارية، حاملاً صحفاً وأوراق يانصيب وقسائم لوتو.

في الفترة الأخيرة لم يغب أحمد، لكننا لم نعد نرى دراجته الناريّة لأسباب نجهلها، ولا نيّة لدينا لإحراجه من خلال سؤالنا عن الأمر. كان يتصل بي على “الواتس أب”، ويبلغني أنه ترك لي الصحيفة في مكان معيّن في البلدة. ما زلتُ، إرتباطاً بما ورد أعلاه، من القلة التي تقرأ صحفاً في المدينة، التي يصل منها كمية محدودة إلى بعلبك، ولا ينسحب الأمر على أيام الأسبوع كلّها، فغلاء المحروقات وقلّة القرّاء تسببا في إنعدام حماسة شركة المطبوعات الموكلة إيصال الصحف إلى مدن بعيدة.

على أن سبب غياب أحمد توضّح لاحقاً. فالرجل الذي أمضى مراهقته وشبابه (علماً أنه ليس كبيراً في السن) بين الصحف والمجلات وقسائم اليانصيب وصل إلى طريق مسدود، نظراً للأسباب المذكورة سلفاً. سار أحمد مع الموجة السائدة، فإقتنى حافلة “توك توك”، وصار ينقل أناساً وبضاعة وما تيسّر من كل شيء يحتاجه المواطنون. سألته منذ أيام: كم هو عدد الصحف التي تُباع في مدينة بعلبك يا أحمد؟ فأجاب: كان العدد منذ سنوات حوالي الألف، ثم انحدر إلى النصف، إلى أن وصل الآن إلى ما لا يزيد عن مئة أو مئتي صحيفة على الأكثر. وللمناسبة، لا بد من الإشارة إلى أن عدد سكان بعلبك ومحيطها القريب، الملتصق بها، يبلغ اليوم حوالي المئة ألف نسمة، وعلى هذا الأساس يبدو أن واحداً في الألف من السكان يقدم على مغامرة شراء صحيفة في هذه المدينة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى