“بالية” سوق الجمال في الشيّاح.. تراجع بعد ازدهار
هنا تكثر الحكايات والقصص، لا تروى على الألسنة، إنما تحكيها بصمت قطع عبرت بحورًا ومحيطات لكي تستقر وتنتظر هنا، على قارعة الطريق، يدًا تأخذ بيدها، تنتظر من يحظى بها بأقل الأثمان.
إنّها “بالية” (ملبوسات بالية: ملبوسات قديمة) سوق الجمال في الشيّاح في ضاحية بيروت الجنوبيّة، التي تحكي تاريخًا عن منطقة شعبيّة، لا يزال كثر يقصدونها. تتوزّع هذه الملبوسات البالية في محلّات عديدة، يتجاوز عددها الـ10، وكلّ واحدة منها تتميّز عن غيرها.
ثياب، أحذية، دمى، بياضات، “أنتيكا” وكل ما يمكن أن يخطر في بالك، يمكن أن تجده هنا بين أكوام البضاعة المعروضة.
و”البالة” هي مصطلح يعني الملابس المستعملة والتي يعاد بيعها لأشخاص آخرين ليعيدوا استخدامها. وكلمة بالة في القاموس: (الجرابُ الضَّخم، وعاء يضمّ مقدارًا مضغوطًا من القطن أو الثِّياب، حزمة المتاع الضخمة بالة ملابس/ قطن)، وفي هذه الحال تعني مجموعة كبيرة من الملابس المتنوّعة في الأشكال والأحجام، لذا سوف نستخدم كلمة “بالة” وجمع “بالات”.
محطات عديدة مرت بها بالات سوق الشيّاح، فالأزمات التي عصفت بلبنان كثيرة، وكلّ ذلك ترك أثره على حركة البيع، تارة صعودًا وتارة أخرى هبوطًا.
تاريخ بالات سوق الجمال
هو سؤال واحد إنّما الإجابة ليست موحّدة، متى بدأت تجّارة البالات في سوق الشيّاح؟ يقول بعض تجّار السوق في حديث لـ”مناطق نت” إنّ بداية تجّارة البالة في السوق لا يمكن معرفتها بدقّة، فالسوق الذي افتتح إثر الحرب الأهليّة، مرّت عليه أنواع تجّارة عديدة منها البالة.
ولكن خالد أحد أقدم تجّار البالة في السوق، يجزم أنّ بداية افتتاح محلّات البالة تحديدًا كانت في بداية التسعينيّات، أمّا ما سبق تلك السنوات فكانت هناك “بسطات” تنتشر في السوق وتعرض ثياب البالة، إذ لم يكن هناك أيّ دكاكين تعنى بهذه التجّارة.
عرفت بالات سوق الجمال “عزًّا” بحسب بعض التجّار قبل العام 2015، حيث كانت تعجّ الأسواق بالناس، ممّن يأتون من جميع نواحي بيروت، وكانت القطعة حينذاك تباع بالألف ليرة والألفين. أمّا في ما بعد وخصوصًا حينما بدأت تعصف رياح الأزمات في لبنان، بدأت البالات تفقد زوّارها، فمن كان يقصدها لفقره بات تحت خطّ الفقر. ولا يمكن التغاضي عن وباء كورونا الذي حلّ ثقيلًا على الناس وأعمالهم.
أحد أقدم تجّار البالة في السوق، يجزم أنّ بداية افتتاح محلّات البالة تحديدًا كانت في بداية التسعينيّات، أمّا ما سبق تلك السنوات فكانت هناك “بسطات” تنتشر في السوق وتعرض ثياب البالة
عادت محلّات البالة لتنتعش قليلًا في السنتين الماضيتين حينما اضطرّ عديد من الناس للجوء إلى البالات بعدما أصبحت أسعار الثياب للمقتدرين فقط، إن وجدوا. إلّا أنّ لا شيء يعود كما كان، فهنا العاصفة لم تهبّ مرّتين، بل هبّت عشرات المرّات، وبات البقاء للأقوى.
تفاوت بين بالة وأخرى
من يظن أنّ أصحاب البالات في الشيّاح يتشاركون الهمّ نفسه، فهو مخطئ. فهنا، كلّ فرد يعيش مع بالته مرحلة معيّنة. فالبعض يرى الأوضاع “ماشية” أمّا الآخرون فيعتبرون أنّ الاستمراريّة مستحيلة.
في جولة لـ”مناطق نت”، أشار موظّف في إحدى البالات إلى أنّه “لو كان المحلّ إلي كنت بسكّره”، في إشارة إلى سوء الأوضاع. فهم يفتحون بالة كلّ شهر تقريبًا، وذلك يعني أنّهم يقومون بعرض بضائع جديدة كلّ فترة، وليس بشكل يوميّ كما كانوا يفعلون سابقًا.
أمّا خالد وهو صاحب إحدى أقدم البالات في الشيّاح فيلفت في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنّهم كانوا سابقًا يفتحون بالة كلّ إثنين وخميس، أمّا حاليًا فيفتحون مرّة واحدة في الأسبوع وأحيانًا كلّ أسبوعين. ويؤكّد أنّ الوضع في السابق كان أفضل بكثير “كنا يوميًّا نقوم بسداد الديون المتراكمة علينا من عمليّات البيع، أمّا اليوم فنحن “مكسورين”، نعمل فقط لنطعم أولادنا ولأنّنا لا نعرف مصلحة أخرى”.
من جهته يفيد موظّف في بالة فراس الكلّاس، أنّ وضعهم أفضل بكثير، فهم يعرفون قيمة كلّ قطعة موجودة ولا “يكسرون” أسعارها كي يبيعوا أكثر. ويشير إلى “أنّ السرّ يكمن في فرز البضائع بشكل جيّد، ووضع كلّ قطعة في مكانها الصحيح”. ويعتبر أنّ البيع بـ”جملة الجملة” ليس شطارة، فغالبيّة أصحاب البالات تعاني من الديون بسبب ذلك.
أنواع البضاعة والزبائن
تصنّف البالات وفق المواسم صيفيّة وشتويّة، ووفق الأعمار للكبار والصغار، وكذلك تتضمّن البالة عدّة مستويات من الجودة، فهناك البالة ذات الجودة المتوسّطة وأخرى عالية ويطلق عليها “كريمة”، وهي تعني أنّ معظم قطع البالة غير مستخدمة ولا تزال تحمل ورقة المتجر، وبالطبع فإنّ لكل فئة من البالة سعرها.
في بالات سوق الشيّاح، تتفوّق البضاعة الألمانيّة والبلجيكيّة والأوروبّيّة على الأخرى، كما تحتلّ البضاعة التي تأتي من دبيّ مساحة كبيرة إذ يتمّ فرز كثير من البالات في السوق الحرّة هناك، قبل أن يتمّ شحنها إلى باقي الدول. ويؤكّد أحد التجّار أنّ الناس تهوى قطع البالة، كونها تتماشى مع “المياه المالحة” التي يستهلكها كثر من أهالي بيروت.
أمّا الزبائن فأنواعهم كثيرة، ولا تقتصر البالة على ذوي الدخل المحدود، فهنا يمكن أن ترى المحامي والطبيب وغيرهما، كلّ واحد يبحث عن مآربه. فالبالة تحتوي على ثياب ذات علامات تجّاريّة هامّة، ومن يعرف قيمتها، يأتي إلى هذا المكان لينتقي أجود أنواع الملابس بأقلّ الأثمان. إلا أنّ أكثر الزوّار هم من النساء اللواتي يملكن من “طولة البال” ما يكفي للبحث عن القطعة الأفضل من بين القطع الكثيرة.
“زوجي ميّت وحالتي حالة لهيك بجي عالبالات”، تبرّر إحدى السيدات لـ”مناطق نت”، سبب زيارتها. وتستمرّ بمفاوضة “بمحارجة” البائع على فستان صيفيّ يبلغ سعره 400 ألف ليرة لبنانيّة.
محاجّة ومجادلة
أمّا خلود وهي زبونة دائمة لإحد المتاجر هنا، تشير في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنّها تجد أفضل “الماركات”، وتؤكّد أنّه “لا يمكن الحصول على جودة القطن نفسها التي تجدها هنا في المتاجر الأخرى”.
نتابع تجوالنا في سوق البالة لنستنتج أنّ هذه المتاجر لا تعتمد على اللاجئين السوريّين كما يشاع، بل إنّ معظم الزبائن هم من اللبنانيّين الذين يأتون من مناطق مختلفة من بينها الدورة وعين الرمّانة.
وعند سؤال الباعة عن إمكانيّة مجادلة الزبائن لهم في ظلّ الأسعار الرخيصة التي تصل لـ50 ألف ليرة لبنانيّة فقط مقابل القطعة، يشيرون جميعًا إلى أنّ “المحارجة” فنّ لا بدّ منه، لو مهما كان ثمن القطعة. ويلفت أحد الباعة إلى أنّه مثلًا يبيع ثلاث قطع من الثياب المخصّصة للنوم بمئة ألف ليرة لبنانيّة، إلّا أنّ البعض يجادلونه ليحصلوا على أربعة بالثمن نفسه.
لكنّ ما كرّره معظم أصحاب المتاجر، أنّه في السابق كان هناك أشخاص يمرّون من أمام البالات ويسخرون من الناس المتواجدة وينظرون إليهم بازدراء، أمّا اليوم فهم ذاتهم باتوا من زبائنهم (فهم يذكرونهم جيّدًا)، وذلك بعد تهاوي القدرة الشرائيّة عند كثيرين من المواطنين.
أمّا الزبائن فأنواعهم كثيرة، ولا تقتصر البالة على ذوي الدخل المحدود، فهنا يمكن أن ترى المحامي والطبيب وغيرهما، كلّ واحد يبحث عن مآربه. فالبالة تحتوي على ثياب ذات علامات تجّاريّة هامّة
ملاحظات كثيرة لا بدّ من أن تستوقفك في أثناء التجوال في سوق البالة “الشيّاحيّ” ومنها أنّ الوضع المتفجّر في الجنوب انعكس سلبًا على حركة السوق وعلى الزبائن أيضًا، كون الناس في حالة خوف من القادم ومن معه بعض المال يحاول الاحتفاظ به قدر الإمكان، درءًا لتدهور الأمور أكثر.
يشير “أبو حسين” وهو نازح من بلدة زفتا الجنوبيّة، إلى أنّه يراقب وضع البالات منذ نزوحه منذ أشهر كونه صديق أحد التجّار ويتواجد في محلّه معظم الوقت، حيث كان يفكّر في فتح بالة في قريته عند العودة، إلّا أنّ ما يشاهده من حركة البيع هنا جعلته يتخلّى عن الفكرة كلّيًّا.
كنوز وذكريات تتنقّل بالقطع
لكلّ قطعة هنا حكاية، فهذه القطع المستعملة تحمل ذكريات ممّن كان يرتديها في السابق، وبعض هذه الذكريات ستنتقل إلى من ارتداها من جديد. تنتقل الحكايات لتصبح على ألسنة الباعة، فيشير أحدهم لـ”مناطق نت” إلى أنّ الزبائن في السابق كانوا يجدون أموالًا في “جيوب” بعض الثياب، كما أنّ أحدهم وجد مرّة خاتمًا من ذهب. بالإضافة إلى ذلك، يجد البعض رسائل وغيرها من الذكريات التي نسي أصحابها استعادتها قبل أن يتخلّوا عنها.
ليس كلّ ما تبيعه متاجر البالة ثيابًا، فأثناء التجوال تجد كثيرًا من القطع القديمة المميّزة، كمفارش الطاولات المطرّزة على اليد وقطع “الكروشّيه” والدمى التي تباع في محلات الأنتيكا بأسعار باهظة، بالإضافة إلى القطع الـ”vintage” التي يبحث عنها كثر في متاجر أخرى ولا يجدونها. يذكر أنّ الأسعار هنا تتفاوت، فأدنى سعر يمكن أن تجده هو 50 ألف ليرة وأعلاه يصل إلى 30 دولارًا ويكون عادة لفستان سهرة.
لا تزال بالات سوق الشيّاح مقصدًا ومتنفّسًا لمختلف الناس، على رغم تزايد محلات الـ”Outlet” التي تحاول سرقة الأضواء من هذه الأماكن. إلّا أنّ المثل الشائع “اللي ما إلو قديم ما إلو جديد”، يبرهن أنّ مهما مرّ الزمن تبقى لهذه المتاجر قيمة ومكانة لا يمكن أن تنتهيا مهما ساءت الأحوال، فما تجده بين الأكوام المتراكمة هنا، لا يمكن أن تعثر عليه في أفخم المتاجر.
هنا كلّ قطعة تخبرك عن ذكرى، وعن بلد تحلم بأن تزوره يومًا. هنا تجد الناس كما هم، دون أقنعة ولا حتّى وجوه لا تشبههم. هنا فقط، يمكنك أن تمشي مرتاحًا، وتتحدّث بكل انسيابيّة، و”تجادل” حول الأسعار من دون خجل، فالناس هم مثلك، يعيشون همومك ويشعرون بما يمكن أن تشعر، هنا يتساوى الجميع، و”الأشطر” من يعرف كيف “ينكش” جيّدًا بحثًا عن كنز مدفون بين القطع الكثيرة.