برج حمّود من ملاذ للهاربين إلى صراع متعدّد الجنسيّات
منذ ما يزيد عن 320 عامًا بنى الأمير حمّود أرسلان، مالك المنطقة التي تُعرف اليوم ببرج حمّود برجًا عاليًا لمراقبة العمّال ممّن يتولّون العمل في الأراضي التابعة له، فعُرف البرج “ببرج حمّود”، وأطلقت التسمية على المنطقة التي كانت، تاريخيًّا، قبل حمّود أرسلان، مهمّة وأساسيّة جدًّا لقربها من البحر وغناها الطبيعيّ، لذلك جذبت السكّان، والبداية كانت مع الموارنة الذين قدموا إليها منذ بداية القرن السابع عشر، وبنوا فيها كنائس، وعاشوا عليها معتمدين الزراعة والحراثة نظرًا لوجود البساتين والأراضي الخصبة والمياه الوفيرة.
من الموارنة إلى الأرمن والشيعة فالسوريّين
عاشت المنطقة صفاءً مارونيًّا امتدّ حتّى العام 1924، آنذاك وبعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى، وانتقال لبنان إلى زمن الانتداب الفرنسيّ، أحضر الفرنسيّون المهجّرين الأرمن من أرمينيا إلى لبنان، وأقاموا لهم مخيّمات في منطقة برج حمّود، فاستقر الأرمن هناك وبدأوا بتشكيل حياة جديدة لهم، حتّى العام 1948 عندما بدأت مجموعات كبيرة منهم تبيع ممتلكاتها للسفر إلى أرمينيا، ومن اشترى هذه الممتلكات كانوا من الشيعة الذين تركوا الأرياف البعيدة وقصدوا مراكز المدن من أجل الأمن بعد الاعتداءات الاسرائيليّة على القرى الجنوبيّة بالتزامن مع احتلال فلسطين.
شكّلت برج حمّود وجهة جذب للشيعة الجنوبيّين بهدف العمل والاسترزاق، فتعاظم وجودهم فيها مع وصول الشيخ رضا فرحات ابن بلدة عربصاليم الجنوبيّة (إقليم التفاح)، فبنى مؤسّسات دينّية وثقافيّة منذ العام 1950، وتعاون مع المسؤولين الدينيّين الموارنة والأرمن، وشهدت المنطقة ازدهارًا كبيرًا، وحيادًا في الحرب التي اندلعت سنة 1958 حيث بقيت خارج دائرة العنف والصراع.
بعد اشتداد وطأة الحرب الأهليّة العام 1976 آثرت بعض العائلات الشيعيّة في برج الحمّود الخروج من المنطقة، واستمر النزوح القسريّ حتّى العام 1996، حيث عادت بعض العائلات فيما فضّلت أخرى الاستقرار حيث هي.
منذ ذلك الحين بدأت برج حمّود تتحوّل تدريجًا إلى منطقة مكتظّة سكّانيًّا نظرًا إلى قربها من بيروت وسهولة العيش فيها من حيث الكلف المتدنّية، من إيجارات البيوت والأسواق الشعبيّة. ومع بداية اللجوء السوريّ شكّلت هذه النقطة الجغرافيّة ملاذًا للسوريّين أيضًا، إذ تضم اليوم حوالي 35 ألف لاجئ سوريّ من أصل حوالي 175 ألف نسمة يسكنون برج حمّود من جنسيّات مختلفة، أثيوبيّة وسريلانكيّة وسودانيّة ومصريّة وعراقيّة وكرديّة.
هذا الخليط الذي كان منذ عشرات السنين مصدر غنىً لبرج حمّود، تحوّل تلقائيًّا إلى مصدر قلق وأزمات، والسبب الرئيس غياب الدولة، والتنافس غير المشروع على فرص العمل والسيطرة.
الإشكالات تتكاثر
يكاد لا يمرّ أسبوع أو شهر إلّا ونسمع عن مشاكل في برج حمّود ومحيطها، من النبعة إلى سنّ الفيل والدكوانة، مرّة بين السوريّين واللبنانيّين، ومرة بين الأرمن والأكراد، وأخيرًا بين الأرمن والشيعة. ففي 12 تموز/ يوليو المنصرم وقع إشكال فرديّ بحسب معلومات “مناطق نت”، تمّ تضخيمه بسبب غياب الدولة عن القيام بواجبها، وشعور بعض الأفراد بفائض القوّة نتيجة هذا الغياب.
ما جرى كان إشكالًا فرديًّا وقع بين شاب (شيعي) وآخر (أرمني)، لكنّه تطوّر عندما استقدم الأوّل مؤازرة مسلّحة من خارج المنطقة، حاولوا على إثرها اقتحام نادي “نيكول تومان” التابع إلى حزب الطاشناق في المحلّة، ومن ثمّ اعتدوا على كنيسة السيّدة للأرمن الأرثوذكس، وأطلقوا شعارات طائفيّة بعيدة كلّ البعد عن واقع المنطقة، وهو ما دفع حزب الطاشناق إلى إصدار بيان قاسٍ جاء فيه: “لا يمكن التغاضي عن محاولات إثارة النعرات الطائفيّة في هذه الظروف الحسّاسة، كما لا يمكن للأهالي تحمّل العراضات والمظاهر المسلّحة، والاعتداء على الحرمات والمقدّسات إلى ما لا نهاية…”.
مع بداية اللجوء السوريّ شكّلت هذه النقطة الجغرافيّة ملاذًا للسوريّين أيضًا، إذ تضم اليوم حوالي 35 ألف لاجئ سوريّ من أصل حوالي 175 ألف نسمة يسكنون برج حمّود من جنسيّات مختلفة
هنا تدخلت قيادة الثنائيّ الشيعيّ وتواصلت مع قيادة حزب الطاشناق، بحسب مصادر مطّلعة، وأفضت الاتصالات إلى سحب المسلّحين وإعادة الهدوء الذي لم يستمرّ سوى ساعات قليلة.
في اليوم التالي، تُشير المصادر لـ”مناطق نت” إلى أنّ إشكالًا آخر، لا علاقة له بالإشكال الأوّل، وقع بين شخصين من أبناء المنطقة، وهما جاران، أحدهما شيعيّ والآخر أرمنيّ، أمّا الأسباب فلا علاقة لها بالحزبيّة أو الطائفيّة إنّما بسبب ممارسات فرديّة، ولكن توسّع الإشكال أيضًا وتداخلت فيه العوامل الطائفيّة، ووصل إلى حدّ إطلاق النار، الذي أدّى إلى مقتل الشاب ربيع الدغلاوي.
كان من الواضح أنّ رئيس بلديّة برج حمّود مارديك بوغوصيان، وفي اتّصال مع “مناطق نت” لا يرغب بالتحدّث عن واقع المنطقة، ولا عن الإشكال الذي حصل أخيرًا، مع العلم أنّ الإشكال بحدّ ذاته لا يعبّر حقيقة عن كلّ واقع المنطقة الصعب الذي تتعدّد أسبابه، وتعود بأصلها إلى غياب الدولة عن برج حمّود كما عن جميع المناطق، فغياب الدولة وعدم تطبيق القوانين هو الدافع الأساس لكلّ نشاز يحصل في برج حمّود وفي كثير من المناطق اللبنانيّة.
المعالجة أبعد من حلّ آنيّ
بحسب مصادر الثنائيّ الشيعيّ فإنّ برج حمّود لطالما كانت مكانًا للتعايش، ولكنّ حال الفقر والنزوح والوضع الاقتصاديّ الهشّ وسقوط هيبة الدولة، كلّها عوامل ساهمت بانتشار العصابات وهي لا تنتمي إلى فئة بعينها، ولكن في لبنان يأخذ كلّ شيء منحى طائفيًّا نظرًا إلى حساسيّة البلد وكثرة الراغبين في الاصطياد بالماء العكر.
وتؤكّد المصادر لـ”مناطق نت” أنّها تسعى بالتعاون مع حزب الطاشناق إلى تطويق ذيول كلّ إشكال يحصل، ولكنّ هذه المعالجات لا تكفي، لأنّ أساس المشاكل في مكان آخر، وإن لم تتدارك الدولة هذا الواقع وتنظيمه، وتحديدًا في ما يتعلّق بالإهمال المتعمّد لهذه المنطقة وغيرها من المناطق، أو لم تتدخل لتنظيم الوجود الأجنبيّ فيها، فإنّ المشاكل مرشّحة للتفاقم.
هل انتهى التعدّد والتنوّع؟
وإذا كان من البديهيّ أن نحيل أسباب ما يحصل في برج حمّود إلى غياب الدولة، فإنّ أسئلة أخرى ملحّة تَحضُر، أبرزها هل أنّ الدولة غائبة عن برج حمّود وحاضرة في سنّ الفيل؟ أو مناطق أخرى في العاصمة لا تشهد ما تشهده برج حمّود، أو عند حصوله يكون عابرًا؟
إلى جانب غياب الدولة هناك خلاصات لما يجري في برج حمّود، تبدو أعمق من ذلك بكثير، قد يكون أهمّها أفول مرحلة التعدّد والتنوّع في داخل الأحياء الشعبيّة المختلطة في بيروت، والتي كانت تتميّز بهما العاصمة قبل الحرب، وبفضلهما صُنّفت مدينة كوزموبّوليتيّة بامتياز.
هذا النسيج المجتمعيّ المتعدّد والمتنوّع الذي شكّل مصدر غنىً لبيروت على مدى عقود ومزّقته الحرب، على ما يبدو لم يستطع السلم رتقه، على الرغم من مرور ثلاثة عقود ونيّف على ذلك، فالعاصمة بشوارعها ومناطقها تعيش في ظلّ ترسيم طائفيّ مقنّع، ما زالت منطقة برج حمّود تغرّد خارجه حتّى الآن.