بسبب كلفة الانتقال.. طلاب الهرمل الجامعيّون مهدّدون بعامهم الدراسي!
ليس من العدل تعميم كون الأزمة الاقتصادية ومظاهر شظفها التي يعيشها اللبنانيون، تتساوى فيما بينهم. فكلّ يتجرّعها بحسب خصوصيات وحيثيات متعددة ومتفاوتة، تتداخل فيها عناصر كثيرة. وبالتأكيد فإنّ لمناطق الأطراف كما دائمًا، الحصّة الوازنة من هذه المحنة.
فالهرمل مقدّر عليها أن تُعاقب ببعد مسافتها الجغرافية، التي تسبّب لأهلها إما تكاليف انتقال باهظة، وإما التقيّد القسري بعدم مبارحتها لتجنّب لسع السياط اللاذعة لأجرة المواصلات.
وضحايا هذا الواقع المهمّشون والمغيّبون، هم طلاب الهرمل الجامعيّون. فعلى من يرغب من شباب الهرمل وشابّاتها في تحصيل تعليمه الجامعي، أن يقطع مسافات شاسعة أقربها إلى بعلبك 60 كلم، حيث استُحدث فرع للجامعة اللبنانية، تنحصر الاختصاصات فيه ببعض المواد العلمية، بينما الطالب الراغب في اختصاصات أخرى عليه أن يجتاز حوالي 85 كلم إلى زحلة، حيث تقع كليات الآداب والحقوق والعلوم السياسية، ومعهد العلوم الاجتماعية. هذه الجامعات يرتادها طلاب البقاع الغربي والأوسط والشمالي.
يقضم هذا البعد الشاسع ساعات النهار ويستهلكها، حيث يقضي الطلاب الجزء الأغلب من وقتهم، ذهابًا وإيابًا على الطريق، والمدة الزمنية هذه تتجاوز حصص التعليم التي يضطرون أحيانًا للاختصار منها، تحاشيًا لمداهمة الظلام، وهم غالبًا ما يعودون إلى بيوتهم في وقت متأخر من الليل، بخاصة في الشتاء القارس مع عواصفه وثلوجه.
وكأنّ هذه المعاناة التي رضخ لها شباب الهرمل لوقت طويل لا تكفي، فزاد الطين بلّة زحف الأزمة الاقتصادية التي فاقمت وضع الطلاب صعوبة، وعرّضت مصيرهم في استكمال تعليمهم الجامعي للمجهول، وللتجهيل، وحتى للوصول إلى حرمانهم الحق في التعلّم أسوة بطلاب بقيّة المناطق اللبنانية. فالارتفاع غير المسبوق لأسعار المحروقات، جعل من الانتقال إلى زحلة وبعلبك حيث الجامعات، شبه مستحيل لدى بعض هؤلاء الطلاب، ومعدومًا عند بعضهم الآخر.
حكايات الطلاب: الدوام المنقطع أو المتقطّع
تعجز صفاء عن الذهاب إلى الجامعة يوميًا. فتكلفة الذهاب والعودة ليوم واحد تصل إلى ١٤٠ألفًا، لذا فهي قلّصت أيام حضورها إلى يوم واحد في الأسبوع. تعبّر صفاء عن استيائها لصمّ الآذان عن معاناتهم، فبعد أن كان إتحاد البلديات يساهم في تغطية جزء من كلفة الانتقال إلى زحلة، توقّف عن الدعم في وقت نحن بأمس الحاجة إليه.
من جهته يتحدث حسين وهو طالب يتخصص في مادة الجغرافيا في كلية الآداب عن الصعوبات التي يواجهها هو وزملاؤه منفردين، فيقول: “أداوم يومين في الأسبوع وذلك بحسب استطاعتي. في الذهاب نستقل الفانات المتطوّعين حيث يتقاضى منّا أصحابها نصف القيمة فقط. ولكن المعاناة الكبرى نتكبدها في طريق العودة حيث من النادر أن نعثر على ناقلة ركاب تتوجّه إلى الهرمل مباشرة. فنصطر إلى أن نستقلّ أكثر من فان، فيصل هو إلى وجهته ونترجّل منه بانتظار آخر، وهكذا حتى نصل إلى بيوتنا في وقت متأخر بعد رحلة شاقّة وطويلة، يشوبها التوتر والقلق والانتظار والبرد والوقوف لساعات طويلة على الطريق في البرد والعراء.
يضيف حسين: “لا نعيش حياة جامعية مستقرّة، ولا نشعر بانتمائنا إلى الجامعة باعتبارها مجالاً لاختبار تجربة جديدة وغنية واستثنائية في حياتنا. فلا نتنعّم بما توفّره من اختلاط وتفاعل والتقاء مع زملاء لنا من مناطق وطوائف أخرى. فجل ما نهجس به أثناء تواجدنا في المحاضرة، هو كيفية العودة إلى مناطقنا والتي تكون في معظم الأحيان غير مؤمنة. لذلك نكتفي أحياناً بمحاضرة واحدة ليتيسّر لنا أن نعود قبل زحف العتمة في الليل.
حال إسراء وهي طالبة علوم اجتماعية، لم تكن كحال حسين حيث آثرت أن تنقطع عن الدراسة هذا العام، قائلة: “لم أتسجّل هذه السنة، والأغلبية من أصدقائي حذوا حذوي ولم يتسجلوا هذا العام!!
بدورها قالت آية “بعد أن كان اتحاد البلديات يوفّر لنا الانتقال من وإلى الجامعة، وجدنا أنفسنا كطلاب من دون دعم أو مساندة. حتى التعليم online لا تتوافر مقوّماته، ونحن طلاب الهرمل لا تجوز مقارنتنا مع آخرين يسكنون مناطق قريبة إلى الجامعات. فنحن لا نتلقّى التعليم نفسه وبالجودة نفسها، نشعر بظلم كبير، والتخرّج هو حلمنا الكبير لنتخلّص من عناء الطريق الطويل وكلفته الخيالية!!
يضيف بهاء وهو طالب حقوق سنة ثانية: “الحياة الجامعية التي نشاهدها على التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، لا نلمسها في واقعنا الخاص جدًا، والمختلف عن طلاب الجامعات في المدن. فللتجربة الجامعية أبعاد متنوّعة ومشوّقة تحثّ الشباب على الانخراط بها. فهي مساحة للتعبير عن الرأي ومشاركة أفكارنا مع مختلفين عنا في الثقافة والطائفة لكنهم في مثل عمرنا، ولديهم همومنا وتطلّعاتنا نفسها. لا يسمح لنا وضعنا أن نتفاعل ولا أن نشارك في الحياة السياسية والشبابية والثقافية والأنشطة الطلابية، التي تشكّل مساحة حوار وانفتاح، فنحن مسكونون بهاجس مساحة أخرى، محكومة بالبعد والتنائي”.
يشعر طلاب الهرمل أنهم متروكون لمصيرهم، وردًّا على سؤالهم عن محاولة قيامهم بمبادرة لرفع الصوت وإخراج قضيتهم المحقة إلى الملأ، أجمعوا على أن “لا أحد نلجأ إليه، ليصغي إلينا! وحمّل بعضهم المسؤولية لاتحاد بلديات الهرمل، الذي “تخلّى عنا في أحلك الظروف”.
اتحاد بلديات الهرمل
الحاج عباس الجوهري وهو المعني من قبل إتحاد بلديات الهرمل، الاهتمام بملف نقل الطلاب الجامعيين إلى جامعاتهم. قال لـ “مناطق نت” “إن المبادرة بدأت العام 2016، وأطلقها إتحاد بلديات الهرمل لدعم الشباب الجامعي في المنطقة، وذلك لتعذّر واستحالة إنشاء جامعة من قبل الدولة في الهرمل، لأنها مدينة الأطراف بامتياز”. تابع الجوهري “المشروع لم يكن سهلاً، وصعوباته لم تكن مالية، لأن الاتحاد بالتعاون مع بلديات الهرمل ساهم بدفع نصف القيمة، بينما توجّب على الطالب دفع الباقي وذلك لقاء بطاقة تعريف تمنحه حقّ الانتساب إلى مشروع النقل الجامعي من الهرمل إلى زحلة أو بعلبك”.
الصعوبات حينها يشرح الجوهري تمثّلت بالجانب التنظيمي، والسبب أن دوامات الطلاب البالغ عددهم حوالي الـ 300 طالب، غير متجانسة ولا متوافقة، لكنّ الاتحاد سعى جهده لتوفير نقل شامل، آمن ومؤمّن وقانوني ومنظّم. لكن المشروع تعثّر وتوقّف إبّان الأزمة المزدوجة؛ كورونا والجانب الاقتصادي، وهو لم يُستكمل إلى اليوم ومن الصّعب جداً إمكانية الاستمرار به مستقبلا حتّى لو عاد التعليم الجامعي حضوريا بالكامل.
يعزي الحاج الجوهري أسباب استحالة المضي بالمشروع إلى انهيار الليرة، إذ يحصل الاتحاد على ملياري ليرة من الدولة، وهي بالكاد تكفي لتغطية نفقة النقل التي تصل كلفتها لحدود ١٠٠ألف دولار، في حين أن كل موازنة الإتحاد صارت تساوي ٧٠ ألف دولار!!
الحاج الجوهري يرى أن الآفاق مسدودة ولا حل لهذه الأزمة كما كل أزمات البلد المستعصية، وما على الطلاب إلا الاكتفاء بحصر دوامهم فقط في أيام محاضرات المواد الأساسية. فالمشكلة مسدودة الأفق ولا حلول لها في القريب العاجل ولا يمكن استشراف أي انفراج يساعدنا على اقتراح مخارج أخرى لمعضلة نقل الطلاب.
ما بين استعصاء الحلول، وإهمال الدولة والغلاء الفاحش والانهيار الاقتصادي، يبقى شباب الهرمل في مهبّ المجهول الذي يلفّ مصير مستقبلهم الجامعي وما بعده. فهم بالإضافة إلى كونهم جزء من جيل الشباب اللبناني الذي تلقي به المنظومة السياسية إلى العبث أو الهجرة أو التخندق في أحزابها وتياراتها، فهم يعيشون خوف التسرّب الجامعي وضياع فرص التخرّج والتعلّم الذي هو أبسط حقوق الفرد.