بطّيخ الناقورة على خطّ حرب الأنفاق
على مسافة قريبة، من نفق رأس الناقورة، المُنشأ في متن الصخور، بغرض عبور سكّة الحديد بين لبنان وفلسطين قبل احتلالها، في ذروة الحرب العالميّة الثانية في العام 1942، من قبل الجيش الإنكليزيّ، ولا تزال إسرائيل تحتل الجانب اللبنانيّ منه، ينشط مئات من المزارعات والمزارعين، عند حدود شاطئ الناقورة، في حفر الأنفاق الزراعيّة، في تربة تتراوح ألوانها بين الأحمر والأسود، لوّحتها مُلُوحة مياه البحر، الملاصقة لهذه الأرض.
هناك، عند شاطئ الناقورة، لم تأبه المزارعات، للغارات الاسرائيليّة المتواصلة على البلدة، وقد انبعثت منها رائحة الموت والدمار والتهجير، فبقين مصمّمات على استكمال زراعة عشرات آلاف الأمتار المربّعة، بشتول البطّيخ، كالصفّ المرصوص. ثمّ ينتقل الأمر مباشرة، إلى عمّال رجال، يقومون بتغطيّة هذه الشتول، برقائق من النايلون، تبعدها عن الشتول، أقواس من الحديد والقساطل (الأنابيب).
على مدى العين، ستنمو هذه الشتول، على الريّ بشبكات الأنابيب التي سبق تمديدها الزرع، تهيئة لموسم البطّيخ، وقد اشتهرت به منطقة الناقورة وحقول ساحليّة أخرى في قضاء صور، منذ ما بعد انسحاب إسرائيل من المناطق الحدوديّة، من الجنوب والبقاع الغربي في شهر أيار/مايو العام ألفين.
لن يطول الأمر، حتى تنتشر في شهر أيّار/مايو المقبل، بسطات و”أكشاك” بيع البطّيخ والشمّام، حاجزة لها مساحات على جانبي الطريق، حيث يقصدها الزبائن والذوّاقة من مسافات بعيدة، على امتداد الجنوب ومن خارجه.
زراعة سريعة بكلفة عالية
زراعة الأنفاق الأرضيّة، التي تلت انتشار البيوت البلاستيكيّة، لزراعات عديدة، منها: البندورة والخيار والباذنجان والفلفل والموز، دخلت إلى المناطق الجنوبيّة، في أواخر تسعينيّات القرن الماضي، ضمن خطى التطوير الزراعيّ والإنتاجيّ، وبالتأكيد بكلفة أعلى وإنتاج أسرع، وأيضًا أوفر، وهي زراعة تقاوم إلى حدّ كبير العوامل المناخيّة الباردة.
يتابع المهندس الزراعيّ حسن حمزة، الخطوات الزراعيّة الحديثة، على مستوى الجنوب، ومنها زراعة الأنفاق. ويؤكّد “أن زراعة، ما يعرف بالأنفاق، حطّت في الجنوب، في أواخر التسعينيّات، وهي زراعة بتقنيّات حديثة، لكنّ كلفتها عالية، نتيجة استخدام النايلون، وأيضًا “الملش”، وهو غطاء من النايلون لونه أسود، يوضع في الأرض، قبل فترة من بدء عمليّة الزراعة، حتّى لا تنبت الأعشاب في داخل الأنفاق، وبين “جبوب” البطّيخ، إلى جانب استخدام كمّيّات من الحديد والقساطل، ناهيك عن الأيدي العاملة الكبيرة”.
ويضيف المهندس حمزة لـ”مناطق نت”: “إنّ عمليّة زراعة الأنفاق، تستفيد من مساحات أوسع من الأرض، على عكس الخيم البلاستيكيّة المحدودة، والهدف منها تبكير الإنتاج والإفادة من الأسعار المرتفعة، بشكل رئيس”.
ويضيف: “إنّ هذه الزراعة جنوبًا، تتركّز في المناطق الساحليّة ومنطقة سهل الوزّاني، قرب مرجعيون، والذي يفترض أن تبدأ فيه الزراعة بتأخير نحو شهر عن الساحل، وبذلك يكون موسم إنتاج الساحل، قد انتهى، ليأتي بعد ذلك إنتاج منطقة الوزّاني، ليس البطّيخ حصرًا، بل كذلك الشمّام والكوسا واللوبيا، ويعتمد ذلك على الطقس”.
ويشير حمزة، إلى أنّه “مع بدء الدفء، يتمّ تحرير نبتات البطّيخ برفع غطاء النايلون عنها، لكي تنمو بكثافة وتتمدّد. إنّ المرحلة الزمنيّة بين الزراعة والإنتاج، تحتاج إلى أكثر من تسعين يومًا”.
حسن حمزة: تتركّز زراعة البطيخ جنوبًا، في المناطق الساحليّة ومنطقة سهل الوزّاني، قرب مرجعيون، والذي يفترض أن تبدأ فيه الزراعة بتأخير نحو شهر عن الساحل، وبذلك يكون موسم إنتاج الساحل، قد انتهى.
وحول اليد العاملة في هذا القطاع، يؤكّد حمزة “أنّ كلّ القطاع الزراعيّ، يقوم على العمالة السوريّة، من الإناث والذكور، أمّا اللبنانيّون فأصبحوا مستثمرين فقط في القطاع، وقد دخل السوري إلى عامل الاستثمار فيه، في ظل الانكفاء الكامل للعامل اللبنانيّ وكذلك الفلسطينيّ، إذ لم يقترب الجيل الفلسطيني الجديد من الزراعة بكلّ مستوياتها”.
زراعة كبيرة ومُحتكرة
يُعدّ علي عسكر من أوائل المزارعين في سهل صور، ممّن بدأوا اعتماد زراعة الأنفاق، في العام 1988، فكانت الانطلاقة مع زراعة الباذنجان واللوبيا، وتحوّل بعدها إلى زراعة البطّيخ بالأنفاق .
يقول عسكر لـ”مناطق نت”: “إنّ الفرق بين الزراعة التقليديّة وزراعة الأنفاق، سواء البطّيخ أو الأصناف الأخرى، شاسعًا من النواحي كافّة، ابتداء من الأكلاف المرتفعة (للأنفاق) وصولًا إلى إبكار الإنتاج وغزارته ونوعيّته”.
ويضيف: “إنّ التكلفة الإجماليةّ للدونم الواحد، تحتاج إلى معدّل وسطيّ يلامس ثمانمائة دولار أمريكيّ، موزّعة على النايلون الأبيض والأسود والشتول والحراثة واليد العاملة والريّ والأسمدة وأجور الأراضي، التي ارتفعت بشكل جنونيّ”، مشيرًا إلى “أن زراعة الأنفاق، تكاد تكون محصورة بمستثمرين كبار، على عدد أصابع اليد الواحدة في الجنوب، ما يهدّد المزارعين الصغار” .
ويؤكّد عسكر، “أنّ معّدل إنتاج الدونم الواحد، يتراوح بين أربعة أطنان وثمانية، وهذا بالتأكيد، مرتبط بنوع وحجم الخدمة، التي يقدّمها المزارع”.
ويختم عسكر: “إنّ موسم بطّيخ الأنفاق يحتاج إلى نحو أربعة أشهر، تمتد من مطلع كانون الثاني/يناير وحتّى منتصف شهر أيّار/مايو، حيث يبدأ جني المحصول”.
اليد العاملة.. سوريّة
أضحت أعمال الزراعة، في الجنوب وغيره من المناطق اللبنانيّة، محصورة باليد العاملة السوريّة، التي تشغّل القطاع برمته. وتتقاضى المرأة السوريّة العاملة في هذا القطاع وغيره، أجرًا بالساعة، يبلغ مئة ألف ليرة لبنانيّة، وتعمل يوميًّا، بمعدّل يتراوح بين ستّ ساعات وثمانٍ.
تشتغل العاملات السوريّات على شكل مجموعات تتألّف كلّ واحدة من عائلة واحدة، في كثير منها، من الجدّة والابنة والحفيدة أو الحفيدات، إلى جانب الشباب ممّن يتلقّون بدلات محدّدة عن كلّ دونم، وليس أجرًا على الساعة أو المياومة، وهم يديرون غالبيّة الأعمال، منذ بدايات تجهيز الأرض إلى قطاف الموسم وتوضيبه. وقد انخرط العديد منهم، في مشاريع زراعيّة استثمارية منفردين او بالشراكة مع لبنانيّين.