بظلال الكروم وصدح الأجراس حكاية أعراس الموارنة في الجبل

بينما أضحت أعراس اليوم تُقام في صالات فخمة، وتنظَّم بتفاصيل معقّدة تخضع لحسابات الحداثة والكلفة، كان للزواج في أعالي جبال لبنان يومًا طعمٌ آخر، مختلف تمامًا.
هناك، في ظلال أشجار الأرز ودوالي العنب، في القرى المارونيّة التي صمدت في وجه الزمن، لم يكن الزواج مجرّد عقد قانونيّ أو طقس كنسيّ، بل حكاية كاملة تنسجها العادات، وترويها الأرض والناس معًا. في تلك القرى، لم يكن العرس مجرّد بداية لحياة مشتركة، بل طقس يُجسّد روح المكان وسيرة الناس، بكل ما تحمله من قيم راسخة ومشاعر صافية.
هي عادات وتقاليد شكّلت جزءًا من تراث اللبنانيّين، يتوارثونها جيلًا بعد جيل، وأبًّا عن جدّ، حتّى أصبحت جزءًا لا يتجزّأ من نسيجهم الاجتماعيّ والعائليّ.
لقاءات القدر بظلال الكروم
يشير المؤرّخ المتخصّص في أنماط الحياة الريفيّة المارونيّة، الدكتور أنطوان طوق في حديث إلى “مناطق نت”، إلى أنّ أعراس القرى المارونيّة في الجبل اللبنانيّ، في ذلك الزمن، كانت نموذجًا للفرح الحقيقيّ، ذاك الفرح الذي لا يُصنع في الصالات المغلقة، بل يولد في ظلال الكروم، وعلى ضفاف ينابيع المياه، وتحت قرع أجراس الكنائس.

في قرى الجبل، كان الجميع يعرف بعضهم بعضًا، فالعلاقات لم تكن تُبنى على المصادفة، بل على تفاصيل العيش اليوميّ المشترك. وكانت العين والكروم بمثابة محطّات أساسيّة يلتقي فيها الشباب والصبايا، فيتحوّل المكان إلى مسرحٍ للصدف الجميلة. يقول طوق “إنّ الفتيات كنّ يأتين إلى نبع الماء – العين – لملء الجرار، وهناك تبدأ نظرات الإعجاب الأولى”.
وفي مواسم قطاف العنب أو الزيتون أو التفّاح، حيث يشارك الجميع في العمل، تنبت بذور المودّة، ولكن دائمًا تحت مظلّة حياء صارم. هكذا، يرى الشاب الفتاة التي تعجبه، يتحدّث إليها خلال العمل، ويُعجب بها في صمت، فيحبّها في قلبه، ويعزم على الزواج منها. من دون أن يبوح لها بحبّه أو غرامه.
جسّ النبض بطريقة جبليّة
يتابع طوق: “حين يُعجب الشاب بفتاة، لا يُبادرها مباشرة، بل يبوح بسرّه لأمّه، التي تتولّى مهمّة التعبير عن رغبة ابنها، ولكن بحذر وبطريقة غير مباشرة. تزور الأمّ بيت الفتاة وتلمّح، لا تصرّح، إلى اهتمام ابنها ورغبته بالارتباط”.
وفي حال كانت الأمّ متوفّاة، تتولّى العمّة أو الخالة هذا الدور، ليُعرف هذا الطقس باسم “جسّ النبض”. وكان يكفي أن تردّ الفتاة بابتسامة خفيفة أو بكلمة لطيفة، لتُعتبر موافقة خجولة. أمّا الصمت أو التزام اللامبالاة، فكانا إشارة صريحة للرفض، ولكن بلباقة وهدوء.
زواج العائلة لا الفرد
بحسب الدكتور طوق، لم يكن الزواج في المجتمع القرويّ قرارًا فرديًّا، بل مسؤوليّة عائليّة واجتماعيّة بامتياز. فبعد أن تلمّح الفتاة بموافقتها، يجتمع أهل الشاب في مجلس عائليّ يُعقد عادة في منزل والده أو لدى كبير العائلة، بحضور كبار الأسرة وأفرادها، للتباحث في قرار إتمام الزواج بين الشاب والفتاة. وفي حال الاتّفاق، يُحدَّد موعد للقيام بزيارة رسميّة إلى أهل الفتاة، يتمّ خلالها مكاشفتهم بالأمر وطلب التقرّب إليهم، وفقًا للأعراف والتقاليد الراسخة.
الخطبة والرباط المقدّس
يُشكّل “الحكي” أو التقدّم الرسميّ لطلب يد الفتاة، بداية مسار الخطبة. يُوضح طوق أنّ الخطبة، في بداياتها، كانت ذات طابع اجتماعيّ بحت، لكنّها سرعان ما تأخذ بُعدًا كنسيًّا، لتعزيز الالتزام ومنع أيّ تدخّل من شباب آخرين أو محاولات “خطف” محتملة.
طوق، لم يكن الزواج في المجتمع القرويّ قرارًا فرديًّا، بل مسؤوليّة عائليّة واجتماعيّة بامتياز.
وغالبًا ما كان كاهن الرعيّة يشارك في مراسم الخطبة، فيُجري بعض الطقوس الدينيّة، ويُلبّس العروس محبسًا من الفضّة أو الذهب. ومنذ تلك اللحظة، يُصبح الانفصال عن هذه الخطبة أمرًا بالغ الصعوبة، إذ يُعتبر هذا الطقس بمثابة تعهّد علنيّ، يُحرَّم بعده على أيّ شاب آخر التقدّم لطلب الفتاة.
“البقجة”… صُرّة الذاكرة والمهابة
بحسب طوق فإنّ جهاز العروس، أو ما يُعرف في القرى باسم “البقجة”، هو تجهيز العروس بملابسها وأدوات زينتها وحُليّها الذهبيّة، التي يُقدّمها لها العريس وأهله. والبقجة، وهي لفظة تركيّة الأصل، كانت عبارة عن قطعة قماش جديدة -غالبًا ما تكون مُرقّطة- يُوضَع فيها جهاز العروس، ثم تُصرّ وتُحمل إلى بيتها الجديد.
يقول طوق: “من هنا وُلد التعبير الشعبيّ ‘الصُرّة مرّة على العريس والعروس معًا‘، إذ يتحمّل العريس عبء دفع مبالغ معتبرة لتكون محتويات البقجة ذات قيمة، فيما تتحمّل العروس عبء حملها إلى منزل زوجها، في لحظة مغادرتها بيت أهلها”.
ولذا، كانت البقجة رمزًا لهيبة العروس ومكانة عائلتها، ودلالة واضحة على الاحترام المتبادل بين العائلتين.
من “التحليلة” إلى السهرية
بعد الاتّفاق بين أهل العروسين، يتمّ تعيين موعد العرس أو ما يُعرف بـ”الإكليل”. يقول طوق: “يرافق هذا الموعد ما يسمّى بـ”التحليلة”، وهي إذن رسميّ يُمنح للعروسين لإتمام الزواج، شرط عدم وجود موانع شرعيّة كقرابة دمويّة. وفي حال وجود مثل هذه الموانع، يجب الحصول على الإذن من مطران الأبرشيّة أو من ينوب عنه”.
تبدأ بعدها “العزيمة”، حيث يتولّى أقرباء العريس وأقرباء العروس بشكل منفصل زيارة الجيران والأصدقاء لدعوتهم إلى المشاركة في فرحة الزفاف في اليوم المحدّد.
وتسبق العرس “السهريّة”، حيث يجتمع أقارب وأصدقاء العريس في سهرة حافلة بالغناء والرقص، وتُقدّم خلالها أطباق الطعام والحلويّات، ويُقام الاحتفال عينه عند العروس. وفي منتصف الليل، يزور العريس مع أقربائه وأصدقائه بيت العروس وهم ينشدون الأغاني والأهازيج.
وعند وصولهم، تختلط صيحات الترحيب بالأغاني، ويُقدّم لهم بعض الضيافات التقليديّة مثل الزبيب، التين المجفّف، القضامة والحلوى.
جلوة العريس والعروس
يشير طوق إلى أنّ الجلوة كانت احتفالًا خاصًّا يُقام لتحضير العريس والعروس إلى يوم العرس. فالشباب يجتمعون حول العريس ليحلقوا شعره، ويحمّموه، ويغنّوا أهازيج تمجّد رجولته وتزيد من هيبته، وتنتهي هذه الاحتفاليّة بارتداء العريس للملابس الداخليّة البيضاء، ثمّ اللباس الخارجيّ الذي سيرتديه في العرس.

وكانوا ينشدون بأصوات مفعمة بالفخر والحماسة:
“عريس يا عريس تحت الجوز حلقولك
واجوا إخوتك ع الحمرا وشدولك
وانت فارس الفرسان والعطر ع الهيبة رشولك”
أمّا العروس، فكانت تُغسَل بماء الزهر، تُحنّى يداها، وتكحّل عيناها، وسط زغاريد النساء، في احتفال غالبًا ما يُقام في الهواء الطلق، جانب المنزل أو عند العين. وكانت النسوة يردّدن بأصوات متناسقة ومتغنّية:
“الوجه دارة قمر والعنق غصن البان
والشعر قدّ الغمر والخصر عود الخيزران
حاجة تتدّللي حاجة تتغنّجي
عريسك ناطرك لهفان”
يوم العرس… احتفال مهيب ومراسم متجذرة
غالبًا ما كان يُحدّد يوم العرس يوم الأحد، يقول طوق ويتابع: “يعدّ انتهاء قدّاس الكنيسة مباشرة، في حينه، ينطلق موكب من بيت العريس إلى بيت العروس، وسط أصوات الغناء والزغاريد والتهليل، في مشهد يمزج الفرح والاحتفال”.
وكانوا ينشدون بأصواتٍ حماسيّة:
“جينا وجينا وجينا
جبنا العروس وجينا
وين العريس الحلو يلاقينا
جينا وجينا وجينا
جبنا العروس بوجّ بيلالي
وينو عريسها بو زيد الهلالي
جينا وجينا وجينا
جبنا العروس سنبلة قمح سلّموني
وين العريس الحلو
يستلمها ويغمرها للعمر موني”
عند وصولهم إلى الكنيسة، تبدأ الألعاب التقليديّة مثل ألعاب السيف والترس، وضرب الجريد، والتباري بالجرن والمحدلة، وتربيع جرس الكنيسة.
يدخل العروسان ثمّ الشّبينان (الشاهدان)، يليهم الأهل والأقارب والمدعوّون. يقفون جميعًا أمام المذبح، حيث يبدأ الكاهن بمراسم “الإكليل”.
وفي أحد الطقوس، تأخذ إحدى قريبات العريس إبرة بها خيط غير معقود، وتخيط ثوبي العروسين، وهو اعتقاد شائع بأنّ هذا العمل يقي من “الربطة”؛ أي يمنع وقوع الحسد أو العين التي قد تمنع العريس من ممارسة حياته الزوجيّة**.**
المراسم فرحة بالتصديق والوعود
يقول طوق إنّه من المستلزمات أن يضع الكاهن على رأس العريس إكليلًا، ويسأله بصوت مرتفع إن كان يريد العروس زوجة له فيردّ العريس بـ “نعم” بصوتٍ واضح، فتعلو هيصات الفرح داخل الكنيسة.
ثمّ يضع الكاهن الإكليل على رأس العروس، ويسألها إن كانت تريد العريس زوجًا لها، فتجيب أيضًا بـ “نعم” بصوتٍ مرتفع، فيعلو التصفيق والهتافات.
وبعد انتهاء المراسيم، يعود الجميع إلى البيت الزوجيّ، مردّدين:
“مبارك إكليل، مبارك
تعيش وتثمر بديارك”
وعند الاقتراب من بيت العريس، ينبري شخص أو أكثر بالغناء:
“جينا وجينا وجينا
جبنا العرسان وجينا
كبار وزغار بدنا خلعة باب الدار”
عودة العروس
يُزفّ العروسان على صهوتَي جوادين، يتقدّمهما موكب الفرح نحو البيت الزوجيّ، في مشهد مهيب. وهناك، تستقبل أمّ العريس العروس بالترحاب، وتُقدّم لها “الخلعة”، وهي هديّة رمزيّة قد تكون من الذهب أو القماش أو النقود.
وقبل أن تخطو العروس إلى داخل المنزل، تُلصق “الخميرة” على العتبة، رمزًا للبركة والخصب والخير.
“الشوبشة”
يُشير طوق إلى أن “الشوباش” أو “الشوبشة”، وهي كلمة تركيّة تعني العطاء بمحبّة، كانت من التقاليد الراسخة في أعراس الجبل، حيث لم تكن الهدايا المتبادلة عادة منتشرة كما اليوم.
وخلال الاحتفال الذي يلي العرس، تُقام الشوبشة كمباركة مادّيّة، إذ يفرش الأشبينان وشاحًا أو كوفيّة، ويناديان بصوت مرتفع “شوباش للعروسين”، فيبدأ المدعوّون بوضع المال عليها، كلٌّ بحسب قدرته.
وفي نهاية الاحتفال، تُجمع هذه الأموال وتُقدَّم للعروسين لمساعدتهما في بدء حياتهما الجديدة.
دبكة وشعر واحتفال
يؤكّد طوق أنّ الزواج في الجبل لم يكن مجرّد شأن خاصّ بالعريسين، بل كان فرحًا جماعيًّا يُشارك فيه الجميع، من كلّ أنحاء القرية، “فالدبكة، وأهازيج العتابا، والرقص، ومأدبة الطعام التي تُقام لجميع المدعوّين، كلّها كانت جزءًا من هذا العرس الجماعي”.
ويشير طوق إلى أنّ الأعراس كانت المناسبة الوحيدة التي يُسمح فيها للشباب والصبايا بتشابك الأيدي في الدبكة، ما يجعل هذه المناسبة مساحة نادرة للفرح الجماعيّ وكسر قيود العادات اليوميّة
ويختم طوق: “هذا التراث ليس مجرّد حنين إلى الماضي، بل هو شهادة حيّة كيف كانت المجتمعات تُبنى على قيم المشاركة، والحياء، والاحترام المتبادل”.