بعد أن دمرها القصف مياه صور تعود إلى “مجاريها”

استهدفت طائرات الموت الإسرائيليّة في الـ 18 من تشرين الثاني (نوڤمبر) الماضي، محطّة مياه صور، ما أسفر عن تدميرها بالكامل واستشهاد موظّفيْن بداخلها، ممّا تسبب في انقطاع المياه عن 30 ألف مشترك في المدينة ومحيطها. أتت الغارة على مضخّات المياه وشبكة الخطوط المتفرّعة منها، وطالت كذلك منطقة الخزّانات والمصافي (الفلاتر)، لتغدو المؤسّسة منكوبة بكلّ ما للكلمة من معنى، ولتخرج عن الخدمة ولم يعد في مقدورها تزويد المدينة بالمياه.

وضعت الحرب أوزارها، هكذا يفترض، بحسب حيثيّات وقف إطلاق النار الساري المفعول منذ الـ27 من تشرين الثاني الماضي، على الرغم من الخروقات والانتهاكات الإسرائيليّة اليوميّة، لكن ماذا عن عودة المواطنين إلى بلداتهم وقراهم، حيث الدمار الذي شهدوه لم يقتصر على بيتوهم وأملاكهم فحسب، وإنّما طاول سائر المرافق والبنى التحتيّة، التي يؤدّي فقدانها إلى عدم توافر مقوّمات الحياة الأساسيّة، وأهمّها المياه، بعدما استهدفت طائرات الموت الإسرائيليّة كثيرًا من هذه المرافق وأحالتها خرابًا وركامًا؟

الدمار كبير، لكنّ إرادة الحياة أكبر وأقوى، وهذا ما تحقّق في سياق إعادة تشغيل المحطّة إذ شكّلت إعادة تشغيلها خطوة استثنائيّة أتاحت للمواطنين إمكانيّة التزوّد بالمياه، وإن كان ذلك عبر حلول آنيّة، على أن تبدأ الإدارات المعنيّة بالتعاون مع السلطات المحلّيّة والمؤسّسات الدوليّة بإنجاز حلّ مستدام لاحقًا.

انتهاكات إسرائيليّة

الاعتداءات الإسرائيليّة الخطيرة وما نتج عنها، تمثّل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، وخرقًا للاتّفاقيّات الدوليّة، خصوصًا وأنّها استهدفت عمدًا القطاعات الحيويّة، وما تمثّل من شريان أساس في حياة المواطنين، وأهمّها قطاع المياه، إذ استهدفت إسرائيل خلال الحرب قناة الناقل الرئيس لمياه نهر الليطانيّ باتّجاه مصبّ النهر في القاسميّة، والذي يروي 6000 هكتار من الأراضي الزراعيّة الساحليّة. كان ذلك بتاريخ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.

محطة مياه صور التي دمّرتها الغارات الاسرائيلية

مع سريان وقف إطلاق النار وعودة أهالي المدينة إليها، وعلى رغم الدمار الهائل الذي طال أكثر من 50 مبنى من أبنيتها، جاءت مشكلة المياه وما تمثّل من حاجة ضروريّة لتمكين العائدين. ففي الحارة القديمة تبدّت مشاهد صادمة لنقل المياه بـ “الغالونات” من البحر، فيما كانت الصهاريج تنقل المياه وتعمل على ضخّها في الخزّانات الفارغة.

معاناة العائدين

“عدنا ولا مياه للتنظيف والمعيشة. تشاركنا مع جيراننا بشراء صهريج مياه لتسيير أمورنا، وللتفكير كيف يمكن أن نواجه هذه المصيبة”، هذا ما قالته ريما جوني، والتي تقطن صور لـ “مناطق نت” وأضافت: “عم يقولوا ما في محطّة ميّ وما منعرف شو الحلّ”. أمّا غازي السمرا، فأشار لـ “مناطق نت” إلى أنّ “الحاجة الأوّليّة اليوم هي للمياه، فبعض الأهالي فضّلوا عدم العودة إلى المدينة قبل حلّ هذه المشكلة”.

“عودة الحياة إلى صور لم تكن لتكتمل بدون توافر المياه فهي شريان الحياة” على حدّ قول إيلي براضعي ابن المدينة”، ويضيف في حديث لـ “مناطق نت”: “كنا ننقل مياه البحر لاستعمالها في المراحيض كي نحدّ من استعمال المياه العذبة التي كانت تنقلها البلديّة عبر صهاريج لتزويد الأهالي بحاجتهم، أو نشتريها بسبب الضغط على طلب المياه، واليوم حلّت هذه المشكلة، عسى أن تحلّ بقيّة المشاكل”.

عودة المياه بجهد قياسيّ

وضع خروج محطّة المياه عن عملها المدينة والجهات المعنيّة أمام تحدّيات كبيرة، ولا سيّما “مصلحة مياه لبنان الجنوبيّ” وبلديّة صور، لأنّ “الحلّ ما كان ليتحقّق بعمليّة إصلاح بسيطة”، هذا ما أكّده رئيس بلديّة صور واتّحاد بلديّاتها المهندس حسن دبوق لـ “مناطق نت” خلال جولة لنا في المحطّة.

براضعي: كنا ننقل مياه البحر لاستعمالها في المراحيض كي نحدّ من استعمال المياه العذبة التي كانت تنقلها البلديّة عبر صهاريج لتزويد الأهالي بحاجتهم، أو نشتريها بسبب الضغط على طلب المياه، واليوم حلّت هذه المشكلة

ويشرح دبوق كيف تمّت العمليّة “بجهد جبّار ووقت قياسيّ”، لافتًا إلى أنّ “ما حصل هو حلّ موقّت لتيسير أمور سكّان المدينة ومحيطها ممّن عادوا إليها، حيث كثير منهم كان يتفقّد منزله ويمضي وقته فيه نهارًا، ثمّ يغادره ليلًا، بسبب انقطاع المياه”.

عن عمليّة إعادة تشغيل المحطّة يوضح دبوق أنّ “عمليّة تزويد المدينة بالمياه تطلّبت خطّة سريعة، وقد موّلت المشروع اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر ونفّذته (شركة عبيد للمضخّات) بإشراف مؤسّسة مياه لبنان الجنوبيّ، من خلال ربط مصدر المياه الرئيس من رأس العين بمضخّات جديدة، بعد أن تمّ الاستغناء عن منطقة الفلاتر لأنّها مدمّرة كلّيًّا”. ويشير دبوق إلى أنّ “الحظّ أبقى على أحد الخزّانات بمنأى عن التدمير فتمّ استعماله على رغم أنّ سعته لا تتجاوز الـ 200 متر مكعّب”.

ويؤكّد أنّه “نظريًّا كنّا نتوقّع أن يغطّي هذا الحلّ 60 في المئة من حاجة المدينة إلى المياه، ولكن فعليًّا كانت النتيجة أفضل بعد أن عادت المياه إلى المدينة ووصلت إلى مختلف الأحياء”، لافتًا إلى “وجود هدر كبير من الشبكة بسبب الأضرار التي خلّفها العدوان في الأحياء”.

تابع دبوق: “نقوم لوجستيًّا بمساندة عمل “مؤسّسة مياه لبنان الجنوبيّ” لإصلاح هذه الأضرار، والأولويّة اليوم تتمثّل في العمل على إعادة الخدمات إلى المدينة، وتأمين سُبل الحياة للمواطنين، وهذا ما بدأنا به، ونعمل عليه بتعاون مع المؤسّسات المعنيّة والجمعيّات المحلّيّة والدوليّة”.

إصلاح محطّة مياه صور

يقول رواد العقلة، وهو مهندس مشرف على مشروع إصلاح محطّة مياه صور من مصلحة مياه لبنان الجنوبيّ، لـ “مناطق نت”: “ما حصل هو أنّنا ربطنا خطّ رأس العين بجزء من شبكة صور، كذلك ربطنا محطّة الرشيديّة بجزء ثانٍ من الشبكة”.

ويضيف: “إنّ بناء محطّة جديدة يتطلّب وقتًا طويلًا وكلفة تقدّر بملايين الدولارات، وهذا ما يجب أن يحصل بالتأكيد، بعد وضع مواصفات فنّيّة ومناقصة”، لافتًا إلى “أنّ الحلّ الجذريّ يفترض أن يتمّ العمل عليه لاحقًا بعد أن دمّرت المحطّة، والشبكة الموجودة اهترأت وتضرّرت خلال الحرب”.

ورأى العقلة أنّ “ما تمّ إنجازه بات يعرف بمشروع المهمّة المستحيلة التي أنجزت في أيّام قليلة أو المهمّة المعجزة، ويخدم نحو 60 في المئة من مدينة صور، بمعنى أنّه صار بالإمكان تغطية 60 في المئة من الطلب، وهذا يتمّ تدريجًا لأنّ لدينا شبكات مفتوحة ونحاول معالجتها”.

مؤسسة مياه لبنان الجنوبي

وكانت “مؤسّسة مياه لبنان الجنوبيّ” قد أصدرت بيانًا، حول “إنجاز أشغال الصيانة اللازمة لإعادة ربط محطّة مياه البصّ بشبكات التوزيع واستعادة التغذية بالمياه لمدينة صور وضواحيها”. وجاء في البيان أنّ “فرق الأشغال والصيانة أنجزت في وقت قياسيّ رفع الركام وتنظيف محيط المنشأة التي كان طيران العدوّ قد استهدفها بغارة أدّت إلى استشهاد موظّفَين وتدمير مباني ومنشآت وتجهيزات المحطّة”.

العقلة: ما تمّ إنجازه بات يعرف بمشروع المهمّة المستحيلة التي أنجزت في أيّام قليلة أو المهمّة المعجزة، ويخدم نحو 60 في المئة من مدينة صور، بمعنى أنّه صار بالإمكان تغطية 60 في المئة من الطلب

وأوضحت أنّ “فرق المؤسّسة بذلت بالتعاون مع اتّحاد بلديّات صور واللجنة الدوليّة للصليب الأحمر جهودًا مضنية منذ وقف إطلاق النار لتسريع الأشغال وإنجاز المراحل التمهيديّة من أشغال مدنيّة قبل مباشرة الأشغال الميكانيكيّة، لإعادة ربط خطوط التوزيع في المحطّة بمصادر المياه والشبكة العامّة، وتأمين المياه للمواطنين بعد عودتهم إلى منازلهم”.

وأكّد البيان أنّ “المؤسّسة ستواصل إنجاز الدراسات والخطط اللازمة لمشروع إعادة بناء محطّة مياه البصّ وتطويرها لزيادة كمّيّات المياه المنتجة والموزّعة لتلبية الحاجات المتزايدة في مدينة صور وضواحيها”.

ما حقّقته صور ومنطقتها يمثّل نموذجًا للتعاون بين البلديّات ومؤسّسات الدول والمنظّمات الدوليّة، وهو فعل صمود وتحدّ، لا تستطيعه إلّا الإرادات الصلبة المؤمنة. وأبناء الجنوب اعتادوا أن ينهضوا ببلداتهم متخطّين الصعاب والعثرات، دون أن يعني ذلك أنّ المعاناة انتهت، فثمّة كثير من العمل أيضًا، لكن البواكير جادت بأولى “الثمار”، ويبدو أنّ مواسم الخير ستعود لتهلّ من جديد، من دفق المياه إلى المنازل والحقول العطشى والتي تفيض الآن نخوة وقوّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى