بعلبك :الأمن والعشائرية وما بينهما – حسين حمية
مع كل حادثة أمنية أو إجرامية في منطقة بعلبك، وآخرها إطلاق مسلحين النار على دورية للجيش اللبناني في حي الشراونة أدت لاستشهاد المجند رؤوف يزبك، ينغلق السجال حول المسبّبات على فكرتين، الأولى تشدّد على أن الأمن هو مفتاح الإنماء في المنطقة، والثانية تعاكسها وتنادي الاكتفاء بالإنماء لأن الأمن يأتي معه وإذا ذهب يذهب معه.
لقد طال هذا السجال وامتد واتخذ مؤخرا شكلا بيزنطيا عقيما، والنتيجة هي لا أمن ولا إنماء، لكن المستجد بالحادثة الأليمة مؤخرا، هو رد المشكلة الامنية في المنطقة إلى تركيبة بنيتها الاجتماعية، والمقصود سيادة العشائرية ومنطق الثأر، وقد أسهمت بعض وسائل الإعلام في تحوير ما يحدث واخذه بعيدا عن أسبابه الفعلية.
مع ذلك، ولو سلّمنا بأن “العشائرية” هي السبب، غير أن هذه النزعة ليست حكرا على البعلبكيين، بل نراها تنخر كل المكونات الأهلية اللبنانية حتى لدى العائلات التي تزعم أنها تنهل من الثقافات الغربية أو تعتنق العقائد القومية أو تذوب في “أمة الإسلام”. ومن يدقّق جيدا في عمليات التصعيد الاجتماعي والاقتصادي والترقي السلطوي للأفراد أو العائلات في بلدنا، يجد أن عامل القرابة بشكليه العائلي والمناطقي يتقدم على سائر العوامل، من كفاءة وأهلية وذكاء ومبدئية واحترام للقوانين. فلا يعقل أن تكون العشائرية مذمّة في منطقة بعلبك، بينما تُعتبر من طبيعة الأمور في أماكن أُخرى.
أضف، ولو كانت العشائرية معوّقا للإنماء والأمن، وهي كذلك، لا بل هناك آلام واوجاع غير منظورة تتأتى من هذا النوع من العصبيات العمياء، وسيكون لنا حديث فيها، لكن سؤال التجريم والاتهام سنطرحه الآن وهو: من المسؤول عن استدامة العشائرية وعدم تفكيكها، ومن الذي يغذّيها وينمّيها ويوفر لها أسباب البقاء والاستمرار؟ والجواب واضح، ليس أهل المنطقة وليس عشائرها ولا عائلاتها.
العشائرية بصيغتها البعلبكية، لن يتم تفكيكها بمواعظ محافظ بعلبك الهرمل أو حزب الله أو حركة أمل ولا خطبهم، فالعشائرية في بعلبك، هي خيار عند الناس، يمكن الاستغناء عنه بسهولة كما يمكن دفع البعلبكيين وجرّهم إليه، وسبق للمنطقة أن مرّت بهذين الخيارين.
وللتاريخ، كان البعثيون والشيوعيون والقوميون السوريون، من أوئل الذين حملوا معاول عقائدهم لهدم جدران العشائرية المرفوعة بين ابناء المنطقة وتفكيك بنيتها بثقافات ثورية وحداثية جديدة، فكانت السابقة التي هزّت وجدان المنطقة كلها، عندما أصرّ المرحوم محمد حرب وحبيب ذغيب على التمسك بعلاقتهما الحزبية مع ما تجره عليهما من مشاكل كبيرة في بيئتيهما الأهلية، فلم تستطع الحرب الدموية الطويلة بين عائلتيهما المس بالعلاقة الرفاقية البعثية بينهما، على الرغم من وقوع العديد من الضحايا بعمليات الثأر المتبادلة.
أنموذج محمد حرب وحبيب ذغيب سطع نورا جديدا في منطقتنا، فالثقافة الجديدة هزمت الثأر والدم والسيف، ونزعت أصفاد العشائرية والعائلية من بعض شباب المنطقة، وقدمّت العلاقات العقائدية والرفاقية على علاقات القرابة، وترافق ذلك، مع اهتمام ملحوظ لعهدي فؤاد شهاب وشارل حلو في افتتاح مدارس جديدة في معظم قرى المنطقة، فارتسم اتجاه لفك علاقة المنطقة عن بنيتها العشائرية، وكان بالإمكان الوصول إلى الانفكاك النهائي لولا التبدلات السياسية التي جاءت مع الدخول العسكري السوري إلى لبنان.
لأسباب تتعلق بمضاعفة نفوذهم في المنطقة ومحاربة الأحزاب اليسارية المعارضة للدخول السوري، أعطى الضباط السوريين جرعة دعم قوية لزعماء العشائر والعائلات بوجه الأحزاب لاسترداد ما ضاع للعشيرة والعائلة بفعل الثقافة الحزبية، ثم كان تنامي نفوذ حركة أمل ومن بعدها ومعها حزب الله، وتغيرّت قواعد اللعبة بطريقة مختلفة عن السابق، وسيكون لنا حديث فيها في وقت آخر ومناسب.
توقفت عملية تفكيك العشائرية بالثقافة الحزبية الوطنية والقومية والأممية، وبالوقت ذاته، هناك من حاول إعادة نفخها على غير أصولها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لاستخدامها في مشاريع أمنية وسياسية واستثمارية، فبرزت بأشكال ممسوخة تقوم على ضجيج إعلامي تسوّقه أحزاب السلطة لكن لا أصداء لها على الأرض.
إلى هذا، يبقى المسؤول الأول عن بعث العشائرية بمظاهرها القديمة والممسوخة، هو الدولة، أو الاصح السلطة، التي تمارس سلطتها بطريقة وأساليب تنكرها القوانين والأنظمة ومفهوم الدولة، وهذا النهج في التعاطي مع المنطقة أسقط ولاء ابن المنطقة للدولة، وأحدث فراغا كبيرا قامت بتعبئته العشيرة والعائلة قسرا أو دفعها إليه انتهازيون ووصوليون لتحقيق مصالح خاصة، أو على قاعدة، حيث لا يكون مخفر نشيط ولا يكون خدمات فعلية ولا يكون قاض نزيه وضمان اجتماعي ستحضر العمومة وأبناء العمومة والعائلة كلها لإعادة التوازن وتصحيح الواقع بالعدة القديمة والصدئة