بعلبك المنسية خلف الهياكل وتحت الركام
في الثاني من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، استأجر حيدر زعيتر البالغ 40 عامًا من أبناء بعلبك الهرمل، جرّافة على نفقته الخاصّة للعمل على انتشال جثتي عمّته وابنها اللذين استشهدا، وبقيت جثّتاهما تحت الركام، بفعل الغارات الإسرائيليّة المكثّفة على المدينة ومحيطها.
يروي زعيتر لـ “مناطق نت” معاناة أهل منطقة بعلبك فيقول: “الأحزاب المسؤولة والبلديّات في المنطقة كانت ولا تزال غائبة كلّيًّا، فقط قدّموا لنا أكياسًا لنقل جثث ذوينا، البلديّة ليس لديها إمكانات ولم نشهد سوى حضور شكليّ لرئيس البلديّة”.
بعلبك مهمّشة حتّى بالموت
مع توسّع رقعة الحرب في الـ 23 أيلول (سبتمبر) الماضي، بدأت بعلبك تعيش أصعب أوقاتها، بعد أن خلّفت الغارات الإسرائيليّة المكثّفة على المدينة والمنطقة مئات الشهداء والجرحى جلّهم من الأطفال والنساء، ومن ضمنهم عائلات سقطت بأكملها.
مع بدء الغارات الإسرائيليّة بدأت موجة النزوح الأولى إلى المناطق المحيطة ببعلبك، لكن عندما وضع المتحدّث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، كلّ مدينة بعلبك وجوارها ضمن دائرة الاستهداف خلال منشور له عبر منصّة “X”، شهدت المدينة موجة نزوح كبيرة، في ظلّ غياب أيّ مركز للإيواء أو خطط طوارئ من قبل البلديّات ومحافظة بعلبك.
مع توسّع رقعة الحرب بدأت بعلبك تعيش أصعب أوقاتها، بعد أن خلّفت الغارات الإسرائيليّة المكثّفة على المدينة والمنطقة مئات الشهداء والجرحى جلّهم من الأطفال والنساء، ومن ضمنهم عائلات سقطت بأكملها.
إبّان الغارات وموجات النزوح لم تتحرّك البلديّات أو تتّخذ أيّ خطوة بحسب زعيتر الذي عبّر عن أنّ “دور البلديّات قبل الحرب كان معطّلًا كلّيًّا، إذ لم تستطع حينها جمع النفايات من المدينة، فما بالك في الحرب حاليًا؟”. وعزا زعيتر سبب ذلك إلى “فساد البلديّات قبل الحرب ومعروف دورها السياسي، إذ لم تكن هناك خطط لاستدامة المجتمعات والنهوض بها بل كانت تتّبع سياسة المحسوبيّات ودخلنا إلى الحرب مدمّرين”.
بعد المجزرة التي استهدفت أقاربه، خرج زعيتر من بعلبك متوجّهًا إلى بلدة دير الأحمر التي استقبلت النازحين من القرى والبلدات المحيطة بها، والتي تتعرّض لغارات يوميّة. يروي زعيتر معاناته قبل نزوحه فيقول: “نحن ذاهبون إلى المعركة، وفي الوقت نفسه لا توجد رافعة لإزالة الأنقاض في المدينة، لا في حوزة البلديّات ولا الأحزاب، هناك غياب تامّ للدولة من خلال تفريغ المؤسّسات والبلديّات وهذا حصل قبل بدء الحرب”.
“واقع المدينة اليوم مهشّم، وهو خارج الخدمة كلّيًّا لناحية المساعدات والعمل الإغاثيّ، إذ يقتصر على الجمعيّات الصغيرة في المدينة، وعددها أربع تغطّي مراكز الإيواء فقط، أمّا من بقي في المدينة فمتروك لمصيره” يختم زعيتر.
أحزاب تغيّب البلديّات
ثمّة عوائل بأكملها شُطبت من السجلّات الرسميّة، نتيجة المجازر التي نفذها العدوّ الإسرائيليّ على مدينة بعلبك ومحيطها، إذ ارتفعت حصيلة العدوان على المحافظة ومعها بلدات الكرك ورياق وعلي النهريّ (تابعة لقضاء زحلة) إلى 521 شهيدًا و1055 جريحًا نتيجة 1030 غارة إسرائيليّة منذ الـ 23 من أيلول الماضي، ولغاية قبل ظهر الخميس الـ 31 تشرين الأوّل الماضي، وذلك بحسب التقارير اليوميّة الصادرة عن طوارئ وزارة الصحّة. لكن منذ ذلك التاريخ ازدادت الأرقام بشكل مخيف بعد الغارات اليوميّة التي تودي بعديد من الشهداء والجرحى.
من جهته لا يوافق رئيس بلديّة بعلبك بالإنابة مصطفى الشلّ على ما يتداوله أبناء منطقته “عن غياب دور البلديّات في عمليّة رفع الأنقاض وعملها التنسيقي”. يقول الشلّ لـ “مناطق نت”: “الإمكانيّات المتوافرة لدى البلديّة قليلة جدًّا، فالدولة لم تضع إمكانيّات مادّيّة تحت تصرّفنا، اليوم البلديّة تملك فقط آليتين لرفع الأنقاض، بينما الجهات الحزبيّة هي التي تنسّق حول موضوع مساعدة الأهالي”. وحول دفع الناس من جيوبها أموالًا لاستئجار جرّافات أوضح الشّل أنّ “الناس في المدينة لم يدفعوا دولارًا واحدًا من جيوبهم، وهذا العمل يقوم به الدفاع المدنيّ والهيئة الصحيّة”.
يتابع الشل “البلديّات تعاني من صعوبات عدّة تعيق عملها، أوّلها نقص التمويل، إضافة إلى نزوح عمّال البلديّات، لذلك يقتصر دورها حالّيًّا على تسجيل لوائح بأسماء الذين نزحوا من المدينة، والعمل على إزالة الأنقاض وفتح الطرقات، وصولًا إلى إزالة النفايات”.
بحسب الشلّ تخطّى عدد النازحين من مدينة بعلبك الـ 120 ألف نسمة، “في حين هناك صعوبة في إيصال مساعدات للناس التي بقيت في منازلها، فهؤلاء لم يتلقّوا أيّ مساعدات تُذكر، لأنّ الكمّيّة التي وصلت إلى المدينة لم تتخطَّ الـ 500 حصّة وغالبيتها تحوّلت إلى مراكز الإيواء”. ويشير الشلّ إلى “عدم وجود جهات مانحة أو بلديّات تساعد من بقي في منزله، بل الجهات الحزبيّة هي التي توزّع مساعدات للناس في منازلها”.
وينتقد الشلّ طريقة عمل محافظ بعلبك قائلًا “لا أعلم إن كان هو مُغيَّبًا أم مُغيِّبًا نفسه، فالبلديّات جزء من دوره، ومن المفترض أن يكون لديه اجتماعات وتنسيق وإدارة كوارث وهذه مسؤوليّته، لكن للأسف لم يحصل هذا التنسيق”.
تهميش ومؤسّسات منهارة
لم يخرج عمّار دالاتي (24 عامًا) وهو ناشط في العمل الإغاثيّ من مدينته بعلبك، على رغم القصف المتواصل، ونزوح الناس، بل فضّل البقاء وإغاثة من تبقّى داخل المدينة. يروي دالاتي لـ “مناطق نت” تفاصيل الحياة اليوميّة في بعلبك مع كلّ ما تشهده من غارات ومجازر فيقول: “إلى أين نذهب، إلى ذل مراكز الإيواء؟”.
يؤكّد دالاتي ما قاله زعيتر عن واقع مدينتهما المأسويّ والتهميش الذي لحق بها قبل الحرب، والذي ازداد سوءًا ووصل إلى الهاوية في ظلّ الحرب. يشير دالاتي إلى أنّه “لا توجد جهة مسؤولة ترعى شؤون الناس، ومنها الوجبات الغذائيّة التي وعلى الرغم من أنّها تُوزّع إلّا إنّها لا تكفي، ناهيك بالمحسوبيّات الإغاثيّة”. واصفًا الوضع “هنا الصمود بإمكانيّات صفر أيّ كمن ينتظر الموت”.
بلديات عاجزة ومفلسة
يتساءل دالاتي: “أين نوّاب بعلبك؟ كلهم أصبحوا مستهدفين؟ اليوم نراهم يشاركون في جلسة مجلس النوّاب، وهل سيبقى دور محافظ بعلبك بشير خضر عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ فقط؟”. عن دور البلديّات ونقص الإمكانيّات وعدم تواجده في المحافظة، يشير المحافظ بشير خضر إلى أنّ “تأخّر وصول الجرّافات لرفع الأنقاض عن الشهداء والجرحى في بعلبك، يعود إلى خوف سائقي الجرّافات من الاستهداف، إضافة إلى صعوبة الوصول إلى المناطق المتضرّرة نتيجة استمرار القصف”، معتبرًا أنّ “إمكانيات البلديّات متواضعة”.
يتابع في حدث لـ “مناطق نت”: “هناك بلديّات أصبحت خارج الخدمة، وأخرى لا يوجد فيها موظّفون، والعدد الأكبر من بلديّات بعلبك الهرمل لا تتعدّى المجالس البلديّة، لكن من دون وجود شرطيّ بلديّ أو حتّى موظّف، والأمور فيها تُدار من قبل الأعضاء، والسبب يعود إلى نقص الإمكانيّات، لأنّ المنطقة محرومة”.
يضيف المحافظ خضر: “منذ ما قبل الحرب كانت البلديّات مفلسة، هناك موظفون لم يقبضوا مستحقّاتهم الماليّة منذ أشهر، إذ لا توجد ميزانيّات، بل أكثر من ذلك البلديّات مديونة أيضًا”.
ويبرّر خضر سبب غيابه بأنّ “المحافظة كلّها تحت القصف، والبلديّة خرجت عن الخدمة، وبات العمل يتمّ من خارج مبنى المحافظة كونها منطقة مستهدفة، فالموظّفون نزحوا ونحن بحال حرب، وعلى الرغم من ذلك أنا أعمل 24 ساعة على الأرض، لكنّني لا أستطيع الردّ على جميع الاتّصالات، إضافة إلى وجود خطّ ساخن وُضع في خدمة المواطنين”.
خضر: منذ ما قبل الحرب كانت البلديّات مفلسة، هناك موظفون لم يقبضوا مستحقّاتهم الماليّة منذ أشهر، إذ لا توجد ميزانيّات، بل أكثر من ذلك البلديّات مديونة أيضًا”
يتابع خضر “أتوجّه يوميًّا إلى منطقة البيال في بيروت، من أجل الحصول على المساعدات والتوجّه بها إلى بعلبك”. وحول توزيع المساعدات عن طريق مفتي البقاع يوضح خضر “هناك شاحنتان وصلتا إلى بعلبك وتمّ وضعهما كأمانة في دار الإفتاء لأسباب لوجستيّة وغيرها من الأسباب، وبوجود رئيس بلديّة بعلبك ورئيس اتّحاد بلديّات بعلبك وإشرافهم، سُلّمت المساعدات، وتمّ توزيعها عبر دار الإفتاء، لأنّها افتتحت مراكز إيواء”.
سرقات باسم المجلس
يعلٌق الناشط السياسي الدكتور علي مراد على اقتراح ضم بعلبك لتكون ضمن مهام مجلس الجنوب وتغييب دور البلديّات. قائلًا لـ “مناطق نت”: “المخاوف من الاستغلال والتوظيف السياسيّ لهذه الأمور هو أمر صحيح حتّى إثبات العكس، فالسلطة في لبنان ومحاولة شرائها لذمم العالم وتسخير أيّ أزمة لصالحها بطريقة زبائنيّة هي القاعدة حتّى إثبات العكس. اليوم ضمّ بعلبك بالمعنى المباشر إلى مجلس الجنوب ربّما يكون له علاقة بمكاسب سياسيّة، ولا ننسى أنّها المرّة الأوّلى التي تتعرّض منطقة بعلبك والهرمل لهذا الحجم من الدمار. إذًا المسألة أنّ بعلبك الهرمل بحاجة إلى إعادة إعمار، وربط هذا الأمر بصندوق الجنوب هو أمر خاطئ”.
يضيف مراد “يجب أن نعيد النظر كلّيًّا، من أجل ضمان شفافيّة حقيقيّة لمنع ابتزاز وحصر توزيع المال في كلّ الأماكن، وبالتالي محاولة تحقيق مكتسبات سياسيّة من قبل السياسيّين في كلا المنطقتين هو حقيقة قائمة، وما سُرق باسم الجنوب وتضحيات الجنوب خلال سنوات طويلة، كان على حساب بعلبك والهرمل وعكّار وطرابلس وجرود كلّ الأقضية اللبنانيّة، الجنوب صُرف فيه ونُهب ما نهب باسم الجنوبيّين ملايين الدولارات، وبالتالي الزبائنّية في الجنوب كانت تمنح بطريقة نفعيّة لأهل المناطق والاستفادة المادّيّة، وقد حرمت بقيّة المناطق حتّى العام 2006 ، إذ لم يعد هناك أيّ مبرّر كي يبقى ما يسمى بمجلس الجنوب، لأنّ الجنوب لم يعد متساويًا مع بقيّة المناطق فحسب، بل تجاوز المناطق اللبنانيّة بالبنية التحتيّة”.
مراد: ما سُرق باسم الجنوب وتضحيات الجنوب خلال سنوات طويلة، كان على حساب بعلبك والهرمل وعكّار وطرابلس وجرود كلّ الأقضية اللبنانيّة، الجنوب صُرف فيه ونُهب ما نهب باسم الجنوبيّين ملايين الدولارات
ويتابع “اليوم المدارس والمستشفيات الفارهة التي عُمّرت في الجنوب، كانت على حساب الحدّ الأدنى من الخدمات في باقي المناطق اللبنانيّة. وغدًا إذا كانت هناك نيّة لإعادة إعمار الجنوب والبقاع والضاحية وكلّ لبنان، من غير المقبول أن يتمّ الاستناد على الأدوات نفسها التي اعتمدت، ومجلس الجنوب يجب أن يُحلّ كفكرة، قبل أن يتمّ حله كهيكل إداريّ، وهذه الزبائنيّة يجب أن تنتهي، وبالتالي حرمان بعلبك الهرمل يجب أن يتوقّف”.
واعتبر مراد أنّ “البلديّات ودورها في ظلّ الحرب، أمر مرتبط بكيفيّة نظرة الدولة بعقلها المركزيّ، بطريقة غير صحيحة حول كيفيّة التعامل مع هذه البلديّات وإدارتها، فهي من جانب مكبّلة بمستوى الرقابة العالي، وعدم حصولها على الأموال، وهذا الأمر قبل الأزمة الاقتصاديّة، إضافة إلى التمديد للبلديّات لفترة ثالثة على التوالي ما أفقدها الحالة التمثيليّة وقدرتها أو رغبتها في التحرّك”. مشيرًا إلى أنّ “مشاكل البلديّات هي اليوم بكلّ مساوئها أثبتت في كلّ مفترق خلال الأزمات الماضية اقتصاديًا وعلى مستوى النفايات وكورونا أنّها الأقدر والأفعل على التحرّك في ظلّ ضعف الصلاحّيات وحجب التمويل عنها”.
“يُنشر هذا التقرير/التحقيق/ التحقيق المصوّر بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع الأصوات المستقلّة: دعم صناعة المحتوى المبتكر والمتمحور حول المواطنين والمواطنات في الإعلام اللبناني“.