بعلبك بين السّياحتين الدينيّة والتّراثيّة
أينما حطّت بك الرحال في مدينة بعلبك، قد يبدو من شبه المستحيل أن تجد فضاءً عموميًا حرًّا، مُحايدًا، واحدًا، في هذه المدينة المكتئبة. تدور في شوارعها المتململة وزواريبها الضيقة، وتشعر وكأنك في جدارية عظيمة تفنن أصحاب التقديمات بتعليق صور السّاسة وزعماء العشائر و”الشهداء” وبطاقات النعيّ والشجن المستمر.
تتلقفك قبة المقام الشّيعي المُذهبّة والمبهرجة، على بعد كيلومترات لتلفظك عند مدخل السّوق التعس. تُحدث نفسك متسائلاً: هل كانت بعلبك يومًا ما مدينة كزموبوليتانية (ابنة العالم) تحفل بتراثٍ عالمي؟ هل هذه المدينة التّي تغص بالتاريخ وتقلباته وتناقضاته وملامحه، يومًا ما مُتحررة ومثار فضول؟ يبدو من شبه العصيّ الإجابة أو الحكم على مدينة فقدت هويتها وشُتت ثقافتها، ورُميت على هامش الاهتمام العام.
من النافل القول، أن المدينة التّاريخيّة التّي كانت منذ مطلع القرن الماضي حتّى أواخره مقصدًا للسياح والزائرين والباحثين، بات اليوم في صراع هويّة وأزمة وجوديّة. إذ لم تستطع مدينة بعلبك وعلى الضدّ من المناطق الأثريّة اللّبنانيّة أن تخلق لنفسها هويّة واضحة وتتمسك بها. وبين حركة السّياحة الأثريّة للآثار التاريخيّة (المُدرة للأرباح) الخجولة، وحركة السّياحيّة الدينيّة المستجدّة والمنحسرة في ثقافةٍ أحادّية، وجدت نفسها تتقلب من مدينة ثقافيّةٍ وفنيّةٍ ومتنوعة سياسيًّا (البعث السوري والعراقي، الناصري، والشيوعي..). إلى مدينةٍ مُتدينة و”مُتشيعة” قسرًا (تنوع دينيّ: سنيّ، شيعي، كاثوليكي). ووسط العجز العموميّ والتقصير الرسميّ، بات جليٍّا، هذا العطب والاختلال الذي أصاب المدينة على المستوى السّياحي ولاحقًا الوجوديّ.
السّياحة الأثريّة
لعبت قلعة بعلبك التّي أنشأها الفينيقيون في أوائل العام 2000 قبل الميلاد، واحتلها الإغريق لاحقًا في عام 331 قبل الميلاد، ومن ثم بعدها الرومان في القرن السادس قبل الميلاد. دورًا حيويًّا في تنشيط الحركة السّياحيّة والبحثيّة الأجنبيّة، بدايةً من الفضول الأوروبي وصولاً لمحاولات الاستثمار المستمرة في ترميم وحماية الإرث العالمي هذا والاعتراف به (والاحتفاء به). (وتتألف القلعة من “الدكة”، “الرواق المقدم “،”البهو المسد”، “الساحة الكبيرة”، “المذبح والبرج “،”معبد جوبيتر”، “معبد باخوس”، “متحف هياكل بعلبك “مسجد إبراهيم”،” القلعة العربيّة”.)
الأمر الذي استهل في القرنين الثامن والتاسع عشر، (أي في ظلّ الحكم العثماني)، بحيث توافد المستشرقون لاكتشاف بعلبك كجزء من الآثار “الغربية” في الشرق، وفي عام 1898 زار الإمبراطور الألماني غليوم الثاني بعلبك تاركاً وفداً ألمانياً علمياً للتنقيب عن الموقع الأثري وتوثيقه، كما تُشير الأبحاث العلميّة والتاريخيّة. وتدريجيًا استقطب المدينة الحركات الأجنبيّة المتطلعة لاكتشاف القلعة، إلى أن صارت وبعد تأسيس الدولة اللبنانيّة، رمزًا وطنيًا تابعًا للدولة، وقد أسهم التّرويج الثقافي والسّياحي لتكثيف وتدعيم الحركة السياحية.
ولاحقًا أواخر الخمسينات من القرن الماضي (1956)، أصبحت القلعة موقعًا لإقامة مهرجانات بعلبك الثقافية، التّي بدورها كل لها الإسهام في إصدار تشريعات ومراسيم توصي بتوسيع الطرقات وإعدادها لاستقبال زوار القلعة وباقي المواقع الطبيعيّة والأثريّة في المدينة ك “حجر الحبلى” في عين بورضاي، وحديقة رأس العين، وما يحيط القلعة وسائر المواقع السّياحيّة فضلاً عن الأسواق الشعبيّة والتراثية والأحياء المتنوعة، ذات الطابع التراثي، مثل حيّ النصارى، وأحياء القلعة. هذا فيما تمكن “الجامع الأموي الكبير” من استقطاب حركة استشراقية مهمة حينها بوصفه واحدًا من المعالم الأثرية النادرة التّي تعود إلى الفترة الأمويّة في لبنان، متميزًا بتصاميم جامعة بين الفنّ البيزنطيّ والعمارة الإسلاميّة. ويناهز عمره الألف ومائتي سنة.
توافد المستشرقون لاكتشاف بعلبك كجزء من الآثار “الغربية” في الشرق، وفي عام 1898 زار الإمبراطور الألماني غليوم الثاني بعلبك تاركاً وفداً ألمانياً علمياً للتنقيب عن الموقع الأثري وتوثيقه
الحركة السّياحيّة
وقد تبلورت الحركة السّياحيّة هذه مطلع ستينيات القرن الماضي وصولاً لأواخر الثمانيات ومطلع التسعينيات، وشهدت المدينة إقبالاً لافتًا، والمحال التّجاريّة والمؤسسات الخدماتيّة كالمطاعم والفنادق والمقاهي والحانات.. هذا الإقبال سرعان ما انحسر مع وصول المدّ الثقافي المستجد إلى مقاليد الحكم المحلي في البلدية والسّلطات المحليّة. فإبان وصول “ثورة الخميني” إلى بيوت البقاعيين رويدًا رويدًا اعتنق بعض هؤلاء العقيدة الإيرانيّة، ومع استفحال وطأة الثنائي حزب الله وحركة أمل وتأمينهم الغطاء السّياسيّ والأمنيّ للخارجين عن القانون، استعرت الخلافات العشائرية وتدهور الوضع الأمني وتبعه الاقتصادي والاجتماعي واستمر نضوج هذه الثقافة “الهجينة” (كما تُسمى في بعض الأدبيات السّياسيّة) وتوسع نفوذها، حتّى عام الحرب السّوريّة وانخراط حزب الله مع قوات الأسد في حربه على مواطنيه، فعلى جانب استقطابه للشباب البقاعي والتدابير الأمنيّة التّي فرضها حزب الله على مقام خولة بنت الحسين في قلب المدينة والحواجز الأمنيّة التّي نصبها، تأججت الأزمة الأمنيّة وأخذت طابعًا ترهيبيًا، أدى لانحدار الحركة السّياحيّة مجدّدًا وعرقلة كل المساعي لجعل المدينة متنوعة (منع بيع الكحول, وهناك متجرين فقط في المدينة وحانة في حيّ النصارى) وغيرها، أفضت لنفور السّياح الأجانب والعرب من زيارة المدينة.
السّياحة الدينيّة
واقتصرت الحركة السّياحيّة بصورة عامة على الشّق الدينيّ منها، وعمل حزب الله وأنصاره على تعزيز هذه السّياحة باستقطاب الزوار الإيرانيين والعراقيين السّوريين، ومع تكثف المساعدات، تمّ توسيع المقام الذي كان سابقًا غرفة حجريّة إلى ضريح ومعلم ديني تناهز مساحته الألفي متر مُربع، من المساحات المشاع والخاصة المُحيطة بالقلعة. وقد أشارت بعض المصادر المحليّة لكون الضريح كان في السّابق تابعًا للأوقاف السّنيّة وانتقل بعدها للأوقاف الشيعيّة، فيما نفى بعضٌ آخر صحة هذا القول.
وإن كان من الشطط والانحياز انكار أن السّياحة الدينيّة لها إسهامها في تنشيط الحركة الاقتصاديّة في بعلبك، ومن المجحف اعتبارها حجر عثرة أمام تقدم المدينة (خاصة لكون حريّة الاعتقاد والتعبير هي حقوق مكرسة دستوريًا وأخلاقيًا). لكن ما يجب تسليط الضوء عليه هو انفراد مجموعة عقائدية/ سياسيّة بدفة الحكم المحليّ تارةً وسطوتها على هويّة مدينة بأكملها تارةً أخرى. وإن كان يقع على السّلطات اللبنانيّة التّي تخاذلن مرارًا عن تأمين التوازن العقلاني والعملانيّ المطلوب. والأمر الذي تجلى بعد تراكم الفشل الذريع في كل المشاريع التّي فرضتها وأبرزها “وحدة السّياحة الثقافيّة الدينيّة” التّي أطلقتها رئيس الحكومة الأسبق سعد الدين الحريري عام 2009.