بقاعي جنوبي..
حسين حمية
“يوم القيامة قد أسامح من سبّني ومن شتمني ومن أساء لي ومن ظلمني، لكنني (بصفتي ابن حزب الله) لن أسامح كل من يتكلم بلغة بقاعي – جنوبي أو بأي كلام يثير تقسيمات مناطقية أو غير مناطقية في بيئة المقاومة، وحتى لو كنت من أهل النار (لا سمح الله) فلن أتنازل عن حقي عليه، وأدعوكم جميعا ألا تسامحوه لأنه يؤذي المقاومة”.
نُسب هذا الكلام منذ يومين للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أثناء لقاء مقفل مع محازبيه لمناسبة التحضير لمجالس عاشوراء، وقد سبق له إبان التعبئة الانتخابية أن حذّر من الخطاب المناطقي الذي يستخدمه الفريق الانتخابي المنافس للائحة الثنائي الشيعي في دائرة بعلبك الهرمل، وكانت جريدة الأخبار قد نشرت منذ مدة دراسة إسرائيلية تحض على توظيف التناقضات المناطقية بين الجنوب والبقاع في عملية إضعاف حزب الله، واستخدم رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد عبارات قاسية في توصيف المناطقية لدى إثارة التوازن المناطقي في تعيينات أمن الدولة.
مع أن نصرالله استخدم استعارة “لغة بقاعي جنوبي” التي توحي بأن “المتحدثين” بها هم من المنطقتين، إلا أن هذه “اللغة” جنوبا هي ردة فعل دفاعية بوجه الطرف الآخر، بينما استخدامها في بعلبك الهرمل له فاعلية سياسية مختلفة ويلقى استجابة في أوساط شعبية معينة لها مصلحة في إضعاف الثنائي الشيعي وتسعى لفتح منافذ لها إلى المسرح السياسي الشيعي.
ما كان لحزب الله أن يحذّر من هذه “اللغة” لولا استشعاره خطورتها الزائدة على مشروعه “المقاومة” التي هي بدورها ما كانت لتنوجد لولا تضافر مشروعين، الأول انتصار “الثورة الإسلامية” في إيران، وقبلها نجاح السيد موسى الصدر في توحيد شيعة الجنوب وشيعة البقاع في جماعة طائفية واحدة ، وعليه ينظر حزب الله ومعه أمل، إلى الخطاب المناطقي على أنه يؤسس ردّة على مشروع التوحيد الذي أنجزه الصدر وما نجم عنه من مكاسب على أكثر من صعيد.
لعب الانقطاع الجغرافي بين الجنوب وبعلبك الهرمل في تباعد شيعة هاتين المنطقتين وانقسامهما إلى جماعتين، وقد حرص حكام جبل لبنان الدروز ومن ثم حكام ميثاق 1943 (الماروني السنّي) إلى ترسيخ هذا الانقسام، فقد منع الأمير فخر الدين صهره الأمير الحرفوشي (الشيعي) من الإقامة في قب الياس وهي تقع في المنطقة الفاصلة مخافة تمدد مشروع الإمارة الحرفوشية إلى الجنوب، في حين شكّل الحضور المسيحي الكثيف نسبيا في جزين سدا او حاجزا أمام اتصال شيعة الجنوب والبقاع الشمالي.
تغلب الصدر على عوائق الجغرافيا باتصال مشاعر الحرمان والفقر بين أهالي منطقتي الجنوب وبعلبك الهرمل، فإذا كان شعار “الخوف” شاحنا للعصبية المسيحية وتوطيد وحدتها وتبرير تمسكها بأقصى ما تطاله اليد من مواقع الدولة لتبديد هذا “الخوف”، مقابل “الغبن” السنّي لتدعيم المشاركة الإسلامية في السلطة، رفع الصدر شعار “الحرمان” الشيعي، وكان هذا الشعار كفيلا بـانتاج هوية سياسية للشيعة وتحويلهم إلى طائفة بشروط النظام اللبناني لها حصة مستقلة خاصة بها خلافا للماضي.
قد تكون مشكلة البعض في الثنائي الشيعي، أنه يعتقد أن توّحد شيعة الجنوب والبقاع الشمالي قد تم بلحام العقيدة الشيعية القائمة على حب أهل البيت ومحاربة الظلم، لكن هذه ليست كل الحقيقة، لقد صنع الصدر وحدة الشيعة بالاسمنت الاجتماعي والإصلاح السياسي وهو محاربة الحرمان المشترك في لبنان عامة وبين شيعة الجنوب وبعلبك الهرمل خاصة إضافة إلى إصلاح جوانب مختلفة من النظام السياسي تؤدي إلى توزيع عادل نسبيا للثروة وتضع احتياز الوظائف والمواقع في الدولة في عهدة الكفاءة والأهلية واحترام القوانين.
لا أحد يُجادل بأن الخطاب المناطقي في إطلاقه، يختزن الكثير من التفرقة والحقد والكراهية ويضاعف من التجزئة الوطنية والمجتمعية والأهلية، خصوصا في بلد مصابة وطنيته بما هو أكثر فتكا من هذه الجرثومة، لكن بعض الخطاب المناطقي الذي تردد في بعلبك الهرمل، لا يمكن إدراجه تحت هذا العنوان، لقد كان خطابا مناطقيا استلهاميا وليس تحريضيا، والاستلهامية تنطوي على نقد بنّاء والنهج على الأجدى والأفضل، فهل هذه مناطقية إن قال أحدهم: أنظروا كيف يتصرف نواب الجنوب مع أهلهم، أنظروا ماذا فعلوا، أنظروا ماذا لديهم…؟ هذا حض على الإيجابية والاحتذاء بها، ويجب عدم الوقوع في أفخاخ التغطيات الإعلامية سواء أكانت عن جهل أو عن سوء نية.
هناك قوى وجماعات عديدة داخل لبنان وخارجه، لها مصلحة في إحداث هوّة بين شيعة الجنوب والبقاع الشمالي، ولن تتوانى في تعميقها بالحفّارة المناطقية، ومنها من يبنى رهانات سياسية كبيرة على هذه التفرقة، ومع هذا، لا يمكن أخذ من يتحدثون بالخطاب المناطقي بجريرة مصالح الآخرين ورهاناتهم، ففي بلد كلبنان، تفتقد سياساته الإنمائية والاجتماعية لكل اشكال التوازن الطبقي والمناطقي وتقوم على التمييز والمحاباة، من المتوقع ظهور اشكال اعتراضية تحت شتى المسميات بما فيها المناطقية وما دونها.