“بكرا السحب”.. موعد اللبنانيين مع الأمل
في قلب الزحام، حيث تتقاطع خطوات العابرين وتتصارع الأصوات، يقف “أبو خالد”، حاملًا دفتر أوراق اليانصيب في ملقط معدنيّ أسود، يرفع صوته مناديًا على المارّة: “يا حظّك يا حظّك، خود (خذ) ورقة وجرّب”. عيناه تجولان بين الوجوه، تبحث عن شرارة الأمل التي قد تضيء يومًا ما.
يعمد بائع اليانصيب إلى اعتماد الشوارع عينها، حيث يتقاطع مع زبائنه ممّن يعرفهم ويعرفونه، وله معهم وقفات أسبوعيّة، حين يبتاعون ورقة الحظّ، أو حين يتفحّصون تلك الورقة الكبيرة الحاملة أرقام الورقات الرابحة. لا يتمّ الأمر بشكل آليّ سريع، بل ترافقه تمتمات وهمهمات وتلاوة أدعية، وسرد أحلام منامات ترتبط بالأرقام التي ستنقله من حال إلى آخر في حال الربح. هو روتين يتجاوز العلاقة بالزبائن، ليكون متعة رصد التحوّلات البسيطة، من واجهات المتاجر إلى الثياب على حبال الغسيل، والتلامذة بمراويلهم الملوّنة، وباعة الخضار الذين يرشّون المياه فوق بضاعتهم.
بعض الناس يشترون بابتسامة، وبعضهم بِشَكّ، وآخرون بأسى. يسمع قصصًا عن أحلام كبيرة وأمانٍ صغيرة. يرى كيف أن ورقة اليانصيب بالنسبة إلى البعض هي أكثر من مجرد ورقة، إنّها رمز للأمل والتغيير الذي لن يحدث إلّا بضربة حظّ تحملها تلك الوريقات التي تتبدّل رسومها من حين إلى آخر، فتكون قلعة بعلبك أحيانًا، ثم مشهد ثلجيّ في فترة الأعياد، على سبيل المثال.
على الشاشة
كانت حلقة اليانصيب على شاشة تلفزيون لبنان بمثابة موعد أسبوعيّ مع الأمل، تجمع العائلات اللبنانيّة حول شاشات التلفزيون، تتابع بلهفة سحب الأرقام، وتحلم بحياة أفضل. حتّى أولئك الذين لم يشتروا ورقة يانصيب واحدة، كانوا يشعرون بأنّهم جزء من هذا الاحتفال الجماعيّ، وأنّ الحظّ قد يطرق بابهم في أيّ لحظة. كانت هذه الحلقة بمثابة لحظة من الوحدة الوطنيّة، إذ يتشارك الجميع في الحلم نفسه.
كانت دواليب الحظّ تدور في جوّ من الثقة والشفافيّة. كلّ تلميذة من جمعيّة المقاصد الخيريّة، وهي تقف أمام دولابها، كانت تعبّر عن إيمانها بأنّ القسمة نصيب. نظراتهنّ المتلهّفة، وحركاتهنّ البطيئة المتأنّية، كانت تعكس ثقتهنّ الكاملة في نزاهة هذه اللعبة. كانت اللجنة المشرفة تراقب كلّ حركة بعناية، والخطّاط من آل جدايل يدوّن الأرقام بالطبشور على اللوح بمهارة، ليشهد الجميع على أنّ النتيجة ستكون عادلة تمامًا. وتنتهي الحلقة مع أغنية البرنامج الشهيرة: “ياناصيب، شدّ وصيب، دوري دوري يا دواليب، بلكي منربح، بلكي منغنى، بلكي ورقتنا بتصيب”.
جاسوس زمن الحرب!
في زمن الحرب اللبنانية، كان أبو خالد يحمل على عاتقه أكثر من مجرّد بيّاع للأمل. ففي ظلّ الأجواء المشحونة بالشكوك والخوف، كان بعض الناس ينظرون إليه بحذر وتوجّس. كانوا يخشون أن يكون بائع اليانصيب المتجوّل جاسوسًا أو عميلًا لأحد الأطراف المتناحرة. كان صوته المنادي بالحظّ يثير قلقًا في نفوس البعض، وكانوا يتساءلون عن حقيقة هويته وأغراضه. لذلك كان باعة اليانصيب يفضّلون التحرّك في بيئة آمنة، يعرفونها وتعرفهم، فلا يعرّضون حياتهم للتهلكة في أماكن لا يألفونها.
شكوك
كان الشكّ يلاحق بائع الحظّ أينما ذهب. فبين الحين والآخر، كانت تصل إلى مسامعه شائعات عن بائعي يانصيب يقومون بقطع الأوراق الرابحة، كي يحتفظوا بها لأنفسهم أو لبيعها بأسعار خياليّة. هذه الشائعات كانت تؤجّج مخاوف الناس، وتزيد من حذرهم تجاهه. كان بعضهم يراقبون حركاته بدقّة، ويتساءلون عن الأوراق التي يبيعها: هل هي كلّها حقيقيّة؟ أم أنّه يخفي بعضها؟
كانت دواليب الحظّ تدور في جوّ من الثقة والشفافيّة. كلّ تلميذة من جمعيّة المقاصد الخيريّة، وهي تقف أمام دولابها، كانت تعبّر عن إيمانها بأنّ القسمة نصيب.
“بكرا السحب”
لم يكن “بكرا السحب” مجرّد نداء، بل كان لحنًا مألوفًا في شوارع المدن اللبنانيّة. ومع ذلك، لكلّ بائع نغمته الخاصّة، كلماته التي يردّدها، وطريقة أدائه التي تميّزه عن غيره. فمنهم من ينادي بصوت حادّ ومشدود، وكأنّه يعلن عن خبر عاجل، ومنهم من ينادي بصوت هادئ ومؤثّر، وكأنّه يهمس سرًّا في أذن المارّة. كان كلّ نداء يعكس شخصيّة صاحبه، وطريقته في التعامل مع الناس. لا يكتفي بائع تلك الأوراق بالنداءات المتعلّقة بعمله مباشرة، بل تراه ينادي على زبائنه بأسمائهم حين يراهم منشغلين بأعمالهم، ليشبه المسحّر في شهر رمضان، حين يخصّص الأشخاص بأسمائهم.
هديّة للبائع
كان ولا يزال من العرف المتأصّل في عالم اليانصيب أن يقدّم الفائز بالجائزة الكبرى هديّة للبائع الذي باعه الورقة الفائزة. هذه العادة، التي تجذّرت في قلوب الناس، كانت تعكس روح التضامن والتكافل. فالبائع، الذي كان أكثر من مجرّد تاجر، كان شريكًا في حلم الفائز. ولهذا كان من الطبيعيّ أن يشترك معه في فرحته. ومع ذلك، لم يكن هذا العرف ملزمًا قانونًا، وكان يعتمد بشكل كبير على شخصيّة الفائز وقيمه الأخلاقيّة. فبعض الفائزين كانوا يقدّمون هدايا سخيّة، تصل أحيانًا إلى نسبة كبيرة من قيمة الجائزة، بينما كان البعض الآخر يكتفي بهديّة رمزيّة، أو لا يقدّم أيّ هديّة على الإطلاق.
مواكبة التطوّرات
يخضع اليانصيب الوطنيّ اللبنانيّ إلى سلسلة قوانين تحدّد مختلف جوانبه من البيع والجهة المستفيدة، ونسب الأرباح، والضريبة على الفائزين، وتلزيمات الطباعة، وها هي عيّنة عن اليانصيب في “الجريدة الرسميّة”:
“بالنسبة إلى ورقة اليانصيب فقد حصل تطوّر نوعيّ على هذه الورقة خلال الأعوام الاخيرة وبشكل مضطرد، ففي حين كانت عرضة للتزوير وفقيرة في شكلها أكثر الأحيان ولا تحمل أيّة علامات فارقة طيلة الفترة السابقة، هذه الورقة أصبحت حاليًّا مختلفة نوعيًّا بحيث باتت إمكانية تزويرها شبه مستحيلة لأنّنا لجأنا إلى استعمال الحبر الذي لا يسمح بالتداول به سوى بين الدول أو الحكومات”.
وتضيف: “كذلك اصبحت تحمل رقمًا مرمّزًا (مثل الشيكات) لا يمكن معرفته إلا بواسطة القارىء الإلكترونيّ (BARRE CODE) إضافة إلى ذلك أصبح لليانصيب الوطنيّ شعار دائم يتوّج الورقة في الوسط الأعلى، وخصّص للرقم وللفئة مكان دائم وبارز وبألوان مميّزة بحيث أصبحت الورقة متميّزة، غنيّة وغير قابلة للتحوير أو التزوير بأيّ شكل من الأشكال. كما أبرزنا المناسبات الوطنيّة من خلال الرسومات المصنوعة خصّيصًا لهذه المناسبة أو تلك، كذلك عملنا على إحياء التراث، وكان ولا يزال للفنّانين التشكيليّين مساهمتهم في هذا الإطار”.
رعب اللوتو
مع ظهور لعبة “اللوتو اللبنانيّ”، تغيّرت خريطة الحظّ في البلاد. فـ “اللوتو”، بجاذبيّته وجوائزه الضخمة التي تبدّل حياة الفائز بين عشيّة وضحاها، جذب اهتمام شريحة واسعة من المجتمع. أصبحت متاجر بيع تذاكر اللوتو هي الوجهة الجديدة للحالمين بالثراء السريع، ممّا أثّر بشكل كبير في مبيعات اليانصيب التقليديّ. شعر بائعو اليانصيب وكأنّهم يعيشون في زمن آخر، زمن لم يعد فيه مكان لورقتهم البسيطة، خصوصًا أنّ الشخص الذي “يتكّس” ورقة اللوتو، يقوم هو برسم حظّه، على عكس اليانصيب الذي يفرض عليك أرقامًا مطبوعة مسبقًا.
الخطوة تمظهرت كذلك في بيع أوراق اليانصيب في ذات المتاجر والمراكز التي تبيع اللوتو، ليكون البائع منافسًا مرّتين.