بلاد الأمل وخيبته: يوم للقيامة وآخر للموت

أستيقظُ على صوت غارةٍ، أفزع، ألقي نظرةً على الخارج، أمسك الهاتف وأبحث عن خبرٍ يقين، ولكن لا شيء على مواقع التواصل الاجتماعيّ ومجموعات الأخبار يشير إلى أنّ ما سمعته كان حقيقيًّا، لا أحد يسأل ما الذي حدث وأين؟ إذًا هو مجرّد كابوسٍ تتبدّل الصور والأحداث فيه، بين موتٍ وجثثٍ وأصوات انفجارات وعويل جنازة، وبإمكاني الآن العودة إلى النوم، أو إشعال سيجارة وتشغيل أغنية عن الحبّ والأمل والأحلام الورديّة والأوطان، أو البكاء على أشياء أخرى غير تلك التي حدثت، المهمّ أن أطرد من رأسي لحظة الفزع تلك، والقلق من خسارة جديدة.
ساعات قليلة ويعلن أفيخاي أدرعي (الناطق باسم الجيش الإسرائيليّ) عن تهديدٍ جديد لضاحية بيروت، تضجّ مواقع التواصل الاجتماعيّ بالخبر، ويعلو صوت الرصاص لإخراج الناس من بيوتها، فيندفع الجميع إلى الشوارع هاربين من دائرة الخطر التي حدّدها العدوّ، بينما يتوجّه آخرون نحو الموقع الأمثل للفرجة والتقاط الصور والفيديوهات الأفضل للمشهد، وإذ ينجو الجميع من الموت في مثل هذه اللحظة، إلّا أنّها تعيدنا إلى لحظات موتٍ قديمة، إلى مشاعر الغضب والحزن والخوف التي راكمناها خلال الحرب، وتحفر في الذاكرة الجماعيّة خيبةً جديدة، عن بلادٍ يعجز أبناؤها عن ممارسة حياتهم اليوميّة، دون أن يتربّص بهم شبح الموت والخسارة.
ينتهي المشهد، ويستبدل الناس غضبهم وخوفهم بمشهدٍ لزفّة عرسٍ في الضاحية، الحدث العاديّ ما قبل الحرب أصبح اليوم أشبه بمعجزة، إنّها الرغبة الدفينة لدى المكلومين في أن يشعروا أنّ الحياة لن تتوقّف حتّى وإن كانت الحرب لم تنتهِ بعد، وأنّه لا يزال ثمّة متّسع لفرحة لا تعني الآخرين بقدر ما تعني أصحابها، لكنّها وفي ذروة الحزن تصبح ملكًا للجميع، وبإمكان الباحثين عن الأمل أن يستمدّوا من سعادة الغير ما قد يمحو عن قلوبهم آثار الخيبة، ويمسح عن أعينهم صور الماضي الأليم، ووجوه الموتى والركام الجديد.
يبدو البلد وكأنّه مقسومٌ إلى عالمين، لا يلتقيان على خطّ واحد، ولا يجتمعان على نقطة واحدة، ولا ينظر أحدهما إلى الآخر، وهي مفارقة كبيرة في بلدٍ صغير، بإمكانك معرفة كلّ أحداثه وتتبّع أخباره بعين واحدة.
تنام الضاحية ويستيقظ أهلها مذعورين على صوت انفجار في السادسة صباحًا، ليتبيّن أنّ الجيش قام بتفجير ذخائر لم تنفجر من عدوان اليوم الماضي، من دون إنذار مسبق، ومن دون إتاحة الوقت أمام الناس ليصحوا من كابوس الأمس الحقيقيّ، وقبل أن يطردوا خوفهم بأغنيات وأحلامٍ وبشمس يوم جديد، كأنّ الموت وشبحه، يسبقهم بخطوةٍ، يباغتهم في أيّ وقتٍ كان، وأينما كانوا، ويتسرّب طعمه المرّ إلى فنجان قهوتهم الصباحي، وخبز فطورهم.
في عالمٍ موازٍ
يعيش لبنان ما بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار ما لا يشبه ما عاشه في الحرب الموسّعة، حيث استطاعت الأحداث أن تفرض مناخًا واحدًا على البلاد بمختلف أطيافها، فالنزوح والقصف العنيف والمتكرّر وعدد الضحايا المرتفع، أدخل الجميع في حال من التوتّر والترقّب والقلق، أمّا اليوم، وبينما تنحسر رقعة الاستهدافات الإسرائيليّة في الجنوب غالبًا، وفي البقاع بدرجة أقلّ، ومع استمرار الحياة على ما هي عليه خارج حدود هذه المناطق وأهلها، فيبدو البلد وكأنّه مقسومٌ إلى عالمين، لا يلتقيان على خطّ واحد، ولا يجتمعان على نقطة واحدة، ولا ينظر أحدهما إلى الآخر، ولا يشغل واحدهما ما يشغل الآخر، وهي مفارقة كبيرة في بلدٍ صغير، بإمكانك معرفة كلّ أحداثه وتتبّع أخباره بعين واحدة.
ربّما يتغاضى البعض عمّا يحدث، لأن ما يحدث لا يعنيه بالأصل، ولكن، في أحيان أخرى، يصبح التجاهل وسيلةً للحفاظ على ما تبقّى للمرء من قدرته البشريّة المحدودة على التحمّل، ويعود رغمًا عنه إلى أنانيّته الفطريّة: هل أعرف الشهيد؟ هل أعرف أهله؟ هل أعرف أصدقاءه؟ إذا كانت الإجابة “لا” على كلّ تلك الأسئلة، فإذًا أتجاوز موته، وأطرد صورته من مخيّلتي بأيّ شيءٍ أمكن، وأكمل الحياة بينما يعلو صوت عويل في مكانٍ آخر، ويشيّع المفجوعون جنازته إلى مثواها الأخير، ويبدأون من بعده رحلة حزن ورثاء طويل، أعرفها ولكن لا طاقة لي على حملها إلى ذاكرتي وأحلامي.
في روايته “1984”، يتحدّث أورويل عمّا أسماه “التفكير المزدوج”، أيّ الإيمان بالفكرة ونقيضها في وقتٍ واحد، كأن تصدّق أن الحرب انتهت ولم تنتهِ، وبأنّ الأمل موجود ولكنّه في كلّ يوم يتآكل، أو بأنّ هذا الموت وما يحدث لا يعنيك، وأنت تعرف في قرارة نفسك أنّه ينفذ إلى جلدك وعظامك وقلبك، ويحفر في ذاكرتك الفرديّة حزنًا خفيفًا، ربّما لا تراه في البداية، ولكنّه ومع مرور الوقت يستولي عليك، بحيث لا تعود قادرًا على تجاهله، بحيث لا يكون باستطاعتك أن تشيح بنظرك عنه، فهو الآن يلبس وجهك أينما تذهب، انعكاسُ مرآتك، والطعم اللاذع في قهوتك الصباحيّة، والإيقاع اليائس في أغنيتك المفضّلة عن الأمل، وظلّك الثقيل الذي يخطو فوق الركام، ويمشي في الشوارع التي استطاعت أن تطرد رائحة الموت والخوف سريعًا من هوائها.
الأمل والعمل
أعلن وزير العمل محمّد حيدر عن تأجيل اجتماع لجنة المؤشّر إلى السابع من الشهر المقبل، على أمل التوصّل إلى صيغة ملائمة لرفع الحدّ الأدنى للأجور بما يتناسب والتغيّرات الاقتصاديّة التي تمرّ بها البلاد، بينما أقرّ مجلس النوّاب قرارًا يسمح لمصرف لبنان بطباعة عملات نقديّة من فئة الـ 500 ألف ومليون ليرة لتسهيل التعامل بالليرة، من دون أن يكون لهذا القرار أيّ أثر تبعات اقتصاديّة حقيقيّة، في وقتٍ فاقمت فيه الحرب الأخيرة من عمق الأزمة الاقتصاديّة، وأدّى القصف الإسرائيليّ إلى تدمير آلاف المحلّات التجاريّة والمصالح الخاصّة والمؤسّسات، وإلى تلف مساحات زراعيّة شاسعة، ما أفقد الآلاف أعمالهم ومصادر دخلهم، وحدّ من قدرتهم الإنتاجيّة وفرصهم في تأمين مصدر دخل ثابت ومناسب.
أدّت هذه العوامل مجتمعة، إلى ارتفاع منسوب البطالة في لبنان إلى 40 في المئة، وهي الأعلى بالمنطقة في الوقت الراهن، ما انعكس بشكل أكبر على فئة الشباب، إذ أعلنت منظّمة “ARENA” في تقريرٍ نشرته أخيرًا، أنّ 47 في المئة من الاتّصالات الواردة إلى الخط ّالوطنيّ اللبنانيّ للوقاية من الانتحار كانت مرتبطةً بالبطالة، وبشعور اليأس الذي يتملّك هؤلاء حول المستقبل، والقلق من القادم، إذ لا يبدو أنّ ثمّة أفقًا حقيقيًّا لهذه الأزمة التي جاءت لتعمّق وتضيف إلى تبعات الحرب النفسيّة فصلًا جديدًا، فمن كتبت له النجاة أصبح اليوم عالقًا في ضيق الاحتمالات التي يفرضها الأمر الواقع، وفي عجزٍ آخر، لا يشبه العجز أمام الموت والدمار، ولكنّه يترك في النفس خيبةً جديدةً، في بلادٍ يبدو كأنّها تجيد القيامة كلّ يومٍ كما تجيد الموت كلّ ليلة.